سبوتنيك الروسية تكشف عن شروط المغرب لعودة العلاقات مع إيران        اختفاء غامض لشاب بلجيكي في المغرب    بعد صدور مذكرتي اعتقال نتنياهو وغالان.. الرباط مطالبة بإعادة النظر في علاقاتها مع إسرائيل    قلق متزايد بشأن مصير بوعلام صنصال    ضربة عنيفة في ضاحية بيروت الجنوبية    خبراء يكشفون دلالات زيارة الرئيس الصيني للمغرب ويؤكدون اقتراب بكين من الاعتراف بمغربية الصحراء    تخليد الذكرى ال 60 لتشييد المسجد الكبير بدكار السنغالية    "السردية التاريخية الوطنية" توضع على طاولة تشريح أكاديميّين مغاربة    بعد سنوات من الحزن .. فرقة "لينكن بارك" تعود إلى الساحة بألبوم جديد        الموت يفجع الفنانة المصرية مي عزالدين    طقس السبت.. بارد في المرتفعات وهبات ريال قوية بالجنوب وسوس    كيوسك السبت | تقرير يكشف تعرض 4535 امرأة للعنف خلال سنة واحدة فقط    وسيط المملكة يستضيف لأول مرة اجتماعات مجلس إدارة المعهد الدولي للأمبودسمان    عندما تتطاول الظلال على الأهرام: عبث تنظيم الصحافة الرياضية    كندا تؤكد رصد أول إصابة بالسلالة الفرعية 1 من جدري القردة    غارات إسرائيلية تخلف 19 قتيلا في غزة    بنسعيد: المسرح قلب الثقافة النابض وأداة دبلوماسية لتصدير الثقافة المغربية    موكوينا: سيطرنا على "مباراة الديربي"    الصويرة تستضيف اليوم الوطني السادس لفائدة النزيلات    مهرجان "أجيال" بالدوحة يقرب الجمهور من أجواء أفلام "صنع في المغرب"    موتسيبي يتوقع نجاح "كان السيدات"    الرئيس الصيني يضع المغرب على قائمة الشركاء الاستراتيجيين    افتتاح أول مصنع لمجموعة MP Industry في طنجة المتوسط        خبراء: التعاون الأمني المغربي الإسباني يصد التهديد الإرهابي بضفتي المتوسط    الإكوادور تغلق "ممثلية البوليساريو".. وتطالب الانفصاليين بمغادرة البلاد    المغرب التطواني يُخصص منحة مالية للاعبيه للفوز على اتحاد طنجة    حكيمي لن يغادر حديقة الأمراء    المحكمة توزع 12 سنة سجنا على المتهمين في قضية التحرش بفتاة في طنجة    من العاصمة .. إخفاقات الحكومة وخطاياها    مجلس المنافسة يفرض غرامة ثقيلة على شركة الأدوية الأميركية العملاقة "فياتريس"        هذا ما قررته المحكمة في قضية رئيس جهة الشرق بعيوي    مندوبية التخطيط :انخفاض الاسعار بالحسيمة خلال شهر اكتوبر الماضي    لتعزيز الخدمات الصحية للقرب لفائدة ساكنة المناطق المعرضة لآثار موجات البرد: انطلاق عملية 'رعاية 2024-2025'    مجلس الحكومة يصادق على تعيين إطار ينحدر من الجديدة مديرا للمكتب الوطني المغربي للسياحة    المحكمة الجنائية الدولية تنتصر للفلسطينيين وتصدر أوامر اعتقال ضد نتنياهو ووزير حربه السابق    طبيب ينبه المغاربة لمخاطر الأنفلونزا الموسمية ويؤكد على أهمية التلقيح    توقعات أحوال الطقس غدا السبت    الأنفلونزا الموسمية: خطورتها وسبل الوقاية في ضوء توجيهات د. الطيب حمضي    الخطوط الملكية المغربية وشركة الطيران "GOL Linhas Aéreas" تبرمان اتفاقية لتقاسم الرموز    خليل حاوي : انتحار بِطَعْمِ الشعر    الغربة والتغريب..    مشروع قانون جديد لحماية التراث في المغرب: تعزيز التشريعات وصون الهوية الثقافية    "سيمو بلدي" يطرح عمله الجديد "جايا ندمانة" -فيديو-    بتعليمات ملكية.. ولي العهد يستقبل رئيس الصين بالدار البيضاء    بنما تقرر تعليق علاقاتها الدبلوماسية مع "الجمهورية الصحراوية" الوهمية    القانون المالي لا يحل جميع المشاكل المطروحة بالمغرب    لَنْ أقْتَلِعَ حُنْجُرَتِي وَلَوْ لِلْغِناءْ !    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



