هيئة المعلومات المالية تحقق في شبهات تبييض أموال بعقارات شمال المغرب    المغرب يخطط لإطلاق منتجات غذائية مبتكرة تحتوي على مستخلصات القنب الهندي: الشوكولاتة والدقيق والقهوة قريبًا في الأسواق    تشييع جثمان الفنان محمد الخلفي بمقبرة الشهداء بالدار البيضاء    فريق الجيش يفوز على حسنية أكادير    شرطة بني مكادة توقف مروج مخدرات بحوزته 308 أقراص مهلوسة وكوكايين    حفيظ عبد الصادق: لاعبو الرجاء غاضبين بسبب سوء النتائج – فيديو-    دياز يساهم في تخطي الريال لإشبيلية    المغرب يحقق قفزة نوعية في تصنيف جودة الطرق.. ويرتقي للمرتبة 16 عالميًا    مقتل تسعة أشخاص في حادث تحطّم طائرة جنوب البرازيل    المغرب يوجه رسالة حاسمة لأطرف ليبية موالية للعالم الآخر.. موقفنا صارم ضد المشاريع الإقليمية المشبوهة    فرنسا تسحب التمور الجزائرية من أسواقها بسبب احتوائها على مواد كيميائية مسرطنة    وزارة الثقافة والتواصل والشباب تكشف عن حصيلة المعرض الدولي لكتاب الطفل    فاس.. تتويج الفيلم القصير "الأيام الرمادية" بالجائزة الكبرى لمهرجان أيام فاس للتواصل السينمائي    التقدم والاشتراكية يطالب الحكومة بالكشف عن مَبالغُ الدعم المباشر لتفادي انتظاراتٍ تنتهي بخيْباتِ الأمل    مسلمون ومسيحيون ويهود يلتئمون بالدر البيضاء للاحتفاء بقيم السلام والتعايش المشترك    الرجاء يطوي صفحة سابينتو والعامري يقفز من سفينة المغرب التطواني    العداء سفيان ‬البقالي ينافس في إسبانيا    جلالة الملك يستقبل الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني    بلينكن يشيد أمام مجلس الأمن بالشراكة مع المغرب في مجال الذكاء الاصطناعي    وقفة أمام البرلمان تحذر من تغلغل الصهاينة في المنظومة الصحية وتطالب بإسقاط التطبيع    الولايات المتحدة تعزز شراكتها العسكرية مع المغرب في صفقة بقيمة 170 مليون دولار!    الجزائر تسعى إلى عرقلة المصالحة الليبية بعد نجاح مشاورات بوزنيقة    انخفاض طفيف في أسعار الغازوال واستقرار البنزين بالمغرب    رسالة تهنئة من الملك محمد السادس إلى رئيس المجلس الرئاسي الليبي بمناسبة يوم الاستقلال: تأكيد على عمق العلاقات الأخوية بين المغرب وليبيا    مباراة نهضة الزمامرة والوداد بدون حضور جماهيري    رحيل الفنان محمد الخلفي بعد حياة فنية حافلة بالعطاء والغبن    لقاء مع القاص محمد اكويندي بكلية الآداب بن مسيك    لقاء بطنجة يستضيف الكاتب والناقد المسرحي رضوان احدادو    بسبب فيروسات خطيرة.. السلطات الروسية تمنع دخول شحنة طماطم مغربية    غزة تباد: استشهاد 45259 فلسطينيا في حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة منذ 7 أكتوبر 2023    مقاييس الأمطار المسجلة بالمغرب خلال ال24 ساعة الماضية    ندوة علمية بالرباط تناقش حلولا مبتكرة للتكيف مع التغيرات المناخية بمشاركة خبراء دوليين    الرباط.. مؤتمر الأممية الاشتراكية يناقش موضوع التغيرات المناخية وخطورتها على البشرية    البنك الدولي يولي اهتماما بالغا للقطاع الفلاحي بالمغرب    ألمانيا: دوافع منفذ عملية الدهس بمدينة ماجدبورغ لازالت ضبابية.    بنعبد الله: نرفض أي مساومة أو تهاون في الدفاع عن وحدة المغرب الترابية    تفاصيل المؤتمر الوطني السادس للعصبة المغربية للتربية الأساسية ومحاربة الأمية    أكادير: لقاء تحسيسي حول ترشيد استهلاك المياه لفائدة التلاميذ    استمرار الاجواء الباردة بمنطقة الريف    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة    حملة توقف 40 شخصا بجهة الشرق    "اليونيسكو" تستفسر عن تأخر مشروع "جاهزية التسونامي" في الجديدة    ندوة تسائل تطورات واتجاهات الرواية والنقد الأدبي المعاصر    استيراد اللحوم الحمراء سبب زيارة وفد الاتحاد العام للمقاولات والمهن لإسبانيا    ارتفاع حصيلة ضحايا الحرب في قطاع غزة إلى 45259 قتيلا    القافلة الوطنية رياضة بدون منشطات تحط الرحال بسيدي قاسم    سمية زيوزيو جميلة عارضات الأزياء تشارك ببلجيكا في تنظيم أكبر الحفلات وفي حفل كعارضة أزياء    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    وفاة الممثل محمد الخلفي عن 87 عاما    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    المديرية العامة للضرائب تنشر مذكرة تلخيصية بشأن التدابير الجبائية لقانون المالية 2025    أخطاء كنجهلوها..سلامة الأطفال والرضع أثناء نومهم في مقاعد السيارات (فيديو)    "بوحمرون" يخطف طفلة جديدة بشفشاون    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عروض مسرح الشباب بين نقص الإمكانات وإثبات الذات
نشر في أريفينو يوم 28 - 02 - 2013


مقدمة
في إطار الإقصائيات الإقليمية لمسرح الشباب في دورته التاسعة المقامة في مدينة أزغنغان (إقليم الناظور) يومي 23 و24 فبراير 2013 تبارت أربعة عروض مسرحية قصد التأهل إلى الإقصائيات الجهوية التي ستقام بمدينة وجدة، وهي كالآتي: عرض “أسير اللايك” لنادي مسرح الشباب بروك بالعروي، وعرض “أعيش أبغور” لنادي مسرح الشباب بأزغنغان، وعرض “الصوت المغبون” لنادي مسرح شباب الريف بزايو، وأخيرا عرض “الحراكة” لنادي المشكاة لمسرح الشباب بزايو.
