من المعلوم أن المسرح الأمازيغي في المغرب قد تأثر بدوره كباقي المسارح في العالم بالاتجاهات الدرامية المعروفة في أوروبا، والتي تتمثل في الكلاسيكية، والواقعية، والطبيعية، والرومانسية ، والرمزية، والتكعيبية، والتعبيرية ، والمستقبلية، والسريالية ، والوجودية، والعبثية ، الخ... بيد أن المسرح الأمازيغي بقي لوقت طويل يحاكي الاتجاه الكلاسيكي، والاتجاه الواقعي ، والاتجاه الطبيعي، محافظا على الوحدات الأرسطية المثبتة في كتاب « فن الشعر»، والمتمثلة في وحدة الحدث، ووحدة المكان، ووحدة الزمان. إلا أن المسرح الأمازيغي في العقود الأخيرة من القرن العشرين وبداية سنوات الألفية الثالثة، قد انتقل من مرحلة المحاكاة والتقليد إلى مرحلة التجريب والتجريد والتأصيل باحثا عن أشكال درامية وطرائق مسرحية جديدة، تكسبه الحداثة والطليعية والانزياح عن الطرائق الفنية والجمالية التقليدية. وكل ذلك مسايرة لما عرفه المسرح الغربي والعربي على حد سواء في فترتنا المعاصرة من تجديد وتأسيس حداثي على مستوى البيانات والكتابات التنظيرية والتطبيقات المسرحية الميزانسينية. إذن، ماهي مظاهر التجريب وتجلياته الدلالية وآلياته الفنية في المسرح الأمازيغي المغربي؟ وماهي أهم الاتجاهات والمدارس التجديدية التي تأثر بها المسرح الأمازيغي ؟ وهل حقق هذا المسرح إضافات حقيقية لتأكيد خصوصياته وإبراز هويته الحقيقية وأصالته الفطرية؟ هذا ما سندرسه في ورقتنا التي بين أيديكم. مرحلة التجريب في المسرح الأمازيغي: عندما كان مسرح الهواة في سنوات السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين يخوض في مجال التنظير المسرحي، وإصدار البيانات الدرامية، ويجرب طرائق جديدة في الإخراج الميزانسيني والتشكيل السينوغرافي والتمثيل المسرحي مع المسرح الاحتفالي، والمسرح الثالث، والمسرح الفردي، ومسرح النقد والشهادة، ومسرح الكوميديا الصادمة، ومسرح المرحلة.. فان المسرح الأمازيغي كان يبحث عن نفسه، ويبحث عن الاعتراف الذاتي والغيري، ويفتش عن هويته في ظروف سياسية وإيديولوجية صعبة، وكان يحاول أن يؤسس لنفسه تاريخ ميلاده الجديد على الرغم من قدم هذا المسرح الذي ظهر مع المرحلة اللاتينية. وفي هذه الفترة بالذات، سينطلق المسرح الأمازيغي في تقديم عروضه الدرامية بشكل متعثر وساذج بسبب نقص في الثقافة المسرحية لدى المشرفين على هذا المسرح تمثيلا وإخراجا وكتابة وتأثيثا، وانعدام التكوين والتأطير ، وغياب الورشات المسرحية التي يمكن الاستفادة منها كما هو حال « فرقة المعمورة» التي استفادت كثيرا من الدروس التي كانت تسهر عليها وزارة الشبيبة والرياضة بعد الاستقلال مباشرة. ناهيك عن كون الأمازيغية كانت في ذلك الوقت تثير قلق السلطات الحاكمة في عهد المرحوم الحسن الثاني؛ لما لهذه اللغة من حمولات تاريخية وسياسية واجتماعية وثقافية وإيديولوجية. لذا، حوصرت اللغة الأمازيغية رسميا ومؤسساتيا ، كما حوصرت ثقافيا وفنيا وجماليا. وبناء على ما سبق، سيعرف المسرح الأمازيغي بداياته الأولى بعد الاستقلال، وسينطلق بشكل طبيعي مع سنوات السبعين والثمانين من القرن الماضي ليقدم مجموعة من العروض