د. نوال بنبراهيم الواقع أن هؤلاء الرواد أسسوا اللبنة الأولى لتواجد مسرح باللغة الأمازيغية، حيث أصروا على تقديم عروض مسرحية واعدة ولو بإمكانات مادية ضعيفة عالجت مواضيع متنوعة مثل الدفاع عن الهوية والمقاومة الريفية للاستعمار والذاكرة الأمازيغية والهجرة إلى الخارج والدفاع عن حقوق الإنسان... سجلت تفاوتا من حيث النصوص المسرحية والتجسيد الركحي، لكنها أنتجت ملامح حركة مسرحية جادة يمكن ملامسة أبعادها الأدبية والتقنية. وحرصوا على استمرار المسرح الأمازيغي بفضل إنجازات فنية خضعت في مسيرتها من التسعينيات إلى حدود الآن لتحولات سعت إلى تجاوز البداية. ومن ثم اتسمت بعض أعمالهم بالإبتكار والأصالة القائمتين على فهم أدوات الإنجاز المسرحي وجمالياته، وعلى اختمارات اجتماعية وسياسية وثقافية قدمت إبداعا مغايرا رام إلى تحرير المتلقي من سكونية العرض التقليدي وتجاوز الطابع الإستهلاكي. وبناء على ذلك بلغ المسرح الأمازيغي مع بداية الألفية الثالثة نضجا واضحا سواء على مستوى الكتابة الدرامية أو الإنجاز الركحي أعطى إشراقات جديدة على يد مجموعة من الممارسين مثل فاروق أزنابط ومحمد بنعيسى وسعيد المرسي وعبد الواحد الروكي ومحمد بنسعيد وشعيب المسعودي وعمر الخلوقي وأحمد اجويني التي استفادت من جماليات المسرح الغربي فأنتجت إبداعا تأرجح بين التقليد والتجاوز و صبا الى تحقيق خصوصية محلية. أما التقليد، فتم من خلال انفتاحه على التراكم الذي حققه الغرب عبر التاريخ والتأثر بتياراته المتنوعة خاصة المسرح التاريخي والملحمي واللامعقول والرمزي والتعبيري...، واستفادته من بعض طروحات المسرح العربي خاصة الاحتفالية. وأما التجاوز، فتجسد في التنقيب في التراث والظواهر الشعبية المغربية عن صيغ جمالية وتقنيات فنية تمكن المسرح الأمازيغي من تجاوز القوالب الكلاسيكية. والواقع أن تهجير الفرجة الشعبية إلى الفرجة المسرحية العالمة ارتبط لدى جل ممارسي المسرح الأمازيغي بأسطورة الأصل والعودة إلى الينابيع الأولى، والبحث عن بنية إبداع مختلفة تصل الفرجة الشعبية المفتوحة بتقنيات الفرجة المسرحية. ونمثل لذلك بعرض «ثاسريت ن وزورو» لفرقة تفسوين للمؤلف سعيد أبرنوص وإخراج فاروق أرنابط الذي نال الجائزة الأولى بالمهرجان الاحترافي للمسرح الأمازيغي بالدار البيضاء، وعرض (ثازيري ثاميري / القمر العاشق) للمخرج فاروق أزنابط وعرض( نان ءيني زمان / قال الأجداد الحكماء) للمؤلف والمخرج عمر الخلوقي... على أن الكثير من العروض المسرحية الأمازيغية بالريف حاولت امتطاء التراث والتاريخ، والانفتاح على شساعة صناعة الفرجة الشعبية لاستيعاب مأزق الهوية لأنه يبدو أن المسرح الأمازيغي مازال يشكل لدى بعض الممارسين جزءا من النضال لإثبات الذات، لهذا راحوا يبحثون في واجهة التاريخ بسلبياته وتناقضاته وتداخلاته، وواجهة الواقع المعيش، ثم واجهة التراث الغنية بمكوناته الفكرية والفنية. ومما لاشك فيه أن