ولقد تمكن عرض “أعيش أبغور” من التأهل إلى الإقصائيات الجهوية. لذا سنتعرض بالتحليل لهذه العروض مركزين أكثر على العرض الفائز. لكن قبل ذلك لا بد أن نذكر هنا الدور البارز الذي لعبته وزارة الشبيبة والرياضة في تنظيم مجموعة من التظاهرات المسرحية، بل كانت الحاضن الرئيس للمسرح والمتكفلة بمجموعة من التدريبات للفرق المسرحية قبيل الاستقلال، وبالضبط انطلاقا من سنة 1952، بتأطير أساتذة فرنسيين نذكر منهم أندري فوازان، بحيث سيتمخض عن ذلك ما يسمى بمسرح المعمورة، لتُنَظّم بعد ذلك سلسلة من المهرجانات المسرحية الإقليمية والوطنية، وما هذه الإقصائيات إلا ترسيخ لثقافة أصيلة وعريقة التي يجب أن تستمر بشكل أفضل، ومن ثم توفير الشروط الضرورية لإنجاحها.
1- مسرحية “أسير اللايك”
تعالج مسرحية “أسير اللايك” لنادي مسرح بروك بالعروي عدة تيمات متداخلة، وإن كانت تطغى عليها تيمة التصوف باعتبارها قضية جوهرية. ويبرز هذا جليا من خلال المشهد الأول من المسرحية الذي هو بمثابة استهلال يعطينا فكرة عن فحوى العرض المسرحي ومساره. وهكذا يجد المتفرج نفسه أمام أشكال تعبيرية دينية تصوفية بحضرتها ورقصاتها وتراتيلها التي بدأت به المسرحية وانتهت بها، وسعت المسرحية إلى تأكيد أن الممارسة الصوفية مصدر للحقيقة والكشف والتقويم وتشخيص مجموعة من الأمراض المتعشعشة في المجتمع وبالتالي محاولة علاجها. وهو ما سعى إليه الشيخ الصوفي المتدخل مرات عديدة ليقترح حلولا ووصفات جاهزة، تنبع كلها من عالم روحاني هوعالم الصوفية نفسه. هذا بالإضافة الى تيمات أخرى محايثة كالبطالة ومسألة التدين والحرية واستلاب الانسان أمام وسائل الاتصال الحديثة كالانترنيت، والحب بمفهومه الحديث عن طريق العالم الافتراضي.
إن المسرحية توهمنا من خلال عتبة العنوان (أسير اللايك) بارتكازها على مقومات افتراضية وسعيها نحو جمالية جديدة تتبنى لغة مغايرة هي لغة النيت برموزه وأيقوناته، لعل أهمها عبارة لايك like التي تعني الإعجاب والإنبهار بموضوع ما. والحقيقة أن هذه العبارة ما هي إلا اختزال لكل ما يأسر الانسان في المجتمع من عادات وأهواء لا يستطيع عنها فكاكا، فبنفس الحجم الذي قد يأسرنا الأنترنيت بعوالمه المتعددة والمغرية يمكن أن يأسرنا جهلنا وضعفنا تجاه ظاهرة ما، ونصبح عبيدا لها ونسبح في فلكها مسجلين على الدوام علامة (لايك) هذه، والتي تعني التبعية العمياء.
فمن عبق الأجواء الصوفية المفعمة بحركات منتظمة عبارة عن هز الرؤوس يمينا وشمالا يتزعمها الشيخ الصوفي بملابسه البيضاء وبعصاه، والذي هو بمثابة راو ومعلق على الأحداث أيضا في أكثر من مناسبة، تتناسل المشاهد بعد ذلك من خلال الانتقال من موضوع لآخر.
ولعل أهم هذه المشاهد، نجد مشهد الأسرة المكون من الأب والام والابن العاطل عن العمل، والذي يلاقي تعنيفا وسبا من قبل أبيه الذي يدعوه إلى ولوج سوق الشغل. وهذا الأب متطرف في تدينه ويجسد خطابا تواكليا، وموقفا تقاعسيا، بل ورؤية تكفيرية تجاه الآخر الذي لا يشاطره نفس الآراء. وهذا يجعل الابن تائها أمام قيم المجتمع من جهة وأمام مواقف أبيه التي تصدمه فيركن للخنوع والنوم متسائلا عن جدوى الاستيقاظ في هذا العالم الكسيح المليئ بالإحباطات، ومدى نجاعة مجموعة من القيم السائدة في المجتمع، من ضمنها الممارسة الدينية التي هي عبارة عن طقوس تطغى عليها المحاباة والتصنع، مادامت خطبة الجمعة هي موجهة أساسا لتعظيم السلطان أكثر من الإنسان.
كما أننا نجد في مشهد آخر حوارا بين المغني الذي أدى أغنية بالأمازيغية تتحدث عن الحرية، وغدر الزمان، والهجرة، وبين الابن العاطل. لقد كان فحوى هذا الحوار سياسيا محضا. وانصب أساسا على حال الوطن الذي لا يتغير والعبودية السائدة فيه.
ونجد تيمة الحب بارزة كذلك لكن بمفهومها الهجين والمرتبطة بعالم الأنترنيت من خلال نافذة الفايس بوك والدردشة الالكترونية والسجالات الغرامية وتبادل الإعجاب وأشعار الحب، لذا كان يتدخل الشيخ المتصوف كعادته مصححا مجموعة من الانحرافات بتعابير مسكوكة وبحكم صوفية مأثورة من قبيل (من لم يعشق الله عشق غيره، من لم يذب في حب الله ذاب في حب غيره،…) داعيا إلى حب حقيقي، والذي في اعتقاده هو الحب الصوفي الرباني المناقض للحب الدنيوي المادي، مستعملا مجموعة من الأشعار ليخلص في الأخير إلى تقديم مجموعة من الحلول واصفا حالة المجتمع بالمرضية، وأنها تحتاج إلى دواء، والدواء لا يكمن إلا في الحقيقة الصوفية بجميع طقوسها حتى يتم التحرر من كل ما يكبل الانسان ويأسره. وتنتهي المسرحية على إيقاع نفس الرقصة الصوفية (الحضرة) التي بدأت بها.