برؤيته التراجيدية يعيش المسرح دوما بجوهره الإنساني
كلمة بمناسبة اليوم العالمي للمسرح (27 مارس 2012)
نشر في العلم يوم 26 - 03 - 2012


التعبير عن الذات شرط إنساني
لا يستطيع العالم أن يعيش بدون فنون ،وبدون آداب،وبدون أشكال تعبيرعن الحياة،كما أنه لا يمكنه أن يتحمل الاستمرار في العيش دون قيم،وبدون حقوق أساسية تضمن له تلبية كل حاجياته ،لأن الحياة التي يحيا فيها لحظاته الممتعة،وفيها يعيش تقلباته المتوترة المتغيرة بتغير الأزمنة والأمكنة هي التي يجدها متحققة خارج الزمن الاعتيادي المحكوم بالمغالطات،والملطخ بالتزييف، والمهدد دوما بالحروب،والمعلّب بالمسخ المتجدد بالإيديولوجيات المتحركة بما تملكه دواليب التسلط فيها من قوة ردع لا تبقي ولا تدر.
هذا العالم القريب من تقلباته،والبعيد عن ذاته وحقيقته كثيرا ما يجد لنفسه مع المبدعين مكانا في الآداب،والفنون،وفي أشكال التعبير القريبة من أزمنته، والمتفاعلة مع أسئلته الوجودية التي تنصهر كلها جماليا في المسرح لتجعله عالما يتكلم لغته الخاصة بكل هذه المعطيات،ويتنفس كل يوم بمعنى وجوده فيما يكتبه المبدعون المسرحيون بمسرح كل صورة فيه إلا و تحمل دلالات السؤال حول المفارقات،والتناقضات التي تحكم العلاقات المتوترة بين الإنسان وسياقاته،وكل يوم يتجدد فيه خطابه ببنياته،وصوره،إلا و يتجدد وجوده بالسفر الإبداعي في الذات وفي العالم لفهم أسباب انكسارات تكشف عن خبايا الإحباطات التي تسعى إلى إفراغ الإنسان من إنسانيته،وتسعى إلى الرمي به في متاهات الضياع لتضعف من قدراته الفكرية،والتأملية،والتساؤلية،تسهيلا لاستسلامه للغموض القابض على مُرّ اللحظات،والمتحكم في آليات التخلص من لبسها في الزمن الضائع.
إن كل انبعاث للحياة في حياة النصوص المسرحية التي انكتبت في كل الثقافات في العالم بهذا التجدد والتحدي، إلا وهي إنجازات إبداعية محملة بأمل إرجاع الجواب الوجودي إلى سؤاله الكوني،وإعادة السؤال إلى أجوبته الممكنة،وإرجاع الوضوح إلى وضوحه، والتفكير إلى تفكيره،والإنسان إلى إنسانيته،والحيوية إلى حيويتها الفاعلة في الكتابة ليكون المسرح فعلا إنسانيا يحضر بأبعاده اللامحدودة في فضاء المكتوب،والمعروض ليكون فاعلا بمتخيله في بناء رؤيته التراجيدية للعالم، عالمه المحدود،أو عالمه المطلق،عالمه المشترك مع الناس،أو عالمه الذي يقدم أوصافه،وحالاته خارج المسلمات، والبديهيات، والمثاليات التي تسعى إلى أن تؤبد وجود الخلل في هذا العالم.
بهذا المتخيل،وبهذه الرؤية الرحبة،وباشتغالهما معا كمتخيل في الرؤية، وكرؤية في المتخيل فإنهما يتحركان في كل المجالات والقضايا المأهولة بمعاني الوجود الإنساني المحفز على أدرمة الواقع، فيساعدان على إنطاق الحكي في حوارات المتن بحيوية المتخيل،ويقوّيان من قدرة الإبداع في أزمنة المسرح لكسر المحاكاة الرتيبة الباردة،وتكسير التقليد المميت،والحدّ من كل استنساخ رتيب لكل واقع يعطي الاستمرارية للمغالطات المهيمنة على الواقع المأهول بكل المظاهر الخادعة،والمراوغة ببريق الحرية الزائفة،والتحرر الشكلي.