المسرح الأمازيغي اجتاز البدايات المتعثرة في أواخر القرن الماضي ودخل مرحلة جديدة في الألفية الثالثة تهفو الى التمييز من خلال فتح ورشة البحث هاجسها تبليغ الخطاب الأمازيغي بحمولته المعرفية والإيديولوجية، ونقل الحساسية الجمالية والفنية الأمازيغية إلى المتفرج. لهذا صار الإقرار بإبداعية هذه العروض واقعا ملموسا يبدو على سبيل المثال لا الحصر (أربع أوجنا يوظاد / قد تحطم ربع السماء) للمخرج شعيب المسعودي، وعرض (ثنوغ ثيار جاذي تمديت / غرق الحلم في الليل) للمخرج سعيد مرسي، وعرض (تسنيفت / أحلام من رماد) لمحمد بنسعيد، وعرض (تشومعات / الشمعة) لعبد الواحد الزوكي، وعرض ثان (ييني ن زمان) لعمر الخلوقي. وكذلك في عرض (تاسريت ن وزورو) الذي استغل التاريخ والتراث - سواء من حيث استحضار حدث أو حالة أو شخصية - في بعدها الوظيفي، واستغل االمواقف التي خدمت العرض، وحول المحطات التاريخية إلى مواضيع معاصرة أضفى عليها وجهة سيكولوجية عكست قضايا المجتمع وأحلامه. وقد أدرج المؤلف اللحظات التاريخية في امتدادها وديناميتها عن طريق آلية التزامن التي اختارت معايشة عدة أزمنة في آن واحد، الشيء الذي أضفى على الأحداث دلالات متعددة. واتكأت آلية التزامن على: 1 تزامن بين ماض وماض تعامل مع المادة التاريخية والتراثية بواسطة الذاكرة الاسترجاعية وتداخل الأزمنة والأمكنة الماض. 2 تزامن بين الماضي والحاضر لإعادة انتاج الواقع بطريقة رمزية وتاريخية وخيالية أبعدت الأحداثْْ عن البهرجة والملامسة المجانية. وقام المؤلف بقراءة أركيلوجية فجرت التاريخ والتراث معا واستخرجت منهما ابداعا مسرحيا جعل الشخصيات تتصل بالماضي وتنفصل عنه في الآن ذاته. أما من حيث الإنجاز الركحي، فقد قدم المخرج عرضا تركيبيا جمع بين الاستفادة من تقنيات المسرح الفقير، والمسرح داخل المسرح، والفرجة الشعبية المغربية؛ فأنتج تركيبات إيحائية ردمت البعد الزمني، وتضمنت رموزا تداخلت فيها الحقب التاريخية والأساطير المتنوعة الأمازيغية واليونانية والرومانية، حيث تم الانتقال من الأسطورة إلى التاريخ الى الآن الواقعي بشكل مرن نسج علاقات التداخل بينهم بأسلوب فني ودرامي أضفى تميزا إيجابيا على أحداث النص المسرحي وشخصياته. ويبدو أن المخرج قدم رؤية إخراجية متميزة أبرزت اهتمامه الخاص بتكوين الصورة الفنية فوق الخشبة بالارتكاز على موضع الجسم والمستوى والمنطقة والفضاء أوالمسافات والتناقض والتبئير. وبناء على ذلك جاءت صورة الخشبة متوازنة اجتهد المخرج في تحديد محتوياتها الدلالية والرمزية والعاطفية وعلاقاتها المتطورة سواء على مستوى الصورة الواحدة أو تتالي الصور. وكان المخرج يحرك الواحدة منها بتحريك الممثلين لبناء منظر أو تكوين خلفية أو حالة عاطفية أو لإضفاء الحيوية وكسر الجمود أو لتحسين تكوينها الفني مثلا عندما استغرق الراوي وقتا في شرح الأحداث الماضية , وغير المخرج في اللحظة ذاتها الصورة بتحريك المجموعة أو