وإذا ما انتقلنا إلى الجانب الفني والرؤية الإخراجية للمسرحية فإننا نجدها مهلهلة وتفتقر إلى المهارة. فالمسرح رهين بالحركة والتشخيص الجيد والتنقل المنسجم والملائم للممثل على مختلف مساحات الركح، وقدرته على الإشتباك والتماهي مع باقي الممثلين والعلامات المسرحية، وهو ما كان غائبا في هذا العرض الذي يحتاج الى التهييئ الكوريغرافي (الجسدي) رغم أن فكرة المسرحية جيدة. ويعتبر موضوع التصوف واستلهام الاجواء الفرجوية والتراث الديني مجالا خصبا للاشتغال، وبالتالي مَسْرَحَته ومعالجته معالجة دراماتورجية. لكن يبدو أن تنوع المواضيع المطروحة دون رابط بين مختلف المشاهد والقضايا وضع المسرحية في حالة من اللاتنسيق والكولاج المتعسف فيه، حتى بدت بعض المشاهد مقحمة وفاقدة لمبرر وجودها على الركح كمشهد المغني الذي أدى الأغنية الأمازيغية. كما بدت بعض المشاهد رتيبة جدا ولم تأخذ بعين الاعتبار خصوصية العرض المسرحي الذي يركز على المشاهدة والفرجة من مثل مشهد الدردشة على النيت، من خلال الاشتغال على الحواسيب الألكتونية بين الفتاة والفتى، والذي كان مشهدا طويلا واستغرق مدة كبيرة وهما جالسان على الكرسي لا يبدو منهما أي حراك ولا تلفظ، فالمسرحية وظفت تقنية البلاي باي، وتسجيل حديث ثنائي عن الحب أذيع على الجمهور على شاكلة المسلسلات. وهذا المشهد في اعتقادنا أصاب المسرحية في مقتل، بحيث اكتفت المسرحية بِبُعْد السماع وحده فلا حركة ولا مشاهد تُرى ولا أداء تعبيري يُسْتمتع به.
ثم إن التشخيص المسرحي يعتمد على قاعدة المشاركة والتجاوب الفعال بين مختلف صانعي العرض لا سيما الممثلين تطبيقا لقاعدة (خذ وهات)، فمن غير المستساغ فرجويا أن نرى عدة أشخاص على الركح جاثمين كالدمى دو حراك في حين يتولى شخص من قبيل الصوفي احتكار الكلام، فلا إيماءة ولا تنقل يصدر منهم. هناك ثقوب كبيرة وفراغات شاسعة لا تأثيثا ولا حركة يجب ملؤها، حتى وإن اختارت المسرحية تقنية عدم الإسراف في تأثيث الخشبة، وهي تقنية جمالية دعا إليها في الغرب رواد (المسرح الفقير) لكن يجب الاهتمام بالعنصر اللعبوي واستغلال الممثل لحضوره استغلالا كبيرا سواء عن طريق التنقل المحكم أو الايماءة المعبرة أو الرقصة أو مجموعة من الشعائر والطقوس.
على العموم مسرحية “أسير اللايك” تحتاج الى إعادة معالجتها إخراجيا معالجة جديدة، وذلك باحترام مكونات العرض المسرحي، والمراهنة على جلب المتفرج عن طريق أسره في أحداث مترابطة ومشوقة عن طريق إبراز الصراع الدرامي، وتعاقب الأحداث بشكل منطقي ولا فجوة فيها دلاليا وجماليا، ومن ثم الابتعاد عن الخطاب المتعالي، المتكئ على لغة ربما قد لا يفهمها الجميع التي تستقي مفرداتها من القاموس الصوفي، والأجواء الروحانية الرتيبة.
2- مسرحية الصوت المغبون
تدور أحداث مسرحية الصوت المغبون في العراء، وتتعرض لعالم المنبوذين والمعطلين والمتشردين الذين لا سقف لهم. وغالبا ما تكون الأفضية المفتوحة مرتعا لشتى أنواع التلاقي والناس، حيث الكل يتعرف على الكل. وهذه المسرحية تصور لنا حالة أربعة أشخاص توحدهم البطالة ويجمعهم التسكع والضياع، فهم ينامون في الخلاء ويمارسون أحقر المهن كمسح الأحذية، والتي سعىت إحدى شخصيات المسرحية إلى تجسيد هذه المهنة وتعليمها بشكل ساخر لزميل له. ويسود السجال بين هؤلاء الأشخاص ليعودوا بين الفينة والأخرى إلى نومهم في ذاك العراء المقيت. وهو كناية عن سلبيتهم واستسلامهم لظروفهم. في عز نومهم وانبطاحهم أرضا تدخل فتاة وتترقبهم باندهاش متسائلة إن كانوا أحياء أو أمواتا. وهذا نوع من الحفر والتساؤل عن سيرة هؤلاء من قبل الفتاة، ويقوم كل واحد منهم مبررا حالته ومسلطا الضوء عن وضعيته، فكانت أجوبة التائهين الأربعة تصب كلها في خانة التردي وإثبات موتهم :
متُّ في زمن ماتت في الكرامة
متُّ عندما قطعت بحرا لا أحسن العوم فيه
متُ منذ تخرجت من الجامعة
متُ في الغربة، لا تسألوني لماذا.