هذا الحضور اللافت للوعي بقضايا الإنسان في المسرح هو الذي يعيد جماليا بناء الوسائط الممكنة للتواصل بين المسرح وما يريد أن يقوله بمحاكاة مبدعة تتمثل عالمها بما تتمثله في رموز،وإشارات، وانزياحات،وقناعات ترِكّب بها كل المتناقضات ،وتبنى بها لحظة الدهشة بالمكتوب،وتؤثث بها أزمنة الغرابة بالغريب لتكوّن ذاتها بموضوعها ، وليكون وعيها بموضوع اشتغالها يعني فهم وتقديم عالم يكون أكثر قربا من العالم في نتاجه،ويكون أكثر احتكاكا واندماجا ، وانفصالا عن أزمنته، ويكون معبّرا عمّا يحمله من أسئلة وجودية تكشف عن معنى وجوده وهو يقارب معنى ما يحمله من قلق، وهلع، وغضب، وقوة، وضعف،واستسلام ومقاومة، وإدبار،وإقدام،وكرّ وفرّ، تطلعا إلى امتلاك البدائل الممكنة التي بها يبني حياة يؤسس بها مجتمعا جديدا في متخيله الجديد وهو يعبر عن الذات كشرط إنساني لوجوده الإنساني الذي يقف ضد الفراغ.
المسرح والموقف من التهافت على الفراغ
إن المسرح لا يستمر إلا ببحثه الدائم والمتجدد عن الإمتلاء المعرفي بالأسئلة الوجودية المضيّعة التي ضاعت في زحمة التهافت على كل الحالات الإزعاجية الساعية إلى تفكيك كل ارتباط بين هذا المسرح وحقوله المعرفية الثرية،والهادفة إلى شل حركة الأسئلة،والحد من انتشارها حتى لا تواجه كل الاحتمالات،فيتحول غيابها إلى أشكال مفرغة من كل رمز كان بإمكان وجود أن يقدم هويته كثقافة دلالية تبني صيرورتها الدلالية بجوهرها الإنساني.
المسرح بدون هذا الحضور المتسائل الذي يجدد أسئلته لرفض التهافت على الفراغ،ورفض الضحالة الفكرية،وبدون فعالية المتخيل في تشكيل عوالمه ، وبدون تملك القدرة على سبر غموضه لإجلاء وضوح سياقاته،وبدون حقن مواقفه بتراجيديا العالم، وبدون فهم تراجيديا الإنسان في هذا العالم،لن تكون لفعالية ما يكتب جدوى حقيقية إلا بانتقاله من مرحلة التوظيف الدلالي للسائد، والمعروف، والضحل الذي لا يقول إلا مضمونه المفهوم،إلى مستوى التوظيف الجمالي الذي يقول بتوتر مجاز حوارات، وعلامات، وإشارات جديدة تشترك كلها في تمتين العلاقة بين كل من ينخرط في العملية المسرحية،إبداعا،وتأملا،ونقدا،وتتبعا لكل الأبعاد،والحكايات،والنفسيات المشكلة لكل مكونات التغريب،والواقعية الفانتازية، واللامعنى الذي يقود إلى المعنى الذي يراهن عليه هذا المسرح،وهذا هو مكمن القضية المتعلقة بمسألة التواصل التي تقع على عاتق الممارسة المسرحية كفعل جماعي.