بعض الممثلين. كذلك عندما كان يتحرك ممثل واحد إلى المنطقة المزدحمة يقابله باقي الممثلين حركته بخطوة او اثنتين لموازنة صورة الخشبة وتنظيمها. والحقيقة أن المخرج حرص على الحصول على التنوع قدر الإمكان في كل مظاهر تكوين الصورة الفني من حيث التوازن والتأكيد والحالة والاستقرار معتمدا إيقاعا متنوعا ليقدم عرضا مقنعا لا يسقط في الرتابة والملل. ويبدو تطور المسرح الأمازيغي كذلك من خلال عرض (توارث إمضران / باب القبور) لفرقة تقوين من تأليف عبد العزيز ابراهيمي وإخراج محمد بنسعيد واحمد اجويني الذي بدا غامضا وصعب الفهم لأسباب تعود إلى النص وإلى تقطيع العرض إلى مناظر مبهمة استحوذ عليها الجانب الحركي والتعبيرالجسدي، الشئ الذي استوجب اللجوء الى آلية التأويل لفهم انزياحاته الدلالية والوصول الى إرساليته المتمثلة في الدعوة الى الخروج من الصمت والموت الى الفعل والحركة لتغيير هشاشة الواقع واستشراف غد أفضل مبني على المصالحة والانسجام والتآخي كما عبرت نهاية العرض. والعرض في أساسه مأساوي عبر عن القلق والتمزق والصراع والضياع... الذي يعاني منه الإنسان لو لم يدمج المخرجان مشاهد كوميدية وأخرى عاطفية ليخرجا الجمهور من الطابع المأساوي ويكسرالإيهام لديه من جهة، وليتواصل العرض مع جل فئات الجمهور الذي ألف العروض الكوميدية من جهة أخرى. ومن ثم جاء العرض تراجيكوميديا تمحورتمواضيعه حول الهروب والتقاعس والهجرة والتشتت والسجال المجاني... غير أن ما أدرجناه لا يمكن الوصول إليه بسهولة لآن العرض مثقل بالعلامات البصرية الغامضة التي قد لاتتجاوب إلا مع ممارسي الفرجة المسرحية أو مع فئة خاصة من الجمهور. ولولا توظيف المخرجين لمجموعة من الحركات المصممة الأفقية (تحرك الممثل من نقطة إلى أخرى) والرأسية (تنقل الممثل من مستوى إلى آخر) والمتوازنة والمضادة، القوية والضعيفة تبعا للمعنى المقصود والعواطف المطلوبة، لما فهمنا من العرض شيئا. ولولا أنهما اهتما بالمنطقة التي تقع فيها الحركة واتجاهها بالنسبة للممثل الآخر فوق الخشبة أو بالنسبة للمشاهد و المستوى، أو اهتمامه بالصورة القوية او الضعيفة لما استوعبنا خطاطته الدرماتورجية. ولولا أنهما استعانا بالتمثيل الاختياري - إلى جانب التمثيل الأساسي المنفذ لتعليمات المؤلف أو ما يمليه - لتكوين وضع المنظر و العلاقات بين الشخصيات، وتنفيذ الأهداف الدرامية، أوتنفيذ أهداف فنية ككسر المشاهد الساكنة وإضفاء الحيوية على العرض، لما استسغنا من العرض شيئا. وربما شكل التمثيل وإبراز العلاقات بين الشخصيات روح العرض، حيث سد الغموض الحاصل على مستوى فهم النص المسرحي، وإن كان الأمر تطلب مع ذلك تفكيك الحركات الآلية الموظفة من قبل الممثلين لفهم الصراع والفرح والحزن واليأس والأمل... وإن من ينظر إلى باقي أدوات الإنجاز الركحي يجد الديكور في عرض (تسلين ن وزورو) فقيرا ومقتصدا متحررا من الألوان والأشكال. ومع ذلك، فهو وظيفي أحال