ما معنى أن تكون مثقفا؟ وما معنى أن تكون قارئا في المغرب لثقافة تفهم مدارات العالم،وتعيش في السياقات التي تقبلك أو ترفضك؟وما معنى أن تبتعد عن غموض السياقات التي تختصر العالم في رأي واحد،وبعد واحد،وتلقٍِِ واحد لتؤسس رؤية شاملة تتفحص ثقافة هذا العالم؟ لا أريد أن أُخضع الإجابة عن أي سؤال إلى الآراء والأفكار والمعاني العامة التي أكل عليها الدهر ولم يشرب،ولا أريد إغراق كلامي أثناء الإجابة في كلام سابق ،أو كلام من سبقني وقدّم إجابات مشابهة للزمن الهارب من لحظاته،لأني أريد أن أؤسس إجابات تجعل الذات تتحدث عن إجاباتها الممكنة،وتقدّم واقع تجربتها في هذا التكريم الذي ينظمه المركز الدولي لدراسة الفرجة،برئاسة الدكتور خالد أمين ،وترسم معاني آثارها،ولا تبتعد عن مكوناتها التي هي بالضرورة مكونات مجتمع مغربي متعدّد يجد تحقق وجوده في ذاته بهذا التعدد،ويجد صورته في حياته،ويجد في معاناته وجود مخاضات تفرز رؤية الذات العارفة بهذه المكونات ،والعارفة بالفكر والذهنية فيقدّم صورة حقيقية لهذه المخاضات التي تفضي به إلى إبراز مستويات فهمها لذاتها وفهمها لمجتمعها،ولعالمها. تجربتي في الثقافة والنقد المسرحي هي تجربة لا تنفصل عن تجربة الجماعة التي أنتمي إليها،ولا تنفصل عن تجربة تفاعل أفرادها مع ما يجري في الجماعة بالمفهوم السوسيولوجي،أو المجتمع،فيتحول هذا التفاعل إلى ظاهرة تمتلك حيويتها،وتمتلك حياتها،خارج كل ثابت،وكل قار ،وكل صامت،وهذا يعني أن التفاعل هنا بين الجزء والكل،بين الفكر الخاص الذي يتكوّن تدريجياً ،والفكر العام الذي يتكون في صيرورة التاريخ ،يعني أن التناقض بين الرؤى،والأفكار،هو الذي يساعد على استولاد التناقض من التناقض،ويمشي بالتوافق إلى معنى الاقتراب من حقيقة الذات،وحقيقة الموضوع في لحظة تاريخية تصير بنية زمانية تشكل بنيات ذهنية وفكرية وثقافية تتوحد في الذات العارفة. داخل هذه التجربة التي عشت تغيّراتها، وعاينت تحوّلاتها، وتأثّرت بانكساراتها، وتابعت حالات انجبارها، وتساءلت عن إخفاق المشروع الحضاري العربي فيها،أو إخفاق تأسيس زمن حداثي حقيقي لمجتمع لا يريد في حيويته أن يصير حداثياً، كنت أتساءل دوماً عن معنى التقدم والتأخر،وأتساءل عن معنى النور والظلام، وأتساءل عن معنى الحركية والتوقف، وأتساءل عن معنى وأسباب الإحباط،والحلم،وأبحث عن معاني الخروج من سلطة الإحباط الجماعي،لفهم معاني التحوّل والفهم، وأبحث عن الوسائل الممكنة للتعبير الحرّ عن كل قراءة للأدب للمسرح كنص وعرض تعرف كيف تفكّك هذه الحركية، وتعرف كيف تؤوّل ،وتعرف كيف تبني معاني التجربة الجماعية في رؤيتي الخاصة للعالم. وكنت كلّما أقترب من معنى الجواب،ومعنى الفهم،إلا وأفقد معاني أخرى حول الوجود،وحول العدم،حول الثقافة وحول اللاثقافة،حول المسرح واللامسرح ،حول بناء فهم حقيقي للمنظومات الثقافية التي تكون التجربة الجماعية للنخبة،وكنت أجتهد لأعرف كيف أن الأسئلة المضنية والمقلقة كانت تصاحبني،وتعاشرني،وترافقني، في حالة استقرار الذهن وصفائه، وفي حالة شرود هذا الذهن وتشتّته، فكنت أختار بين الاختيارات الممكنة موضوعاً أو موضوعات في المسرح للسير نحو أن أكون مثقفا عضويا يوحد بين الذاتي والموضوعي،ويوحد بين المسافة والمسافة،وبين الأبعاد والأبعاد،ولا أجاري بريق الذات، وأوهامها،بل أجاري الاقتراب أكثر من معاني الارتباط العضوي بين المعنى الذي أريده أن يكون لتجربتي في القراءة وبين المثقف الذي أريد أن أكونه قارئا مبدعاً لمسرح. في مكناس