و تأبى الفتاة إلا أن تستنهض هممهم وتحثهم على تجاوز وضعيتهم المشينة وتبث فيهم روح الحماس، مستغرقة في خطاب وعظي إرشادي. والظاهر أن شخصية الفتاة رمز للوطن، أو كناية عن الأرض التي ترغب في أناس ينشرون فيها الطمأنينة والسلام ويساهمون في تعميرها وإصلاحها، لذلك نجدها تنبذ كل المظاهر الزائفة من مثل تزييف الانتخابات، بل والتشكيك في جدواها. والمسرحية تستحضر بشكل جلي موضوع الانتخابات من خلال ظاهرة شراء الذمم، واستقطاب الأصوات عن طريق الرشوة. لذا سيبرز أحد المترشحين ساعيا إلى التأثير على هؤلاء الشباب بمنحهم مبالغ مالية مقابل التصويت عليه وعلى شعاره الذي هو (البرويطة). المسرحية تنحو منحا ساخرا في مشهد الانتخابات هذا، وهو أقوى مشهد فيها، إذ تجاوب معه الجمهور وصفق له. وخاصة عندما طلب منهم المتقدم للانتخابات أصواتهم، وهنا سيتم التلاعب بالألفاظ بشكل يعتمد على الكوميك الصادم، إذ سيبدأ الاشخاص بعرض مؤهلاتهم الصوتية والغنائية، وينخرطون في تجريب أغنيات بعينها بتهكم واضح.
لكن المسرحية سرعان ما ستزج بنا في مشهد آخر بدا غريبا ونشازا، إذ ستوظف شخصية الزعيم الليبي الثائر عليه (معمر القذافي) رمزا لاستبداد الحاكم العربي واستخفافه بشعبه، ولقد تقمصت المسرحية في ذلك خطبه بحذافيرها وتصرفاته حركة وملبسا. مما أسقطها في التقريرية، والتوظيف الغير الملائم في سياق هذا العرض، لتشيد المسرحية في المقابل بملك البلاد معتبرة أن وضع ليبيا غير وضع المغرب، وحتى وإن كان هذا المشهد عبارة عن حلم اعترى أحد الأشخاص الأربعة، بمعنى أن حضور القدافي ماهو إلا أضغاث أحلام ، إلا أنه أصاب المسرحية بخلل كبير في منظومتها المعرفية. وفي الأخير سيتم الثورة على المتقدم للانتخابات وعدم الرضوخ لمطالبه بل وطرده، ورفضهم لمنطق الرشوة والفساد.
من الناحية الفنية، فالمسرحية ظلت مفتوحة الستار على الدوام رغم تنوع المشاهد، ومجرياتها تدور في فضاء واحد لا يتغير. والتنوع عبرت عنه بعض المؤثرات الصوتية المستعملة بشكل مقبول في هذا العرض من قبيل صوت الذئاب والرياح تعبيرا عن فضاء الخلاء الموحش والمثير للخوف، وحتى هذا العواء قد يعبر عن الزمن الذي يفيد الليل. كما أن صوت العصافير يفيد انبلاج الصبح.
أما فيما يخص الأنساق المرتبطة بالفضاء (تأثيث الخشبة) فكانت فقيرة جدا، فلم يتم ملؤها بأي ديكورات أو اكسسوارات، باستثناء ملصقات ورقية صغيرة تدعو إلى نبذ الرشوة، ولقد وظفت المسرحية –بوعي أو غير وعي- صيغة الميتا مسرح عندما اعتبرت الانتخابات عبارة عن مسرحية يتم تمثيلها بإتقان، وبطل هذه المسرحية وهو الفائز في الانتخابات يختاره المخرج (الشعب). واللافت للانتباه وجود خطاب ساخر، أقرب إلى الكوميديا السوداء متحكم في هذا العرض، بحيث يتم تضخيم العيوب والتلاعب بالمفردات وقلب الحقائق، كما وقع في مشهد الغناء مع الشباب والمترشح للانتخابات. ومما يمكن تسجيله هنا، فرغم أهمية الموضوع الذي طرحته المسرحية والمرتبط أساسا بالواقع وبالفساد السياسي المتمثل في الانتخابات، وآفة الرشوة، إلا أنها سقطت في الخطاب السياسي المباشر والتقريرية، والحديث المطول بين الممثلين.
وفي الختام لا بد أن نشيد ونشجع مؤلفة ومخرجة هذه المسرحية فاطمة الزهراء لسين على اقتحامها عقبة الإخراج وبث الحياة في النص بتجسيده على الخشبة، لا سيما وأننا نعاني فراغا ونقصا كبيرين في وجود عنصر نسوي يهتم بالتأويل المشهدي وصناعة الفرجة وإدارة الممثل.
3- مسرحية الحراكة
تعالج مسرحية ” الحراكة” قضية مهمة استفحلت بشكل جلي في السنوات الأخيرة. إنها قضية الهجرية السرية، وامتطاء قوارب الموت، والرحيل نحو الضفة الأخرى التي يراها المتجهون نحوها أكثر أمنا وأوفر مالا وشغلا وكرامة. لذا فهم يتحملون كل أهوال الطريق وأشكال الموت والعذاب في سبيل تحقيق حلم الوصول.
وهكذا تصور لنا المسرحية بؤرة لانطلاق الأحداث ومكانا لالتقاء الشخوص في بدايتها، وهو عبارة عن غابة يجتمع فيها شخصان يودان الهجرة كما تدل على ذلك اللوحة المعلقة في عمق الخشبة التي تصور هذا الخلاء الممتد الأشجار (الغابة) مرفوقة بمؤثرات صوتية تحيل إلى حيوانات كاسرة. المكان موحش ويوحي بالخوف. يسود حوار مفعم باليأس بين الشخصين، ويتم التطرق إلى الواقع المغربي الكئيب الذي يدفع بأصحابه نحو مغادرته والهروب منه. لذا يستحوذ عليهما سؤال وجودي رغم بساطته، وهو: ما الداعي للهجرة؟ وهو سؤال محفز ومفجر للحكي ويوشي بما سيحدث لاحقا. سؤال سيجعلهما يتطرقان إلى وضعيتهما وظروفهما القاتمة. بعد ذلك سيلتحق بهما المشرف على الهجرة وصاحب القارب (المختار)، إذ سيدعوهما إلى تهييئ المبلغ المتفق عليه قبل الإبحار.
