هل يمكن أن يوجد المسرح دون صراع؟ هل يمكن أن يحقق سحره دون أن تتشابك خيوط وجهات النظر المتباينة والأفعال المتنافرة والصراع المحتدم بين وجهة النظر ونقيضها؟ أبدا. المسرح لا يمكن أن يتواجد خارج الصراع وخارج أكثر من رغبة ووجهة نظر في الوجود والمجتمع. ولذلك كان وجوده رهينا بالديموقراطية والحرية وبحس النقد والقول والفعل والفعل المضاد. لقد جعل الإغريق القدامى من هذا الفن مجالا للتناظر ولاستعادة الواقع في صيغة المتخيل الذي لا يزيد الواقع إلا وضوحا، ولا يمنح الفرد إلا سموا عن كل ما هو عرضي من أجل أخذ مسافة للتأمل والتملي فيما هو كائن وما ينبغي أن يكون. ولذلك لم يكن من بنات الصدف أن يقترن بالديمقراطية وبدرجة محترمة من الوعي بدوره الاجتماعي والسياسي كخطاب جمالي يخاطب الحس والوجدان، ويضع تحت الضوء كل ما هو منفلت من سلطة الإدراك العقلي الصرف. الفن المسرحي من حيث هو فن، يضع الفرد في موقع يمكن أن تصبح فيه الرغبات والأحلام والإحباطات قابلة لأن ترى وتسمع حتى في أبعادها الأكثر قساوة. لذلك كانت الكتابة للمسرح من أعقد أنواع الكتابات، لأنها ترفض أن تكون صوتا واحدا، بل هي أصوات متعددة، على الكاتب أن ينحت لها شخصيات كما لو كان في كل لحظة يفكر بمنطق مغاير، وليس توزيع نفس الخطاب على شخصيات لا تحمل من هذا المعنى سوى الاسم. لم يكن المسرح ليوجد إذن دون أن يتحقق شرط الديمقراطية والحرية، ليس كقوانين مساطر، بل كسلوك سار في المجتمعات وسلوكيات الأفراد، سلوك يتمثل في القدرة على الإنصات للذوات التي يمكن أن تذوب في بوثقة الرأي الواحد والتوجه الأوحد. لقد جاء المسرح ليمنح الكائن، مهما بلغت درجة فضائله أو نقائصه، الحق في أن يجد على الركح صورته وصوته. ومثلما تمنحها له الممارسة اليومية، يمنحها له الفن المسرحي في عالم المتخيل الذي ليس في واقع الأمر سوى صورة معكوسة للحياة بكل تناقضاتها. لهذا السبب عاش رجال المسرح عبر التاريخ قمة العرفان والإعجاب وأدنى درجات الجحود وتنكر المجتمع، قمة العرفان عندما يتم الوعي بأهمية هذا الفن في مجتمع متفتح يؤمن بالحرية والاختلاف، وقمة التنكر واللامبالاة عندما يتغلب التعصب والتحجر. وكما عاش الفعل المسرحي وهجه وألقه في قلب المدن وقصور الملوك والسينيويرات والماركيزات، قدم مهربا في الساحات العامة والأماكن المغلقة متبوعا بعيون المتربصين المتوجسين من هذا الرجس التي يجرؤ على تصوير الرذيلة ونشر الغواية في مدن الكون الفاضلة. وقد عرف تاريخ المسرح وقائع مريرة نتيجة هذا التمزق الذي عاشه الفنان المسرحي بين من يرى في فنه مثلا للقيم الجمالية المثلى ومن يرى فيه مجرد لهو وتحويل لاهتمامات الناس عن المسائل الجدية، بين من يرى فيه مثالا لتجلي الحقية الإنسانية جماليا، ومن يرى فيه شغبا وخطرا على أخلاق المجتمع وسلوكاته المثالية. صراع المسرح من أجل الوجود في المجتمعات المتقدمة لم يكن إذن بالأمر الهين، بل صراع مرير وشاق، وقد مرت فترات من تاريخ هذا الفن، لم تكن تقبل فيه شهادة الممثل في العديد من محاكم أوروبا القروسطوية، بل وحتى في جزء مهم من عصر النهضة، وذلك بكل بساطة لأنه يلعب ويلهو ومن ثمة مصدر الخطر أن يصور الباطل في صيغة الحقيقة، لأنه فرد يعيش خارج مملكة الجد والصرامة والثبات على الرأي الواحد. واللهو واللعب مجرد لحظة عابرة ولا يمكن أن تكون مشروع حياة ونمط للعيش إلا على هامش العشيرة وخارج مؤسساتها. لذا عاش المسرح عندما أصبح اللعب قيمة إيجابية في المجتمعات. وغذا الشرط والمناخ اللذين يمكن أن نقبل فيهما الحقيقة مهما بلغت قساوتها دون أن نشعر بالإحراج أو الملل، ودون أن نتهم أحدا بالتشهير أو القذف أو الإساءة. لماذا؟ لأنه المسرح فقط. هو المسرح بما هو مجرد خيال ولعبة نحن متفاهمون على قواعدها، حيث يسمح الإنسان لنفسه بأن يترك أنانيته وذاتيته جانبا لكي ينصت ويرى ألم الآخرين ومعاناتهم كمادة للتأمل المقرون بلذة المعرفة. الفن المسرحي لا يمكن أن يوجد دون معاناة يخفف من وطئها شرط تعاقد مسبق وغير معلن، حيث نرى أناس بمختلف الطبائع، شريريها وخيريها، يتطاحنون على الركح مدفوعين برغبات متناقضة، يثيرون التعاطف حينا والسخرية حينا آخر... وفي هذا التطاحن، بما فيه التطاحن مع الذات، نعيش الجوانب المظلمة في الحياة تحت ضوء حقيقة الخيال، بشكل لا يعرضنا لأي خطر ولا تبعات. نشعر جميعا أننا معنيون ومتحدون في تمثل الواقع المعكوس في عالم المتخيل، الذي نحن جزء منه وقد لا نملك القدرة على الاعتراف بذلك خارج لحظة التمسرح السحرية هذه. لذلك وعندما انتبهت المجتمعات إلى أهمية هذا الفن الجميل، جعلت منه مؤسسة اجتماعية في قلب المدنية الحديثة منشأة ومحتوى. وجعلت منه قاطرة التقدم والتفتق الجمالي والثقافي... ولما تطورت وسائل الفرجة الحديثة بقي المسرح كفن عريق وحي يستهوي المؤمنين بعظمته ودوره المجتمعي ليس كفن فقط، بل كمجال للتعبير والحرية.