تعودت على الاقتراب من كُنه الحقائق التي تقدّمها مكناس في صورة العمران،والعادات،والتقاليد، والطقوس الاحتفالية الصوفية،وكنت كلّما اكتشفت ظلال هذه الحقائق،إلا ويأخذني هذياني الطفولي إلى الإقرار بأن المعرفة صعب إدراك كلياتها،وصعب تركها تمارس سلطتها في منع الحفر في المسافات بين الرغبة في التعلم، والرغبة في امتلاك أسرار التعلّم ،فكنت بين هذا التوزّع بين الكائن والممكن ،بين الحال والمحال،أقرّ أن المعرفة بالجزء لا تعني أن يبقى هذا الجزء وحيداً في عالم البحث عن زمن المعرفة ،ولا يبقى الانغلاق، والعزلة،والانعزال، وتكرار ما قيل هو القول الفصل،والحقيقة المطلقة في المعنى الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. في هذه المدينة تعودت على اقتحام الصمت بالصمت،وألفت ولوج زمن التأمل بالتأمل،ومعانقة بلاغة الرؤية ببلاغة بُعد النظر،وتعوّدت ألا أتكلم إلا ببلاغة الصمت الذي يوسّع من دائرة الفهم،والإدراك،ويقوي من عشق العشق، ويزيد من معرفة المعرفة،ويزيد من معرفتي بما لا أعرف، لأدري ما لا أدري،وأعلم ما لا أعلم، ومع رفقتي الحميمة مع مكناس كنت أتباهى ببلاغة هذا الصمت،وكنت أتماهى مع صمت ما تحمله هذه المدينة من أسرار لم تبح بها الكلمات التي أرّخت لوجودها. الصمت في التأمل بلاغة تتحقّق بكلام الصمت،والكلام بالصمت قوّة كانت تصل بي إلى جلال اللحظات التي تجعلني أتسربل بكل اللحظات الصوفية التي تعبق بها المدينة كفضاءات مقدّسة تختصر معاني كل ما هو مقدّس في أزمنتها،وتاريخ رجالاتها،وتميّزها بالتسامح بين الأديان والعقليات،والأصول التي تصول. حين قراءة الذات ،وما حول الذات،تحار بي الأذهان، وتعبر خيالاتي كل الذكريات،فأقف على شاعرية التذكّر في هذا الصمت الجميل الذي يعطي لجمالية التذكر كل رحابته،فيرسم التذكر أفق انتظاري لما أريد أن أكونه،فكنت أرحل من المكان إلى كل الأمكنة،التي تزيد من معرفتي بذاتي وبصمتي، وبالعالم،كنت أنتقل من جغرافية إلى جغرافيات، وألج عبق التاريخ العربي لأصل إلى معاني التاريخ في العالم،أقف على صرح الثقافات العربية،وأكشف تنوعها وأصالتها، وغناها، وثراءها المتراكم في الأزمنة المنسية والأماكن المقصية. دليلي لا يحتار وأنا أعاود قراءة الذات،وقراءة صحيفة الكون،والعالم، أتبع لذة الانتقال من سؤال الفلسفة إلى شعرية الأدب، أقتفي أثر من كتبوا المسرح و تاريخ المسرح،أسمع الموسيقى العالمة والشعبية،وأعيش غرابة الظواهر الفنية،وأقرأ التراث الشفوي منه والمكتوب،وكلّما زدت علماً بهذه القراءة إلا وتأخذني المعرفة إلى أفق آخر،وتأخذني إلى دهشة أخرى أستمتع بها،ترجعني إلى الزمن الذي أعيش فيه متواطئا مع هذا العيش الذي هو تواطؤ مع الرفض الذي رسم لي بالصمت الذي أعشقه لغة الكلام الذي صرت أتكلم به في القراءة،قراءة المسرح،ونقد المسرح،وتلقي المسرح. عشت ما عاشه المغرب سياسيا وثقافيا وفنيا،صراع الأحزاب السياسية،وانحصار دور النخبة المثقفة، وكشفت كل أنواع التخطيط الممنهج للتدجين القسري لكل مثقف،وعاينت هندسة بناء الفراغ والخواء الفكري والتلاعب بالتناقض من أجل تكوين طفيليات سياسوية متحكمة في تاريخ المغرب تستفيد من لعبة العرض والطلب ،الترغيب والترهيب،البيع والشراء،ضرب المشروع الحداثي بمشروع إظلامي، وكنت أخزّن في صمتي صهد التناقض بين المثقف والواقع المعيش، وعايشت ما كان يعيشه العالم من حروب،وصراعات ومؤامرات،وحييت في زمن كان يصل بعنفه إلى الزمن العبثي الغامض،والملتبس، والتراجيدي،وكنت أبحث عن