وفي المقطع الثاني من المسرحية، وهو مقطع خاص بالإبحار على ظهر القارب الذي ستجري فيه كل الأحداث المتبقية، بحيث سيبرز تذبذب وتردد الأشخاص المرشحين للهجرة، سرعان ما يعتريهم الندم ويندبون حظهم الذي ألقى بهم في أتون قارب ماخر لعباب الموت والمجهول. والمثير هو اعترافهم أنهم ما ركبوا البحر إلا اضطرارا. بل نجد المشرف على الهجرة نفسه لا يرضى عن هذه المغامرة ولا المهنة التي يزاولها. ومنذ البداية كانت الرحلة مفعمة بالقلق والكوابيس، كما كان الشأن مع أحد المهاجرين الذي استفاق على وقع كابوس جعله يصرخ عاليا في مجاهل البحر. بحر سيجعلهم عرضة للضياع وفقدان الاتجاه الصحيح للوصول إلى الوجهة المتوخاة. وما أن ظهرت اليابسة ووصلوا إلى شط الأمان حتى بدأ شخص ما يلوح لهم بيديه يلبس ثيابا مرقعة ورثة، وانخرط معهم في حوار باللغة الإسبانية متسائلا عن سبب مجيئهم، ومخبرا أياهم أنهم لم يحسنوا الاختيار بقصدهم لهذه الربوع، لأنه لا شيئ يغري فيها بالبقاء. لذا قرر القارب العودة بمن فيه من حيث أتى. والطريف أن الإسباني ترجاهم بحمله معهم إلى بلدهم. ونجد أنفسنا هنا أمام هجرة معكوسة ومضادة تخلخل مجموعة من القيم والأعراف السائدة في ثنائية شمال جنوب. وتتحدث المسرحية في أنفاسها الأخيرة عن العودة إلى الأصل والوطن باعتباره ملجأ آمنا وحضنا دافئا، وما الهجرة إلا وهم زائل، وما النعيم الموعود إلا طيف عابر، فالرخاء موجود في أوطاننا والخير كامن في ذواتنا.
وتعتبر هذه المسرحية إلى حد ما متماسكة البناء، ومنسجمة مع لوحاتها ومشاهدها، وتحمل في طياتها صراعا متصاعدا، وتزخر بثنائيات ضدية من مثل: (الرحيل/البقاء، الحياة/الموت، الحلم/الواقع، الأنا/الآخر…) وهذا أعطى للعرض طابعا تشويقيا.
وقمين بنا أن نشير إلى أن قضية الهجرة المعكوسة، وتحول بلد الاستقطاب إلى بلد نازح بسبب ما ألم به من أوضاع مزرية التفاتة ذكية من مؤلف النص، وترسيخ للأنا ضد الآخر، وإثبات للذات، ودعوة للتشبث بالوطن والجذور.
وإذا ما انتقلنا إلى الجانب الإخراجي من المسرحية، فيمكن القول إنها اعتمدت على ديكور وظيفي ومرن، وهو عبارة عن ستارة في عمق الخشبة. إنها لوحة تشكيلية تحيل إلى الغابة وهو موضع اللقاء قبل الهجرة، ثم نجد كذلك ديكور القارب، وهو عبارة عن مجسم خشبي صغير يتم امتطاؤه أثناء الرحلة، وفيه تدور معظم أحداث المسرحية وانعطافاتها المثيرة. وقد لجأ المخرج إلى مؤثرات صوتية عدة لإعطاء أبعاد وكثافة للمكان كالموسيقى الحزينة وهدير القارب طيلة الرحلة. كما وظف الأغنية سواء بشكل أدائي من قبل الممثلين وهم على متن القارب، أم من خلال البلاي باي (الأغنية المسجلة) في نهاية المسرحية عندما قرر المهاجرون العودة إلى الوطن، فتم استحضار أغنية تشيد بالبلد وميْزاته.
والملاحظ أن هذا العرض كلاسيكي في تقسيمه وفي تقنياته، ومباشر في رسالته. فمن حيث التقسيم، تبتدئ المسرحية بالدقات الثلاث وفتح الستارة وإغلاقها. وبهذا فهي مقسمة إلى قسمين أو إلى لوحتين: لوحة ما قبل الهجرة، ولوحة البحر. غير أن هذه اللوحة الأخيرة بدت طويلة جدا ورتيبة في جزء كبير منها وتم تطعيمها بعدة أحداث جانبية، وإغراقها بفيض من الكلام، مما أسقطها في الجمود وعدم الحركة، لأن الممثلين كانوا طيلة هذا المشهد جالسين في القارب وينوب الكلام عن حركاتهم واشتباكهم. كما أن غياب الإضاءة والتنوع فيها للدلالة على التغيير الزمني من قبيل (الليل والنهار) أو لإبراز الحالة النفسية وتغيير المواقف أضفى عليها نوعا من اللازمنية وأسقطها في نمط واحد ثابت.
على العموم مسرحية (الحراكة) عرض لا بأس به، وهو بذرة طيبة لأعمال قادمة أكثر نضجا واستعابا لمكونات العرض المسرحي. وفي اعتقادنا أنه عمل يحتاج إلى مزيد من الإعداد لا على مستوى الممثل ولا على مستوى الإخراج والسينوغرافيا.
4- مسرحية “أعيش أباغور”
توطئة
المسرحية الأمازيغية ” أعيش أباغور: فليعش باغور” لنادي مسرح الشباب بأزغنغان، وهي مسرحية من تأليف الأستاذ عبد الواحد عرجوني، ومن إخراج جماعي للنادي. شاركت بها الفرقة أول مرة في فعاليات المهرجان الجهوي الثامن لمسرح الشباب، بحيث عُرضت بالمركب الثقافي بالناظور يوم 04 مارس 2011 ، قبل أن يتم المشاركة بها للمرة الثانية في هذه الإقصائيات. مع إدخال بعض التعديلات الطفيفة عليها، واستبدال بعض الممثلين الذين جسدوا أدوارها.