على الأمكنة التاريخية والواقعية ,ونقل المتفرج من الآني الى الماضي وغاص به في الأسطورة والتاريخ. ونجده في عرض (توراث إمضران) مليئا بالرموز يعبر عن حالات الشخصيات النفسية الدفينة, وعلى العموم، فإن الديكور في العرضين يختلف عن ديكور عروض أخرى تحاكي الطبيعة الجيلوجية والأدوات المستعملة في البادية أو المدينة لأنها تهتم بتصوير الواقع تصويرا فوتوغرافيا. وبالتالي تقدم فضاء بسيطا وثابتا ينهل من مكونات البادية بشكل فج ومباشر، بيد أن الفضاء في هذين العرضين دينامي ومتحرك ساهم في تبليغ الأحداث والدلالات الرمزية. ولا يسع من يرى عرض توراث إمضران إلا أن يعترف بما أنفقه المخرج من جهد صادق في الاستفادة من تيارات المسرح العالمي - خاصة المسرح الملحمي والرمزي، ومحاولة تقليد بعض تقنياته شأنه شأن بعض العروض المفدمة باللغة العربية أو اللهجة الدارجة حيث تتسابق على تقليد الإتجاهات المسرحية الغربية عوض الانطلاق من آليات ذاتية قائمة على بنية فنية وجمالية تجربها على مستوى مختبري تطرح بديلا مقنعا. إن مسرح الألفية الثالثة يتطلب تجاوز هذا التقليد خاصة وأن المسرح الأمازيغي حقق تطورا ملموسا على يد مخرجين راهنوا على إبراز مهاراتهم في صناعة الفرجة، فحققوا حضورا لافتا للانتباه مازال يحتاج تراكما كميا وكيفيا على يد فرق متعددة تشتغل بأساليب مختلفة وتسهم في ترسيخ هذا النضج. وقد تسأل، ما الذي أضافه المسرح باللغة الأمازيغية إلى المسرح المغربي؟ مما لاشك فيه أنه نوع التجربة المسرحية المغربية، ووسع قاعدة الجمهور، فضلا عن أنه انطوى على خصوصيات فطرية وتراثية أحرزت تطورا ملموسا على مستوى الحركة المسرحية بالريف لأنها تستجيب للمقومات الفنية والتقنية والأدبية. لكنها تحتاج إلى تصور يستعين بمخطط وتدبير يفكر في خلق مقاولات وسوق حقيقية للعروض المسرحية تراعي قانون العرض والطلب. كما تحتاج إلى إغناء تجربتها وصقل مواهبها بواسطة التكوين المستمر الذي يحث على الاكتشاف وتجديد أدوات التعبير وأساليبه. ويستلزم خلق فرق قارة تتوفر على فضاء مسرحي وموارد مالية قارة, وتأطير مسؤول يكفيها شر تشتت الكفاءات. ومما لاحظناه أن هناك شبابا يمتلكون مواهب فياضة وطاقات خيالية غنية تحتاج توجيها وتشذيبا، كما تحتاج امتلاك وعي موضوعي بلغة المهنة يعينهم على اكتشاف طاقاتهم الذاتية. وأخيرا نقول، إن المسرح الأمازيغي بالريف يحتاج إشعاعا على الصعيد الوطني لكي لايظل حبيس منطقة الريف وذلك عبر خطة تراعي: ******************* 1 احداث مهرجان متنقل يلتقي المغاربة فيه بالمسرح الأمازيغي عن كثب. 2 خلق جسور التواصل مع المسرح المقدم باللغة العربية والسوسية والأطلسية والدارجة عن طريق تعاون بناء وإقامة لقاءات توفر الفرصة لتفاعل التجارب وتبادل الخبرات واقتراح حلول لمشاكل المسرح المغربي تستشرف أفقا مزدهرا. 3 تسويق المنتوج المسرحي داخل المغرب وخارجه ليخرج من بوتقة الإنعزال داخل منطقة الريف.