المسرحية ذات الطابع الكلاسيكي والواقعي والطبيعي والتاريخي مع احترام الوحدات الأرسطية الثلاث. هذا، وقد تناول هذا المسرح مجموعة من المواضيع التي تناولها المسرح المغربي في عمومه كالمواضيع الاجتماعية والسياسية والثقافية والدينية والوطنية والقومية والإنسانية مع التركيز على الخصوصيات الثقافية الأمازيغية المحلية التي لها علاقة بالهوية والعادات والتقاليد والأعراف. بيد أن التجريب المسرحي الأمازيغي في الحقيقة لم يتم إلا في سنوات التسعين من القرن العشرين وسنوات الألفية الثالثة ، بعد أن دخل مسرح الهواة في مرحلة النسيان والتراجع والركود والكساد واجترار نفس المواضيع بنفس القوالب الميزانسينية، وإعادتها ركحيا بنفس الرؤى السينوغرافية. اتجاهات التجريب في المسرح الأمازيغي عرف المسرح الأمازيغي المغربي منذ مرحلة التجريب مجموعة من الاتجاهات الدرامية ذات البعد الحداثي الطليعي والتجديدي. ومن هذه الاتجاهات الفنية والجمالية والفلسفية في المجال المسرحي، نذكر على سبيل التمثيل لا على سبيل القيد والحصر: 1- الاتجاه الرومانسي يعد المذهب الرومانسي الذي ظهر في ثلاثينيات القرن التاسع عشر أول اتجاه فني وجمالي يتمرد عن قواعد المسرح الكلاسيكي، وينزاح عن مبادئ أرسطو المسرحية. إذ أعلن فيكتور هيجو Victor Hugoتلك الثورة المسرحية التجريبية في مسرحية « هرناني» Hernani ، حينما أعلن ثورته العارمة على الوحدات الثلاث، ورفضه لصفاء الجنس الأدبي الدرامي ونقائه النوعي من خلال الجمع الممكن بين مجموعة من الأنواع الدرامية داخل عمل ركحي واحد. ومن أهم المسرحيات الأمازيغية التي تمثلت هذا الاتجاه إلى حد ما مسرحية» ثازيري ثاميري» لفاروق أزنابط ، والذي جمع فيها بين حدثين متداخلين ومتناوبين سينوغرافيا، ألا وهما: حدث الحب والهوى الذين جمع بين عاشقين أمازيغيين في وهاد الريف، وحدث المشاركة في الحرب الأهلية إلى جانب فرانكو من أجل القضاء على اليسار الجمهوري، وتأمين لقمة العيش، وتوفير النقود من أجل الزواج. كما تجري الأحداث في مكانين وزمنين متقابلين: فعلى مستوى المكان، هناك فضاء الريف وفضاء إسبانيا، ومن حيث الزمان، ثمة فصل الصيف وغير الصيف. وقد نجح المخرج فاروق أزنابط في إمتاع الجمهور بهذا العرض المسرحي الجميل ،وتسليته ذهنيا ووجدانيا وحركيا. 2- الاتجاه الرمزي يعتمد الاتجاه الرمزي على الإيمان بأن الفن من أجل الفن، مع توظيف الرموز الفردية والجماعية، والابتعاد عن المحاكاة المباشرة، وتشغيل الإيحاء والشاعرية ، واستخدام لغة الميم والرقص والصمت والإيقاع الموسيقي، والانطلاق من الخيال والتخييل في التعبير . علاوة على الاستفادة من عالم التصوف الروحاني، والانفتاح على سريالية الأحلام والجنون والهستيريا، وتوظيف بلاغة الاستعارات والمجازات والكنايات الرمزية الحبلى بالإشارات السيميائية والعلامات التضمينية الموحية. ومن أهم المسرحيين الرمزيين في الغرب نستحضر كلا من: الشاعر مالارمي، وموريس ميترلينك، وشترندبرج، وهنريك إبسن، وويليام بتلر ييتس، و سينج، وأندريه أوبي، وجان برنار... ومن أهم المسرحيات الرمزية الأمازيغية التي تندرج ضمن هذا الاتجاه