بهذه الممارسة المسرحية التي تقف من التهافت على الفراغ موقفا رافضا فإنها تتحول بهذا الرفض إلى مجال حيوي يفعّل اللقاء بين المرسل والمتلقي ،ويحقق التواصل الحقيقي مع العالم المتخيل،ويتواصل مع المتلقي المفترض حين يسهم بما هو جمالي في إثراء الحس الإنساني بإنسانية الإنسان، فيغني زمن تلقي المسرح بشعريات تبني عالم الجمال بجماليات العرض بما يقدمه هذا المسرح من درامات ملاحم، وكلما شط هذا المسرح عن اختياراته الفلسفية،و الفنية إلا ويصير تبسيطا سطحيا للفهم،ويصير بعيدا كل البعد عن الإشكالات المعقدة التي ترافق حياة الإنسان،وتؤثر فيه،ويصير فراغا في فراغ،ويصبح تكرارا كسولا بكتابة خالية من المعرفة،وخالية من الجدوى من التفكير،والتأمل،و التحليل،ويصير غير قادر على تركيب عالم يستطيع أن يعيش بدلالاته،ويستطيع أن يسبر غوره العميق،ويستطيع أن ينتقل من التجربة الانفعالية،المتوترة بانفعالها، ومعاناتها المحدودة، ومخاضاتها العابرة، إلى الرؤية التراجيدية للعالم لتقديم رؤية لا تعيد إنتاج ما تم إنتاجه،ولا تتماهى مع ما سبق تشكيله،ولكنها تختار ما سيكون موضوع استلهام جديد لفعل كتابة مسرحية جديدة تكوّن لنفسها نموذجا خاصا بها، نموذج له طبيعته الخاصة،وله بنيته التي لا تشبه إلا هذه الكتابة التي تكوّنه،وله كلامه الذي لا يتكلم إلا كلامه الذي يتماهى معه.
بمعنى آخر فإن هذه الممارسة المسرحية تسعى بجمالياتها الآسرة إلى ربط جسور التواصل بين المسرح ومرجعياته المختلفة الموجودة في رحم نص المؤلف،أو المتمظهرة في زمن الفرجة المسرحية، حينها سيصبح كل نص مسرحي جديد،وتصبح كل فرجة جديدة بنيات دالة تدل على المنتج، والمرجع،والجديد،والمختلف الذي يغدو موجودا ومتحققا على غير هيئة سابقة، لأن كل نص إلا ويصبح منفتحا على محتمل وممكن ومدهش من خلاله يتم اكتشاف عالم المسرح، وموقفه من التهافت على الفراغ،والرتابة،والنسخ واللصق.
ذاكرة المسرح ذاكرة إنسانية
إن غياب هذا الحضور الفاهم للعالم،والحالم بعالم أفضل، يدل على أن الممارسة المسرحية بهذا التهافت قد فقدت ذاكرتها،وفقدت أواصر روابطها مع حيوية الحياة لتصير بدون حياة، وبدون حركة،وبدون بلاغة،وبدون اكتمال،إن المسرح هو هذه الذاكرة الممتدة في كل الأزمنة،وفي كل الأمكنة،والمتحرك بذاكرة الثقافات الإنسانية،وتراثها،وهذا يعني أن المسرح أدب وفن، وفلسفة، وفكر،وجمال،ولقاء،يعيش الماضي في دلالات ما يقول،وينعش صورة الحاضر المتوتر في زمن الكتابة، ويقوم بتفعيل استشرافه للمستقبل لأنه يريد أن يكون صاحب فهم،ويكون صاحب إدراك لكل الأبعاد الزمانية في زمن الشخوص،وفي دلالات التراث،والتاريخ،والعجائبي،والرتيب،والمعنى واللامعنى، والزمن واللازمان، والواقعي واللاواقعي،والمكان واللامكان.
إنها مدارات،ومخاضات،وتأملات فعل الكتابة بفعل الحضور في بناء عالم المسرحية كما رسمت حدودها،وحريتها،ومواضيعها التي خلدت في الماضي كل التجارب المسرحية، والآن تخلد المسرح بما يقوله كمسرح متوتر المعاني،مسرح كاشف عما تحمّله الإنسان كفرد وكجماعة من أوزار الحروب، والشروخات، والحيرة القاتلة،والتقتيل الجماعي،والتهجير القسري،لأنه أراد أن يعيش بدون أقنعة في صراعه الأبدي ضد شرور السياسات الظالمة الفاسدة،وهو صراع لا يراهن فيه إلا على تغيير ما لا يتغير،وكسر ما لا يتكسر من الطابوهات،وكسر المغلق من الكلام الذي لا ينكسر،وتحقيق معنى وجوده بمعنى الحياة،ومعنى المغلق،ومعنى المتحول والمتغير.
لقد كانت الأساطير في هذه المدارات فعلا إبداعيا ملحميا متخيلا يعيد بناء علاقة متخيلة بين الإنسان والعالم المادي،والعالم المطلق،بها كانت الشخوص تنوب بصراعها عن صراع الإنسان بحثا عن الحقيقة الضائعة،أو الأزمنة الضائعة،أو البحث عن الأجوبة التي تقدم خطابات إقناعية حول معنى الوجود، ومعنى العلاقات المتوترة مع المجتمع،أو معنى العلاقة بين الإنسان والإنسان،أو العلاقة المتوترة بين الإنسان وذاته.