وسيلة أرسم بها لغة الكلام،وأكتب بها دلالة النطق،وأعبّر بها عن موقف ثقافي وجدت أنّ الأدب،والنقد ومناهجه الجديدة،والمادية الجدلية والتاريخية،وقراءة المسرح، يمكن أن يصيروا عندي خلفية حقيقية للنقد السياسي،والنقد الاجتماعي،والنقد المسرحي. لقد اخترت هذا النقد لأكون قارئا مفترضا أو ضمنيا يقرأ حقيقة الممارسة الثقافية في الظاهرة المسرحية العربية،ويقرأ وظائفها،ويتلمّس من خلال خطاباتها نوعية ارتباطها بالبنية التي تعبّر عنها،وهنا أعني بالنقد المكونات التي أسهمت في اختياري للأدب،وللمسرح كأشكال أدبية لها تاريخيتها التي تنتمي إلى سياقاتها بالقبول أو الرفض،دعماً لبناء المفقود،أو إعادة النظر في الموجود،وهذا الإسهام في بناء الذات جعلني أغادر زمن الصمت لأعانق بلاغة الكلام،وأؤسس زمن القراءة،وأقّرب الكلام من الكلام حتى أشعر أنا المتكلّم أن هناك موضوعاً لكلامي، وهناك نبضاً لنبضي، وهناك رؤية لرؤيتي،ورفضاً لرفض كل موقف يختصر رؤيتي للمسرح في رؤية القراءة المحدودة التي لا تقربني من رؤية العالم الذي أقرأ،والمسرح الذي أقرأ، والعالم الذي يضمّ كل هذه القراءات. كانت ثقافتي العربية،وكان الاستماع إلى لغة الاحتجاج السياسي في المغرب،ولغة الاحتجاج في العالم،وكان الإصغاء إلى حوارات المسرح،مدخلي إلى عالم المسرح وإلى المشاهدة،وتلقي العرض المسرح العربي والغربي،مكناس كانت الفضاء البكر الذي أعطاني الرغبة في المشاهدة،وكانت ساحة الهديم الفضاء الشعبي الذي قرّبني من مكر الحكواتي في التشخيص والتعبير،وبهلوانية السخرية،وكان مسرح الهواة بكل فنونه البصرية، ودلالاته الاحتجاجية التي تنظر بغضب إلى الخلل الموجود في المغرب، وفي العالم، عالماً تتحرّك فيه مقارباتي النقدية لفهم أسباب الرفض والاحتجاج. لكن الفضاءات التي قّربتني أكثر من المسرح هي المدن التي كانت تعطي للثقافة بُعدها المثقف،مشاركتي في مهرجان أفينيون في يونيو 1979 كان أول لقاء بيني وبين نوع آخر من تلقي لغة الغرب،ومسرح الغرب، وحداثة الغرب،بمسرح هو في أصله وفصله صورة للحداثة وما بعد الحداثة في الغرب الذي يدهش بغرابة التجريب المسرحي في تجاربه المسرحية عيون المتلقي،ثم مشاركاتي في مهرجان بغداد المسرحي،وحضوري المتعدّد و الممتع في ندوات و مهرجانات القاهرة المسرحية خاصة مهرجان المسرح التجريبي ،وحضوري في مهرجان قرطاج،ومهرجانات مجلس دول التعاون الخليجي العربية،كل هذه المناسبات الثقافية أعطتني ثقافة خاصة في تلقي العرض المسرحي،ومنحتني فرصة ممتعة للاستماع إلى دقات قلب المسرح العربي والغربي،وجعلتني أتابع الدفق الدلالي للمسرح،وأثابر على التهؤ للقراءة، والاستعداد للكتابة،والتعبير بالشكل الذي يستجيب لشعرية القراءة التي تقرأ درامية العلامات،وتقترب من كل الأيقونات التي تبني بهاء الدلالة في وضوحها وفي غموضها،في بعدها الواحد أو في أبعادها المختلفة. تلقي الثقافة،وقراءة مُمتعها،كان يتطلّب توفّر أدوات أخرى غير الأدوات الإجرائية المعلّبة،و أهمّ هذه الأدوات الذات القارئة،العارفة،المؤمنة بفعل القراءة،المتحكمة في انفعالها،والمدركة لأسرار تدبير تتبع حياة النص الأدبي الدرامي في حياة العرض المسرحي،ومعرفة مدارات حياة نقد النقد،وحياة الكلمات،والمصطلحات،والتركيبات،والبناء،والهدم،ومعرفة أسرار كل أنواع الصراعات التي كانت تحبل بها الحياة المسرحية العربية وغير العربية. ومن خلال ممارستي القرائية التي بدأت بكتابة الشعر الذي تخليت عنه،لأترك للشعراء وادي عبقر يلهمهم بما يلهمه به