نستدعي : مسرحية» تاسيرث/ الطاحونة» لسعيد المرسي التي تستعمل الرموز والعلامات والإشارات الموحية من خلال تجاوز الخطاب التقريري المباشر، فتحضر» تاسيرت / الطاحونة» في المسرحية باعتبارها رمزا للأجداد والتاريخ والأصالة والهوية والكينونة الأمازيغية، ودليلا على وجود الإنسان الأمازيغي الشهم، واستمراره في التاريخ والواقع إلى يومنا هذا. هذا، وترد مسرحية» تشومعات/ الشمعة» لعبد الواحد الزوكي لتجسيد حالة اليتم الأمازيغي، والبحث عن حقيقة الإنسان في عالم التهميش والإقصاء والاغتراب الذاتي والمكاني. ونفس المعنى تلتقطه مسرحية»تيوجيرت / اليتيمة» لمحمد بنسعيد، والتي بدورها تعزف على إيقاع الهوية، والبحث عن الكينونة والإنسية الأمازيغية، واستنكار سياسة التهميش والإقصاء والنبذ، وتجسيد صراع السلطة والإنسان الأمازيغي من خلال ثنائية الخير والشر. وتبلغ مسرحية» ثيرجا سثنيفست/ أحلام من رماد» لمحمد بنعيسى درجة عالية من الرمزية والشاعرية ، حيث ترد المسرحية في قالب شعري حواري مفعم بالسوداوية والجنائزية المأساوية للتعبير عن واقع أمازيغي منبطح في عالم منحط يفتقد القيم الأصيلة، وتطغى عليه القيم الكمية التبادلية التي حولته إلى عالم وحشي قاتم. وتحضر الشاعرية الرمزية أيضا في مسرحية» ثاوات ءيمظران/ باب القبور» للمخرجين : محمد بنسعيد وأحمد جويني. والمسرحية في جوهرها الدرامي انتقاد للمجتمع الأمازيغي على جميع الأصعدة والمستويات، وتسفيه للوعي المغلوط والسائد لدى الإنسان الأمازيغي من خلال التأشير على ضرورة الحركة والنهوض بدلا من الارتكان إلى الصمت والموت. 3- الاتجاه الملحمي ظهر الاتجاه الملحمي مع مجموعة من المخرجين الألمان كبرتولد بريخت، وبسكاتور، وبيتر فايس... وهو اتجاه مسرحي ثوري لا أرسطي، يهتم بتنوير الراصد المتفرج عبر توظيف نظرية التغريب واللاإدماج، وإبعاد الممثل عن التقمص والإيهام المسرحي كما لدى أرسطو وستانسلافسكي. بمعنى أن المسرح الملحمي يخاطب العقل أكثر مما يخاطب العاطفة، ويعمد إلى تكسير الجدار الرابع، وتحفيز المتفرج على إبداء رأيه بكل صراحة؛ لأن المسرح أداة لتغيير العالم وتثويره بدلا من تفسيره فقط. كما يرتكز المسرح الملحمي على توظيف الحبكات الدرامية المركبة، واستعمال تقنيات التشكيل والإعلام والسينما، والاستعانة بوسائل التكنولوجيا المعاصرة، وتشغيل الحكي والسرد والشعر، وقراءة قصاصات الأخبار، واستعمال اللافتات والشعارات السياسية ذات البعد الثوري والمنحى المادي الجدلي. وتحضر البريختية في كثير من المسرحيات الأمازيغية التجريبية من خلال توظيف السينما وتكسير الجدار الرابع كما في مسرحية» ثاسيرت/ الطاحونة» لسعيد المرسي، ومسرحية « ثيارجا برا ثيري» للمخرج الطيب المعاش، وهذه المسرحية ليست عادية أو مباشرة كالمسرحيات الواقعية التي نجدها عند المخرج فؤاد أزروال، والمخرج فخر الدين العمراني ، والمخرج فاروق ازنابط ، بل هي مسرحية حداثية تنحو منحى التجريب والتحديث، وتحمل علامات سيميائية مفتوحة وموحية، ولايمكن فهمها إلا من قبل الذين يستطيعون تفكيك العلامات البصرية السيميائية الدرامية سواء أكانت لفظية أم غير لفظية. وما يهمنا في هذه المسرحية أنها تستند إلى تكسير الجدار الرابع، واستثمار تقنيات بريخت في تشغيل المرويات السردية، وتضمين الأشعار، واعتماد المنولوجات المباشرة قصد التواصل مع الجمهور. كما ترتكن المسرحية إلى توظيف تقنية الراوي le ch?ur اليوناني لسرد القصة وتمطيطها عبر مشاهد فرجوية، تم تجسيدها من قبل الممثلين الرئيسيين بطريقة ميزانسينية حركية وجسدية فوق الركح. 