الأساطير هي العالم المتخيل الذي يتجدد بتجدد السياقات،ويتجدد بتجدد الحال والمحال،إنها الكون الافتراضي الذي يبنى مرجعياته بما يفكر فيه الإنسان،فصارت بمعانيها البوصلة التي توجه من أراد التعامل معها كي يتخذ من مجازها محركا لما يريد أن يبنيه من مجازات،فصارت مصادر ومراجع للثقافة المسرحية الإنسانية التي تعطي لجوهر المسرح فعاليته في الحياة،وتمدّه بإكسير الحياة في مجال الأدب،والفنون،والتواصل،حتى أن التاريخ، والمحكيات،والسرود الآسرة،وقصص الأبطال،والخرافات،غدت الآن ذاكرة حية للمسرح في العالم، إليها يعود من تستهويه غرابة الأسطورة،ووظائفها،وشكل تركيبها،وإليها يلجأ المضطر أثناء قراءة التجربة الإنسانية كما صاغتها الملاحم،والمسرحيات التي كانت بقوتها الإيحائية قادرة كالمسرح ذاته على اختراق الحدود،وكسر الحواجز،وتحدي المعيقات والموانع التي تقف أمام رواجه،لتقول أنا هنا،وصوتي هنا،وموقفي من المعيش هنا.
المسرح سيبقى في كل الأزمنة،وفي كل أعماره التخييليلة،وفي كل تجاربه ومعانيه،محسوبا على الحياة،وسيبقى رابطة قوية تمدّ علاقاتها الممكنة مع العالمين المادي والمتخيل لفهم ما يجري في عمق هذا العالم من توترات، وصراعات،بين النوازع، والميولات،والمصالح الفردية والجماعية،والأهواء،وما تحمله النفس الأمّارة بتبني كل أنواع السلوك،من حالات و مواقف تصور الذات الفردية والجماعية،إن المسرح هو المجال الذي تدخله دلالات الكتابة المستمدة من الصراع ،وتوسع من دائرة نفوده المجازي ليصير مركزا لكل التوترات، والحالات، والالتباسات، والثورات، والثورات المضادة فيتحول بدهشة ما يقول، وما يكتب،ويتكلم،إلى تاريخ للتاريخ الذي تنكتب أزمنته باللحظات العصية،وبالأحداث العنيفة،وبالاحتجاج المسموع، الذي يُعلي صوته بما تقوله الأسطورة في حواراته،وأحداثه،وبما يقوله الواقعي في واقعيته،وبما يقوله العبثي في عبثيته،وبما يقوله السريالي في سرياليته ،وبما يقوله المفهوم وغير مفهوم في خطاباته وصوره وعروضه،وفرجاته،لأن كل أعماره بما يقوله هي مواقفه المعلنة والمضمرة من العالم،ومن الجماعة،ومن الذهنيات،بها يتخذ هيأته وصورته ومعناه من مبناه التراجيدي،أو الكوميدي،أو يتخذ شكله من كل الأجناس الأخرى المتمردة على هذا المبنى كي تتخذ أشكالا و توصيفاته وتسميات و أسماء مختلفة، لكنها تبقى في بداية ونهاية المطاف هي المسرح الذي يجرب تشكيله بخصوصياته الجديدة وبنياته المتحولة.
لماذا يظل وجود هذا المسرح بكل تنوعه،وبكل تياراته،ومرجعياته،وأجناسه الأدبية والفنية المختلفة،صامتا أو متكلما،فرديا أو جماعيا، متحركا بجرأته الظاهرة والخفية وهي تتحدث عن القدر، والصراع، والحروب، والحلم بالسلم، والتطلع إلى الوصول إلى الجدوى من الحياة الممكنة؟ لماذا هذا المسرح فن خالد هدفه التواصل مع الذات ومع العالم؟
المسرح في مواجهة العتمات العنصرية
لقد سار هذا المسرح مع اختلاف لغاته، وبتعدد علاماته، وبعمق معاناته، انتماء إلى الموقف الإنساني الذي يمج مظاهر العنصرية،ويشجب الميز العنصري،ويحرض على الخروج من عتمات الإيديولوجيات الديكتاتورية ليكون بعده الإنساني راسخا بمكونات مختلفة هي جامع كل الفنون التي تصوغ جوهره الإنساني بمتعة الأدبي في النص الدرامي، وببهاء العرض وجمالياته في زمن اللقاء الحي بين الركح والمتلقي.