جنونهم الإبداعي،وبعد ممارسة نقد الرواية،والنقد السينمائي،والكتابة عن التشكيل ،كتبت السيرة الذاتية في شذرات تتحدث عن المدن التي زرتها،وكتبت المسرحية،لكن سفينة إبداعي رست في بحر تلقي المسرح الذي أعتبره مدرسة مفتوحة على كل الاحتمالات والثقافات، والفنون، والجنون،والتراث الإنساني،والأساطير،مدرسة مفتوحة في وجه كل المبدعين الذين انتميت إليهم،وأنتموا إلىّ على الرغم من بعد المسافات المكانية،لأنّ المسرح يقلّص بين المسافات الزمانية والمكانية لأنه يبقى صورة الإنسان وحقيقته التي تكتب زمن الزمان في الدراما الإنسانية. فعل ممارسة القراءة الهادئة للمسرح جعلني أتريث في الحكم على المقروء،وجعلني أزيد من ثقافتي،وأنهل من المعرفة التي تضئ لي معني النص بغية الوصول إلى ما تقدّمه دلالات النص بمعاني جرّبت قراءتها بعدّة مناهج أفضت بي في نهاية المطاف إلى اعتبار قراءة المسرح إبداعا ممتعا يبدع النص الذي أختار قراءته،أندمج معه لأنفصل عنه بعد فهمه وتأويله،أو أن هذا النص يصطافني ويدعوني كي أكتشف خفاياه وجمالياته الآسرة. تجربتي في القراءة هي تجربة جيل تعلّم حبّ الإنصات إلى زمانه،أراد فهم تاريخه،رغب في أن يرى التحول سيرورة تمشي إلى الأمام،تمشي بالمجتمع الموجود نحو مجتمع حداثي،لكن ما أفسد حلم هذا الجيل هو غياب مشروع حداثي حقيقي يضع الثقافة،والمغرب بهذه الثقافة في الأزمنة المحلوم بها ،فأفق التوقع عند هذا الجيل يخيب أمام غياب أفق تاريخي حقيقي للمغرب،ويزيد من خيبة الأمل هو أن المثقف العضوي الذي كنا نأمل توكيد حضوره ومشاركته في بناء هذه الحداثة صار مثقفاً غير مرعوب فيه لأن السياسي يريد أن يسيّر الثقافي بما في ذلك المسرحي ليصير بوقه الإيديولوجي،وصوته الإشهاري. هنا أعود إلى سؤالي الأساس الذي وضعته في عتبة هذه الورقة ،ما معنى أن تكون مثقفا في العالم ؟ الإجابة الممكنة تأتي من هذا الاعتراف الرمزي الذي يكرمني في دار النيابة في مدينة طنجة الفضاء الدولي ملتقى الحضارات، المركز الدولي لدراسة الفرجة،الذي حدّد منهاجه في العمل بتأسيس ( قاعدة بحث علمي رصين ومتعدد الاختصاص في كل ميادين الفرجة،ويسعى إلى تنمية وتطوير التعاون القائم بين الاختصاصات المسرحية وفنون الفرجة والشأن الثقافي، والفني وطنيا، وعربيا ودوليا). هذا التكريم في مدينة طنجة هو في دلالته الحضارية تكريم جيل ثقافي مسرحي من الخليج العربي إلى المحيط،جيل أراد المساهمة في بناء الوعي التاريخي بوعية الأدبي،والنقدي، وهو تكريم يضع في الميزان النقدي العطاء الإبداعي لهذا الجيل،وحضور أسماء وازنة للتعبير بصوتها الخاص عن هذه الدلالة الرمزية إنما هو تلاحم عضوي بين التجارب،والأسئلة النقدية،والصمت،وبلاغة الكلام الذي أسهم في تأثيثه الصوت المصري بحضور المخرج المقتدر الدكتور هناء عبد الفتاح،والكاتب المميّز أبو العلا السلاموني،ومن العراق الدكتور فاضل سوداني،ومن المغرب الدكتور خالد أمين،والدكتور مصطفي رمضاني، ،والدكتور محمد أمنصور. هل أطرح السؤال مرة ثانية.أكيد أن الأجوبة ستظلّ مؤجّلة،والفعل الثقافي العربي،والمشروع الثقافي العربي ،وسؤال حداثة المجتمع العربي مشاريع ستبقى مشروعا محلوماً بها وواردةً في كل الأزمنة الثقافية العربية إلى حين بناء مشروع فكري آخر لمجتمع عربي آخر يكون زمن المسرح ضمن هذا البناء. ألقيت هذه الكلمة بمناسبة تكريمي في الدورة الخامسة لندوة طنجة المشهدية التي التأمت أيام 22 23 23 24 ماي 2009 المركز الدولي لدراسة الفرجة طنجة في24 مايو 2009