4- الاتجاه السريالي ظهر الاتجاه السريالي في 1924م مع مجموعة من الدراميين والشعراء والفنانين التشكيليين كأندري بروتون، ولوي أراغون، وبول إيلوار، وبابلو بيكاسو، وسالفادور دالي، وأنطونان أرطو، وأندري ماسون، وبيريه، وبيكابيا، وجيوم أبولينير صاحب أولى مسرحية سريالية» أثداء تيريسياس» التي بدأ في تأليفها سنة 1917م... ومن أهم مبادئ الحركة السريالية: التغني باللاوعي واللاشعور ، والثورة على العقل والمنطق والواقع الخارجي، والاهتمام بالباطن الروحاني والصوفي والميتافيزيقي، والانسياق وراء الأحلام والهذيان والجنون، والإيمان بالغموض والغرابة وهلوسات الذات والباطن. ومن هنا، فالمسرح السريالي هو مسرح الأحلام الفردية، واستكناه اللاشعور الداخلي، واستنطاق المكبوتات اللاواعية المضمرة، والإكثار من الأشكال والحركات بدلا من استخدام الكلمة واللغة الحوارية. وتحضر السريالية في مجموعة من النصوص المسرحية الأمازيغية الحداثية بشكل من الأشكال كمسرحية « ثيارجا بلا ثيري» للمخرج الطيب المعاش، حيث ترد هذه المسرحية الفلسفية في قالب سوداوي تراجيدي سريالي يقوم على استنطاق الأحلام ، واستقطار اللاشعور الفردي ، والارتماء في أحضان الهذيان والجنون ، والانسياق وراء الصراخ والضحك والعبث. ومن الأدلة المحيلة أيضا على سريالية العرض المسرحي اللجوء إلى خطاب الصمت والصراخ، واستعمال الضحك بشكل جنوني هستيري للتعبير عن سيزيفية الإنسان المستلب في واقعنا الرقمي المشيإ، وتصوير مدى انسحاقه أمام متاريس السلطة اللعينة، والتعبير عن إحساسه بالغرابة والوحدة ، والتأكيد على ضياع الحقيقة في واقع الوعي والعقل والمنطق. 5- الاتجاه التجريدي لم يظهر الاتجاه التجريدي في مجال الفنون التشكيلية إلا مع بداية القرن العشرين من أجل الانسلاخ على الواقع ، وعدم التقيد بمدإ المحاكاة المباشرة. ومن أهم رواده الرسام الروسي فاسيلي كندانسكي Wassily Kandinsky صاحب الاتجاه التجريدي الشاعري، والهولندي بييت موندريان Piet Mondrian وكازمير ماليفيتش Kasimir Malevitch صاحبا التجريدية الهندسية. ومن ثم، فالتجريدية تتخلى عن تصوير العالم الخارجي المرئي، وتعوض ذلك بالرؤى الداخلية الجوانية والتصورات الخيالية الشخصية للمبدع الفنان. وذلك، باعتماد الألوان والخطوط والأشكال بدون أن تكون لها أدنى صلة بالعالم المادي الحسي. وبعد ذلك، تتراكب هذه العناصر في اللوحة الفنية ضمن علاقات شكلية وتشكيلية قائمة على التآلف أو التنافر من خلال اللعب على قوانين التضاد والتقابل والتماثل والتشتت... ومن أهم المخرجين المسرحيين الأمازيغيين الذين انساقوا وراء موضة التجريد نستحضر كلا من : محمد بنعيسى، ومحمد بنسعيد، وأحمد جويني، و شعيب