لقد أصبح المسرح ذا بعد إنساني ينوب عن غياب ما هو إنساني في الواقع ليكتبه في زمانه الإبداعي بجوهر إنساني يخترق به الحدود، ويكسر الموانع، ويكسر عسر تشكيل واقعه التراجيدي بمهارات متجددة يسهل بها قراءة العالم، وفهم جوانية الإنسان،وذاكرته،وتاريخه،وتعبده،وإيمانه،وشكّه،وأسئلته الوجودية.
هكذا يكتب المسرح حياته بالتحدي وهو يصوغ عوالمه بتجديد علاماته، أثناء تطويع خطابه لخصوصيات المسرح ليكون جنسا أدبيا وفنيا منفتحا على كل الفنون التي تسعفه ،وتساعده على التغيير،وتيسر له إبلاغ خطابه،وتواصله مع العالم،وهو كلما شكل تجربة مسرحية في مسرحه بهذه الكتابة،أو شكل تيارا تجريبيا فيه،أو كتب سؤالا حول نظرية من نظريات مسيراته إلا ويبدأ معه المسرحيون في إثبات معاني العلامات،والدلالات، ويشرعون في الكشف عن درامية المكتوب لتيسير مسرحة المتحول وفق مسرحة الكتابة بالمرجعيات والمصادر التي تذوب في التخييل،أو أن هذا التخييل يدخل في لعبة النفي والإثبات،القبول والرفض،إمعانا في تأسيس الرؤية التراجيدية للعالم بالثقافات المتحاورة،والأفكار المتفاعلة،مما أعطى ويعطي دوما نظريات عديدة حول المسرح كلها تسعى إلى التعامل بشاعرية شفيفة مع الأحياز التي تكون فراغا محايدا،بدون معنى،لكنه يصير ذا معنى يبعث الحيوية والحياة في وحشة الفضاء الذي يصير رحما تولد منه شعريات ودرامية الدراما.
جغرافيا توجد في العالم قارات تحكمها خصوصياتها الجغرافية،وتصبغ على إنسانها صفات الانتماء إلى المكان،وتصبغ عليه كل ألوان المكان،وتحدد له ما يفكر به،وما يتطلع إلى تحقيقه،وتمده بالقوة التي يصنع بها قدره في مجتمعه،وتكسبه المهارات التي يخلق بها كل المظاهر الحياتية التي لا تقبل التغيير،ولا ترضى بتغيير الثوابت،لكن حين يحكم الخلل هذه القارات، اقتصاديا، واجتماعيا،ونفسيا، وثقافيا،ويدخل على خط الفهم فعل الكتابة،فإن الإبداع يصير بحثا عن الثوابت المشتركة بين الثقافات،والشعوب ويصبح موضوع المسرح هو سؤاله المتجدد بسؤال: كم من الحضارات في هذه الجغرافات دمرت بآسم الديمقراطية،وكم من المدن انحرقت بشهوة تلذذية أنانية أشبعت سادية من أحرقها،وكم من الشعوب تشردت بآسم الأفكار الكاذبة،والبهتان الإيديولوجي الذي كانت مصلحته فوق مصلحة الجميع،به تستغل الجميع،وبه تستنزف الجميع،وكم من الدكتاتوريات تحالفت مع دمارها الداخلي لتدمير ما تبقى في العالم من ألفة و بهاء،وكم من الحضارات بادت،ودرست بقوة الظلم والطغيان،والبطش،والقتل على الهوية،أو القتل بسبب الاختلاف في الرأي،أوالاختلاف في المعتقد،أو الاختلاف حتى في حالات الصمت،وكم من جحافل هذه الدكتاتوريات عدلت من وسائل الدمار، وطورتها بآسم التقدم العلمي والتكنولوجي لتسخره لإبادة أكبر عدد من الأبرياء بقوة جديدة تسهّل الاستيلاء على القارات الخمس التي بدأت في عرف المتجبرين تنتمي إلى قرية واحدة صغيرة يجب أن تكون تحت سيطرتها بعد أن لم تعد تعرف الحدود بين أمصارها،وثقافاتها،هذه السيطرة التي صارت لا تعترف إلا بالعولمة الجديدة الرامية إلى بناء العالم الحر، التي هندست خرائطه الربيعية أو الخريفية أو الصيفية لشعوب هذه القارات بالعنف الذي قلب موازين العلاقات بين الشعوب،والأنظمة،والثقافات،فضاعت الكثير من هذه الشعوب في فوضى التغيير المزعوم الذي سمي إيديولوجيا وسياسيا وعسكريا وحتى اقتصاديا من أجل إعادة إعمار ما تم تخريبه بالفوضى المنظمة.