تستند المسرحية على حكاية أمازيغية متداولة في الريف، مرتبطة أساسا بقلعة “ثازوضا” التاريخية، وبحاكمها المستبد المسمى “باغور”، الذي عاث في هذه القلعة فسادا وسام أناسها الذل والهوان حتى تم التخلص منه، وهي من الحكايات الشعبية الرائجة في المنطقة، تتداولها الألسن، وترويها الجدات، حتى غدا باغور في المخيال الشعبي الأمازيغي رمزا لكل ظالم مستبد. ولمزيد من الاطلاع يُرجع في هذا الصدد إلى الكتاب القيم لكل من يوسف السعيدي وعبد الوهاب برومي الموسوم ب” إقليم كرت: التاريخ والثقافة”، وهو كتاب يشير إلى هذه الحكاية الشعبية ويسرد متنها كما هي متداولة لدى الساكنة المتاخمة لقلعة ثازوضا المندثرة، كما يحاول الكتاب أن يربط الحكاية بسياقها التاريخي، وعرض الاسم الحقيقي أو المرجّح للحاكم “باغور”. والمثير كذلك في هذه الحكاية أنها وردت عند دارسين آخرين لكن بأسماء مختلفة وفي أمكنة مغايرة ونخص بالذكر هنا ما ذكره الأمريكي دافيد هارد في كتابه “أيث ورياغر قبيلة من الريف المغربي، دراسة إثنوغرافية وتاريخية” وهي مشابهة لحكاية المستبد باغور مع تغيير في الاسم وهو (الملك عزّي) الذي هو مستبد بدوره والذي سيتخلص منه هو (بوغدّار)، وهذا الملك حسب رواية هارد كان يحكم المنطقة المجاورة للحدود بين قبيلتي أيث ورياغر وإكزنن ، وبالضبط في مقره الرئيس أو قلعته المسماة (أزرو ن ثامزا)، وهذا يدل أن تيمة الاستبداد ومقاومته واردة بكثرة في الثقافة الشعبية والأساطير الأمازيغية. فما هي أهم القيم الفكرية والجمالية المتحكمة في المسرحية؟ وإلى أي حد استطاعت أن تقدم فرجة مقنعة ومتناغمة ؟
المكونات الفكرية
تبدأ المسرحية أحداثها انطلاقا من بروز شخصية الراوي الذي يظهر على الركح، ساردا حكاية “باغور”، إذ يُقرّ أنه لا يعرف من أين سيبدأ هذه الحكاية، نظرا لتشابكها، ولكونها مدونة في ورقة قابعة في أحد الصناديق المسيّجة بالقضبان. وهو الأمر الذي دفع به إلى كسرها، ومن ثم إماطة اللثام عن الحكاية، ونفض غبار النسيان الذي علق بها، وكأن هذه الحكاية، وهذا التاريخ الذي ترويه أُرِيد له أن يبقى مُغيّبا ومحاصَرا. وبانتشال الورقة من غَيّابة سجنها، تبدأ أحداث المسرحية، ويُصرّح الراوي أنه أفلح في التوصل إلى بداية الحكاية، وإن كان لا يدري في أي خانة سيصنفها: هل تنتمي فعلا إلى حقل الحكاية(ثحاجيت)، أم إلى القصة (ثقصيصت)، أم إلى التراث (أمزروي). والظاهر أن الراوي بهذا أراد أن يقول إن أحداث هذه المسرحية منفلتة عن قضية التجنيس، ولا يمكن أن يختزلها الفن عموما، وهي أكبر من التراث على رحابته، فهي الواقع نفسه في أبعاده المختلفة وأزمنته المتداخلة. فالمسرحية تشعرنا بأنه لا يوجد فصل بين الوهم والحقيقة، أو العام والخاص.
تُظهر لنا المسرحية شخصية باغور محمولا على كرسي، يسبقه حراسه ممتشقين سيوفهم، وجاريته تحمل مروحة تذُبُّ عنه، لتبدأ طقوس التقديس المرفوقة بالموسيقى والرقصات الاستعراضية. وهكذا يتم إضفاء هالة من التعظيم على باغور شأنه في ذلك شأن كل المستبدين. وبعد مشهد تقديم (الحاكم/ باغور) تنتقل بنا المسرحية إلى مشهد آخر، إذ على نقرات طبل المنادي أو البرّاح، الذي هو شخص الراوي نفسه المتقمص لأكثر من دور، ينادي أناس “ثازوضا” حاثا إياهم على الحضور واستقبال الحاكم في لهجة متوعدة، وإلا فإن أي غائب أو ممتنع عن الانصياع للنداء سيكون مُلْزما بأداء غرامة. وأثناء حضور سكان “ثازوضا” أمام مجلس باغور، يقوم بمخاطبتهم مبجّلا نفسه، ومبينا أنه (الكبير، والعارف، والفاهم، والملك،…)، لذا فإنه يخلص إلى أن “ثازوضا” تُخْتزل في باغور، والعكس صحيح. فالحاكم هنا محيط بالمكان، كما أن المكان دال عليه ضرورة، أي أن العلاقة وجودية بينهما، في حين أن الآخرين(الرعية) هامشية وتقوم على خدمتهما، لا سيما وأن باغور يُجْبِر كل شهر فردا من أقوى أفراد القلعة على حمله، واستعماله مطية يمتطيها ويجول بها البلاد، وليس هناك منزلة أعظم من هذه في العبودية والإذلال، ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل سيختار إحدى حسناوات القلعة ويتزوجها عنوة. وهذا ما سيخلف استياء عارما، وصدمة قوية لأم الفتاة التي ناشدت السكان تخليص ابنتها من المستبد الذي يفعل ما يريد دون رادع له، ويبطش برعيته كيفما يشاء.
ولقد أضفت المسرحية على شخصية باغور طابعا كاريكاتوريا، فغالبا ما لا يحسن الكلام والتعبير عن حاجياته، وهو الدور الذي يضطلع به خادمه/ حاجبه نيابة عنه، وهو ما يدفعه إلى اللجوء إلى لغة الإشارات والإيماءات.
ويتأزم الوضع أكثر بزواج باغور بالحسناء، وإقامة الطقوس الاحتفالية، وانخراط الرعية في الرقص والغناء بأهازيج محلية ومعبرة(رالا بويا). وفي الوقت الذي اعتقد فيه الكل ألا أحد بإمكانه أن يقف في وجه سلطة الحاكم القاهرة، سيظهر أخ الفتاة “أهمّار” حاملا سيفا يريد الثأر لأخته، ويسعى لقتل المستبد، وهكذا يدخل في عراك معه. وفي الأخير يتمكن من غلبه، إلا أنه لم يقتله بل سيأسره، لنرى مشهدا آخر، وهو مشهد قبوع الحاكم “باغور” وراء القضبان ومحاكمته وتذكيره بجرائمه المروعة والماحقة في حق شعبه. وسيتم التركيز في هذه المسرحية على أجواء المحاكمة الجماهيرية للحاكم، ليصبح الشعار المتردد في أرجاء الركح (الموت لباغور)، وهو شعار يردده كل سكان “ثازوضا” الحاملين لمعاولهم ولآلياتهم الفلاحية، وهذا يدل على أن رفض الحاكم لم يكن من قبل شخص واحد بل من طرف رعية بأكملها. و”أهمار” ما هو إلا الشرارة الأولى التي تصدت للطاغية، الذي كان عقابه المستحق في الأخير هو الإعدام شنقا جزاء لما اقترفته يداه.