المسعودي الذي أبدع مجموعة من المسرحيات الرمزية ذات الطابع التجريدي كمسرحية» أرباع أوجانا ياوظاد/ ربع السماء قد سقط» لتصوير آثار الزلزال المدمر بالحسيمة، ومسرحية» تمورغي/ الجراد» التي يصور فيها واقع الإنسان الأمازيغي، وانهياره أمام متاريس التغريب و التهميش ، وتجسيد آثار الاستبداد على الإنسان الأمازيغي في تشكيل وعيه الزائف والمغلوط والسائد. ويتجلى التجريد الدرامي أيضا في تأثيث المخرج للركح المسرحي بواسطة جداريات فوضوية عابثة في شكل لوحات تشكيلية غامضة مليئة بالنفايات تارة، واستعمال الأشكال والخطوط والألوان السوداء للتأشير على صراع الخير والشر تارة أخرى. ومن ثم، تصبح السينوغرافيا المسرحية عند شعيب المسعودي مليئة بالرموز والعلامات المجردة الموحية التي تتخطى الواقع المرئي ، وتتجاوزه خرقا وانزياحا. 6- الاتجاه الوجودي ظهر المسرح الوجودي في بدايات القرن العشرين، وبالضبط ما بين الحربين العالميتين، للتنديد بنتائج العقلانية الغربية المدمرة للوجود الإنساني. وقد ظهر هذا الاتجاه مع الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر والأديب الفرنسي ألبير كامو. وينبني هذا الاتجاه على مجموعة من المرتكزات الجوهرية كالعبث ، والإخفاق، واللاجدوى، والقلق، والسأم ، واليأس، والحرية (حرية الفعل، وحرية المكان، وحرية الزمان) ، والالتزام ، والمسؤولية ... كما أن العمل المسرحي يبدو مفككا ومضطربا حيث تغيب فيه الروابط الفنية والدلالية والمنطقية. وبالتالي، يظهر العرض محيرا ومثيرا ومربكا بسبب الانزياح والخرق والغموض والإدهاش، ومثيرا للضحك والسخرية والتشاؤم مادام يتمرد عن قواعد العقل والمنطق والفن الساذج. ومن أهم النماذج المسرحية التي تمثل هذا الاتجاه مسرحية» ثبذات/ بدأت» للمخرج البشير الإدريسي ، والتي عرضت بالغرفة الفلاحية بالناظور سنة 2002م. وتتخذ هذه المسرحية طابعا وجوديا ؛ لأنها تتناول قضايا فلسفية أنطولوجية تتعلق بالإنسان ووجوده وكينونته، كما ترصد ظاهرة قلق الإنسان واغترابه الذاتي والمكاني في شكل تساؤلات كونية فلسفية. 7- الاتجاه العبثي أو مسرح اللامعقول من المعروف أن مسرح العبث لم يظهر إلا بعد الحرب العالمية الثانية مع مجموعة من الكتاب المسرحيين. ومن هؤلاء: ألفرد جاري صاحب مسرحية» أوبو ملكا»، والروماني يوجين يونيسكو، والإيرلندي صمويل بيكيت، و والأرميني آرتور أداموف، والإسباني فرناندو أرابال، والأمريكي إدوارد ألبي، والإنجليزي هارولند بنتر... ويتغنى هذا المسرح بالعبث والفشل والعدم والإخفاق واللاجدوى والتيه والضياع والفراغ والجمود. كما تكثر في هذا المسرح الأسئلة الوجودية والميتافيزيقية التي تبقى بدون أجوبة محددة، كما يغيب فيه أي تفسير للعالم، وتصبح الحبكة المسرحية خطابا ساخرا. وبالتالي، تتحول الشخصيات الدرامية إلى أشباح كاريكاتورية مهجنة ومقرفة. أما على المستوى الفني والجمالي، فيلاحظ التناقض، وغياب الأحداث الفعلية أو تبدو الحبكة الدرامية بسيطة وعادية وتافهة، ناهيك عن تفكك النسيج المسرحي، وتقطع الكلام، واستعمال الصمت، وتوظيف الصراخات والعويل والضحك الجنوني والهستيريا ونقط الحذف