لكن هذه القارات كثيرا ما تتخذ جغرافيات لا حصر لها ولا حدود، خصوصا عندما يكون الأدب،والفنون،وأشكال التغيير،والتعبير كتابة عن خلل العالم تبدأ حياتها من المحدد وتتوخى الوصول إلى المطلق،وتبدأ من جواب الكائن،وتبحث عن كل سؤال تكسر به ثبات الحالات،والأوضاع،والقلق،لمعرفة خلفيات هذه الفوضى ،ومعرفة أسرار هذا المنظم.
الجغرافيات هنا تصير أحيازا تحتوي على ما يفكر فيه إنسان هذه القارات بما يكتب،وبما يقدم من فنون استعراضية،وتراث محكي،واحتفالات في الساحات والميادين، تؤكد على وجوده بما هو موجود،وبما هو غير موجود،ولعل أقوى اللحظات التي تعطي للأدب وللفنون أدبيتهما هو أن العديد من التجارب التي سكنها هذا الجوهر الإنساني قد انتقلت من محليتها المغلقة لتصير ملكا إنسانيا للبشرية، لأنها لامست هذا الجوهر بأسئلتها الوجودية ،واختفت معها جنسية الانتماء إلى هذه القارات،أو الانتماء إلى هذه الجغرافيات المكانية لتنتسب بقوة الإبداع إلى العالم المشترك الذي ينضوي تحت لوائه كل من كتب جوهر الإنسان،وجوهر العالم في هذا المسرح،وفي فضاءاته.
الفضاء المحايد والفضاء الحيوي
الفضاء دوما يبقى محايدا،وغير منتم إلى معنى،أو دلالات،فراغه هو فضاء بلا إيقاع،وبدون سياق إلا سياق الصمت المطبق على المكان،حياده لا يرى إلا كونه غير مؤهل للكلام،لأن من ينوب عنه في الكلام،هو رتابة صامتة منغلقة على الفراغ،لكن حين يقتحم الكلام،والنور،والجسد،والصور،وإيقاعات الجسد، والموسيقى،فإن الفراغ ينسحب من الفضاء،ويتضاءل أمام حيوية الحياة، ويتقلص ليدع للمكان أبعاده تتشكل بآمتدادات الحركة،وفعل تحريك الحركة بالعلامات، والشعارات،والأغاني،والتمثيل التلقائي،والتشخيص العفوي الذي عرفته بشائر تغيير البنيات المهترئة الفاشلة في رصد الواقع الذي يحرك الوعي الفني ويحركه الوعي التاريخي .
في الفضاء كل علامة إلا وتنهض بنهوض علامات أخرى،وكل أيقونة إلا وتتوالد مع أيقونات أخرى،وكل رغبة في الكلام،وفي الارتجال المنظم إلا وتتولد منه رغبات،وأفعال،وأبعاد يختارها الاختيار اللسني،والعلاماتي ليكوّنوا انسجاما يقول حقيقته باللعب المسرحي، أو يكون تآلفا يرفض حقائق أخرى لا تتلاءم مع حقيقته.
اللعب في الفضاء الدرامي يصير مُهندسا بالعلامات التي هندسته بالأفعال، وبالأحداث،والأحداث تصير هي القناع،وغير القناع،معنى الفضاء هو ما يقوله اللعب المسرحي فتتشخصن فيه الأبعاد لمعرفة ما يحدث فيه من أحداث.باللعب في الفضاء،لا تفتأ العلامات تبني بنية المتخيل في الفراغ ليصير مأهولا بالحياة، وحيّا بها،ومتفاعلا معها يتخذ من النص،ومن الجسد،ومن الصوت وإمكانات لاستمرار الامتلاء في الفراغ الذي تنفيه حياة الفرجة،لأن الامتلاء ،بالعلامات هي في الأصل معاني يتمّ إرسلها إلى المتلقي.