ويظهر الراوي من جديد خاتما هذه الحكاية ومشيدا بها، مشعرا الجمهور أنهم بصدد تتبع أحداث حكاية غناها المغنون وتواترت خلفا عن سلف.
فالمسرحية دائرية تبتدئ من حيث تنتهي وتنتهي من حيث تبدأ. كما أنها تبدأ بالقضبان وتنتهي بالقضبان. فالقضبان الأولى منصوبة حول الحكاية، لكنها صغيرة وقابلة للتحطيم أمام عظمة الحكاية وقوتها، وعدم قابليتها للمصادرة. أما القضبان الأخرى المحاطة بالحاكم، فهي تمثل سطوة الزمن نفسه أمام زهق الباطل، وهي النهاية الحتمية للظالم وغلبة الخير على الشر. فالقضبان الأولى شاذة مثل لبنة وُضِعت في غير مكانها، في حين أن القضبان الثانية طبيعية واحتوت من هو أجدر بالاحتواء داخلها كلبنة أُرْجعت إلى مكانها الأصلي.
ولعل ثنائية الحياة والموت من الثنائيات المهمة في هذه المسرحية، وهذا ما ترسخه منذ الوهلة الأولى عتبة العنوان الموسوم ب” فليعش باغور”. فالمسرحية تؤسس لغواية تستفز المتلقي، وتشي بشخصية بطلها، داعية له بالدميمومة والاستمرارية، ولكن في الوقت نفسه يبقى العنوان منفتحا على نقيض المعنى الظاهري الذي يشير إليه، وكأن هذه الدعوة للحياة والمجد لباغور الطاغي قدْحٌ ونفي لها. والعنوان يضمر تتمة له، أو فراغا يتطلب ملؤه من قبيل “فليعش باغور مادامت رعيته ميتة”، الذي استحال فيما بعد وبالملموس ومن خلال تطور أحداث المسرحية ” فليمت باغور مادامت رعيته حية”. فهاتان الحالتان أضفتا على المسرحية صراعا دراميا محتدما.
المكونات الجمالية
بالقدر الذي كانت فيه المسرحية طافحة بقضايا فكرية وسياسية (الارتباط بالأرض، رفض الاستبداد، الدعوة إلى المقاومة،…) كانت كذلك تعج بعدة تقنيات وأساليب جمالية وفنية، فكل شكل يحمل في جوفه مضمونه كما يقال.
فالبناء المعماري للمسرحية يبدأ بالبرولوغ (الاستهلال)، وهو ما مثله الراوي بتقديمه للأحداث، وكشفه عن الحكاية الشعبية باعتبارها مرجعية للانطلاق، ومادة للتمسرح. كما ينتهي ب إبيلوغ(الخاتمة)، الذي هو عبارة عن خطاب إجمالي، يبين الخط النهائي الذي آلت إليه المسرحية، ولقد قام بهذا الدور أيضا الراوي، الذي أنهى حكايته وأشاد بها.
أما أحداث المسرحية التي هي عبارة عن مشاهد متداخلة، فهي متسلسلة بشكل غير متقطع، لا زمنيا ولا مكانيا، ودون خرق للوحدات الثلاث (الزمن، المكان، الحدث). فالأحداث تتطور عارضة المشكل في البداية، ثم تأزيمه وتذليل العقبات بعد ذلك.
فالحبكة متسلسلة تسلسلا منطقيا (عرض أفعال إنسانية، ظهور أزمة وتطورها، الدخول في صراعات نفسية ومادية ، حلول لهذه الأزمة وانتفاء للصراع بغلبة طرف على آخر).
فبخصوص وحدة الفعل نجد المسرحية تتحكم فيها قصة أو حكاية واحدة من غير مضاعفة للأفعال أو تطعيمها بحكايات أخرى جانبية. وبتمعننا في وحدة المكان نلاحظ أن شخصيات المسرحية غالبا ما تتحرك في مكان واحد وهو فضاء القلعة أو باحتها، ودونما إحالة إلى أمكنة أخرى ولو على مستوى التلفظ أو الإشارة. ففي فناء القلعة دارت معظم الأحداث، ويرى الدارسون أنه عندما يتعلق الأمر بفضاء مفتوح وساكن للقلعة أو القصر فإنه يشكل مكانا مثاليا لكشف الأسرار الخاصة والعامة وإفشاء الحقائق، وهذا ما وقع مع باغور وفضائحه إزاء شعبه.
أما وحدة زمن المسرحية، فهو زمن لصيق بالحكاية وأحداثها ومرجعيتها التاريخية إبان قيام فترة حكم خاص بحيز جغرافي يطلق عليه “ثازوضا”، منفلت وثائر عن الحكم المركزي في المغرب آنذاك. وزمن الحكاية مرتبط بفترة حكم “باغور” الاستبدادي ذي الطابع الأسطوري. لكن رغم محدودية زمن المسرحية، فإن أحداثها قابلة للتعميم، لأن الاستبداد واحد، والشخصيات الطاغية تتكرر في جميع الأزمنة. فكما هو معلوم فالارتداد إلى الزمن الماضي (توظيف التراث) ليس غاية في حد ذاته، وإنما هو وسيلة لربط الماضي بالحاضر، وطرح قضايا معاصرة في قالب تاريخي.