بكثرة، مع الثورة على القواعد الأرسطية، ورفض مبدإ المحاكاة والتطابق مع الواقع. من أهم المسرحيات التي تندرج ضمن المسرح العابث مسرحية «ثيسيث/ المرآة» لسعيد المرسي، والتي تستعرض تجربة القلق والانتظار والعبث واللاجدوى لدى الإنسان الأمازيغي المعاصر من خلال توظيف مجموعة من الكراسي على غرار مسرحية « الكراسي « ليوجين يونيسكو. هذا، وقد قدمت فرقة أسايس ن- أمال بأكادير ضمن مهرجان تافوكت بالدار البيضاء سنة 2007م مسرحية» في انتظار كودو» للمخرج مصطفى حمير التي تأثرت كثيرا بمسرحية صمويل بيكيت بنفس العنوان. وتتبتدىء هذه المسرحية بتكسير الجدار الرابع، ووصول كل من كوكو وديدي إلى خشبة المسرح ، والوقوف أمام شجرة أركان لينتظرا السيد كودو الذي سيأتي ولا يأتي. وفي نفس الوقت، سيلتحق بهما بوزو وخادمه لوكي لينتقل العرض إلى تصوير عبثية الوجود وغرابة هذا العالم الذي أصبح بلا معنى ولا جدوى ، والمشروط بالخيبة والسأم والفراغ. بيد أن هذه المسرحية صيغت في سياق سوسيوثقافي لمنطقة سوس مع استنطاق الوعي واللاوعي الثقافي الأمازيغي لمخاطبة العالم والإنسان. كما تؤشر المسرحية سيميائيا على ثنائية التحرر والاستعباد، وثنائية الانتظار واللاانتظار، وثنائية الغاية واللاجدوى. ومن المسرحيات الأخرى التي يمكن إدراجها ضمن المسرح العابث مسرحية نعمان أوراغ تحت عنوان:» نخراقد حوما وانتمسفهيم/ خلقنا لكي لانتفاهم»، والتي تم عرضها في بداية سنوات التسعين من القرن العشرين، وتعبر عن إشكالية عدم التواصل بين بني البشر، كما تجسد تفاهة هذا العالم وانحطاطه بسبب القلق والسأم واليأس والتشاؤم . 8- الاتجاه الكوريغرافي يستند الاتجاه الكوريغرافي المعاصر على توظيف كل ما يتعلق بالحركة الديناميكية كما في مجال الباليه والرقص والميم والرياضة البدنية. ومن هنا، فإننا نجد مجموعة من المخرجين المحدثين والمعاصرين يتعاملون كثيرا مع الجسد، ويوظفونه بطرائق مختلفة في مجال المسرح من أجل إيصال رسائل مشفرة مباشرة وغير مباشرة، مستفيدين من اللسانيات والسيميائيات والبلاغة الجديدة. ومن أهم المخرجين الذين تعاملوا مع شعرية الجسد والبانتوميم ولغة الصمت والقناع في المسرح الغربي نذكر على سبيل التمثيل: أندريه أوبي، وجان برنار، وكروتوفسكي، و جاك ليكوك، ومينوشكين... ومن أهم المسرحيات الأمازيغية ذات المنحى الكوريغرافي نذكر: مسرحية « نتات/ هي» للمخرج السوسي رشيد أبيدار التي تتناول علاقة المرأة بالرجل في هذه الحياة في لحظاتها الإيجابية والسلبية. ومن ثم، يقدم المخرج مجموعة من المشاهد المسرحية والمواقف الدرامية ضمن لوحات صامتة تعتمد على شعرية الجسد وبلاغة الحركات الناتجة عن لياقة البدن ورشاقته وتضاريسه التعبيرية. بل تتحول بعض هذه الحركات إلى ألعاب سيركية بهلوانية، وحركات رياضية بدنية ممتعة، وصراع حاد بين الجنسين بواسطة الكاراتيه أو الكونفو. وبالتالي، تتحول المسرحية إلى حلبة تجسد الصراع الإنساني بين الرجل والمرأة في مشاهد كوميدية وتراجيدية تثير الراصد المتفرج فنيا وجماليا. 