هنا هل يمكن أن نتحدث عن مسرح عربي ضمن هذه الجغرافيات داخل قارته الإفريقية،أو الأسيوية،أو العالمية؟
مع هذا الطرح،ومن هذا السؤال نقول إن العديد من المسرحيات كتبت نتيجة ما عرفه العالم العربي من حراك سياسي وثقافي،وصراع على السلطة، وأن العديد من التجارب المسرحية قد جعلت من الجوهر الإنساني قضية مؤدلجة أضفى عليها رجال المسرح في الوطن العربي الكثير من التصورات،وهم يعيشون تفاعلهم مع الواقع،ويتفاعلون مع العالم ومستجداته،ويكتشفون آليات اشتغال طرق الإخراج مستفيدين من أساليب تجويد الكتابة المسرحية بما يليق بفعل التخييل والواقع الذي يتحول مع التخييل إلى كتابة مسرحية تريد أن تتحدث عن هذا الحراك،وهذا التغيير،علاوة على العيش بآستمرار صدمتهم مع الواقع العنيد،ويستبشرون خيرا بسقوط العديد من الأنظمة الفاسدة، لكتابة ما يناسب سياقاتهم المتغيرة،و يتجاوزونها بعد فهمها، ويختلفون عنها لأن الاختلاف ضروري مع ما يظهر ويتجلى منها في الواقع.
مدارات المسرح في العالم العربي،ووضعيته،وممارسته،وشكل وجوده صارت وضعيات محكومة بما يحكم العالم من صراعات،واختيارات إيديولوجية وانغلاقية تحكمها ذهنية الإقصاء،والتحريم،والتقليص من فعالية الأدب،والفنون، في عالم صار متطورا،و سريع التغيّر،لكنه في جانب آخر،وفي سياقات أخرى صار يبني عالم ما بعد الحداثة لتحدي كل ذهنيات الإقصاء.
العالم الآن يعيش صراعا واضحا بين الانغلاق والانفتاح،بين الاختلاف والائتلاف،بين التعدد والوحدة،بين البعد الواحد والأبعاد المتعددة،بين حرية الإنسان وتغييب الحرية في المواطنة،والحق في التعبير،والعيش الكريم، لكن ما خفي كان أعظم من الظاهر والرائج والمتداول في هذا العالم.لأن الحقيقة التي لا يختلف فيها اثنان هي أن عالما يغيب عنه التواصل،واللقاء،ورواج الفنون الراقية،ويغيب عنه الحفاظ على السلم ،وعلى التواصل خارج الخراب الذي تحدثه الحروب،والغزو المدمر للحضارات،هو عالم يقصي الإنسان،إما بسبب عقيدته،أوبسبب اختلافه،أو لونه، أو بسبب موقفه الرافض لكل من يسلبه حقوقه،أو يصادر حريته في التعبير.
يبقى المسرح فنا خالدا، ويبقى مفتاحا للعلوم، ومفتاحا للآداب،لأنه كان وسيظل العالم المتخيل الذي يُفهم به العالم،ويتم بواسطته الاقتراب من غموض الشك وأسباب الشك واليقين المهزوز. حتى أن كل ضروب القراءات،وكل أنواع التعبير لا يمكن أن تنجلى، وتفصح عن الزمن المسرحي الذي هو بالضرورة حياة الإنسان في هذا المتخيل الآسر إلا بالنظرة المستشرفة للأزمنة العربية التي تكون نسيج حياته بأفق مفترض لكتابة تمهد لآفاق أخرى يجهلها عالم الكتابة الدرامية،ولا يعلم حدودها،فيكون الأفق في إبداع المسرح كتابة مستقبلية تقرأ ما يقع دون التخلي عن نظرتها الإنسانية،إنها رموز تولد رموزا أخرى،وعلامات تعشق العلامات المغامرة التي تتآلف مع الحياة،وتختلف مع خللها،إنها علامات تسعى إلى أن تتمكن من أن تصل إلى جوهر مفقود،وحين تقترب من هذا الجوهر بعمقه الإنساني فإنها ستكتسب قوة خلوده،وخلودها لا يمكن أن يدخل إلا ضمن الأدب الخالد.
مكناس المغرب في 27 مارس 2012


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.