9- الاتجاه الميتامسرحي يتمثل هذا الاتجاه في توظيف تقنية المسرح داخل المسرح من أجل طرح أسئلة الكتابة الدرامية على المتفرج الراصد، والحديث عن مصير المبدع أوالفنان، والتعبير عن صراعه التراجيدي والسيزيفي مع الواقع المحبط، وتصوير وضعيته المنهارة في ظل الأوضاع الراهنة كما نجد ذلك جليا في مسرحية» ءيمحباس ءومزكون/ سجناء المسرح» للمخرج البشير الإدريسي، وقد عرضت هذه المسرحية فعليا بالناظور سنة 1998م. ونذكر ضمن هذا الاتجاه أيضا مسرحية» ءاغانيج ن ءيذورار/ أغنية الجبال» للمخرج فؤاد أزروال، والتي تصور معاناة الفنان المغني ومكابداته مع الذات والواقع الموضوعي ، وهو يسهر على تأليف أغنية من أجل الآخرين. فيصور المخرج ما يعانيه من جراء ذلك في واقعه الذي لايعترف بالفن بصفة خاصة والثقافة بصفة عامة. مظاهر التجريب في المسرح الأمازيغي بعد أن كان المسرح الأمازيغي التقليدي سواء أكان كلاسيكيا أم واقعيا أم طبيعيا يتناول موضوعات تقريرية مباشرة كالمواضيع السياسية والاجتماعية والثقافية، بله عن مواضيع المقاومة والتاريخ والمرأة والحب والهجرة. فإن المسرح التجريبي الأمازيغي قد تناول مواضيع جريئة كموضوع الإنسان والهوية والكينونة والحقيقة والاغتراب الذاتي والمكاني، وتصوير ظاهرة القلق والسأم والعبث، وتجسيد مصير الإنسان الأمازيغي في ظل العولمة المتغطرسة وأنظمة الإقصاء والتهميش والاستبداد. ومن الناحية الفنية والجمالية، فقد اتسم المسرح الأمازيغي التجريبي بترجمة نصوص درامية مفككة وغامضة ومبهمة ركحيا وميزانسينيا، وتوظيف الميتامسرح، وتكسير الجدار الرابع، وتمثل نظرية التغريب والإبعاد البريختية، واستعمال سينوغرافيا مجردة ذات طابع فوضوي توحي بالجنائزية التراجيدية والسواد القاتم والكوميديا الصادمة.كما تتخذ الحوارات المسرحية طابع الهذيان السريالي، وترد في صيغة الصرخات المتقطعة التي تعبر عن الجنون والضياع والتيه في عالم تنعدم فيه الحقائق، ويتسم بالعبث السائب. زد على ذلك، يشغل المسرح التجريبي الكوريغرافيا الرمزية والتجريدية، ويستعين بشعرية الجسد وبلاغة الحركة، كما يستفيد من البيوميكانيك أو الحركات البلاستيكية من أجل تجسيد الحبكة الدرامية ، وعرضها سينوغرافيا. خاتمة تلكم - إذن - نظرة موجزة عن تجليات التجريب في المسرح الأمازيغي المغربي بكل مظاهرها الدلالية والفنية والجمالية. وتلكم كذلك أهم الاتجاهات والمدارس الدرامية التي استفاد منها المسرح الأمازيغي بطريقة من الطرائق سواء أكانت ظاهرة أم ضمنية. ومن هذه الاتجاهات الدرامية الغربية التي امتح منها المسرح الأمازيغي الحديث والمعاصر مقوماته التجريبية على المستوى الدلالي والفني والجمالي لابد من ذكر: الاتجاه الرومانسي، والاتجاه الرمزي، والاتجاه الملحمي، والاتجاه التجريدي، والاتجاه السريالي، والاتجاه الوجودي، والاتجاه العابث. بيد أن المسرح الأمازيغي مازال غارقا في التقليد ومحاكاة المدارس الغربية ، بدون أن يضيف أي جديد يميزه عن باقي المسارح الأخرى . ومن هنا، فلا يمكن لهذا المسرح ، في اعتقادنا، أن يحقق نهضته الحقيقية وحداثته الفنية والجمالية إلا إذا جمع بين التجريب والتأصيل ، وتم صهرهما في بوتقة فنية موحدة على مستوى التشكيل الميزانسيني والتحبيك الدلالي.