ولقد سعت المسرحية إلى توظيف ديكور مرن يحدد موقع الأحداث ومنطقة الأداء دون بذخ أو التزام بالدقة التاريخية بكل تفاصيلها. فالديكور عبارة عن ستارة معلقة في فوندو الخشبة مرسوم عليها القلعة بأسوارها والتضاريس المحيطة بها، فهي اقرب إلى اللوحة التشكيلية، لذا فإن فعل الدخول والخروج لم يكن يأتي من هذه الستارة/الحاجز، أو من أحد أيقوناتها المشيرة إلى منافذ وأبواب معينة، بل كان في الغالب الأعم آتيا من يمين أو يسار الخشبة. وهذا ما يجعلنا نعتقد أن الديكور الموظف في هذه المسرحية والدال على المكان يحيل إلى فضاء كلي، ذي طابع محايد وقابل للتعميم. كما أن هذا الديكور مركب ومتعدد الوظائف، إذ تم طَي هذا الستار الحاجز وتحويله إلى سجن وُضِع فيه في نهاية المسرحية المستبد(باغور). هذا فضلا عن ديكور آخر ظرفي ومتنقل، وهو مرتبط بالمهمات المسرحية، لكنه جد مهم ومعبر. فالإعدام يستلزم أدوات لذلك (المشنقة)، والعراك يقتضي (السيوف). وعلى العموم فإننا يمكن أن نميز بين صنفين من هذه الأدوات: أدوات في خدمة باغور وتسعى إلى تمجيده من قبيل(الكرسي، الطبل، المزمار، المروحة، القفة، الكيس،…)، وأدوات قوضت أركان قلعته وعجلت بنهايته من مثل( السيف، السجن، المشنقة،…).
ولأن المسرحية تحمل تكثيفا دراميا وصراعا بين الخير والشر، فإنها ميزتها حركات متنوعة، يمكن تلخيصها في الآتي:
- حركات إيمائية إشارية دون تلفّظ مصاحب، في مشهد باغور مع حاشيته، وهو مشهد أقرب إلى البانتوميم، حيث نابت حركات الممثلين عن الكلام، ولعبهم كان صامتا لكن معبرا.
- حركات القتال والعراك في مشهد المبارزة بالسيوف بين “باغور” و”أهمار”.
- حركات راقصة تعتمد على بلاغة الجسد، باعتباره نصا دراميا موحيا، وله قدرة كبيرة على التواصل وتحقيق المتعة للجمهور. والحقيقة أن الجانب الكوريغرافي الراقص والمتماهي مع الموسيقى كان حاضرا منذ بداية المسرحية. ولقد تجلى هذا في الحاشية المرافقة للحاكم التي مارست طقوسا راقصة بالسيوف بشكل متناغم، وتَرسّخ أكثر في الرقصات المصحوبة لأهازيج (رالا بويا) التراثية، أثناء الاحتفال بعرس باغور، وهي رقصات جماعية مؤثرة تَجاوب معها الجمهور كثيرا.
- حركات عادية(التعبير المادي المحسوس للجسم)، المركونة إلى نظام من الدلالات والإشارات البدنية والصوتية المتبادلة بين الممثلين، وهي متنوعة نقتصر على اثنتين منهما:
- حركات خاضعة تدل على الخنوع كالانحناء والتقهقر، وتنم عن تبجيل شخص، كما وقع مع الطاغية باغور، إذ تنْحني له حاشيته وتحمله على الأكتاف.
- حركات متسيّدة، تدل على السيطرة والجبروت، وهي حركات باغور نفسه، وإن كان طرأ تغيير على طبيعتها في نهاية المسرحية، نتيجة تطور الأحداث وانعطافها، فأصبحنا أمام جدلية السيطرة والخضوع، “فباغور” يتحول من متسلط متسيد إلى قابع في السجن، جاثم على ركبتيه، وخانع مطوق بحبل مشنقة.
لا يمكن أن تكون الحركات متطورة وجلية دون تطور موازي في أساليب الإضاءة وتنوعها، أو التقليص من مساحة الخشبة دون استعمال الإضاءة والتركيز على منطقة معينة بتصغير دائرة الضوء، كما أن سرعة الإضاءة المصاحبة لمختلف أنواع الحركات، من أنجع مكونات العرض المسرحي في تشكيل الإيقاع الدرامي. إلا أن الملاحظ في هذه المسرحية أن الإضاءة كانت ثابتة ، ولم تعرف تنويعا في الألوان، أو تحوّلا في درجتها وقوتها حسب الحالة الانفعالية والشعورية للممثلين، فهي لم تتوَلّ التعليق على الأحداث، فانحصرت مهمتها في الانتقال من مشهد لآخر عن طريق الإظلام والإنارة ولعل هذا راجع لعدم توفر القاعة على المعدات الخاصة بذلك، وهو ما يجب تداركه مستقبلا.
أما الموسيقى التصويرية فكانت متنوعة، وجعلت المتلقي في بعض الأحيان مشاركا في العرض/الحفل، خاصة عندما يتعلق الأمر بالموسيقى الراقصة. وفي هذا الصدد وظفت المسرحية أغاني جاهزة محاولة التوفيق بين الموقف والموسيقى المصاحبة، والاعتماد على توليفات فرجوية وإبراز العنصر الجمالي من منظور سمعي.
ثمة ملاحظتان جانبيتان لا بد من إبدائهما ونحن نتابع هذه المسرحية:
الأولى تتعلق بالممثل الذي أدى دور “باغور”، فالظاهر أنه قد تجاوز الأخطاء التي وقع فيه الممثل السابق أثناء العرض الأول للمسرحية وأستطاع أن يتقمص دوره بشكل جيد (المعايشة الصادقة) بعدما كان سابقه في وضعيات متنوعة يخضع في الأعم لتراتبية واحدة ولأداء نمطي سواء وهو ثاوٍ على كرسيه، أو وهو يجوب الركح. إذ لا نجد تنغيما كبيرا في تعبيراته الوجهية وحركاته حسب تبدل المواقف.
الثانية ترتبط بالتركيب الدرامي الذي كان مُتقنا، وعرفت أحداثه وتيرة تصاعدية ومتنامية عضويا، ولكن مع ذلك وفي اعتقادي الشخصي، فإن مشهد المواجهة بين “أهمار” و”باغور” قصير جدا، وتم القفز عليه بسرعة، وهو بؤرة المسرحية، وتحولها نحو مصير آخر، فكان من الأفضل أن يدوم دراميا أكثر، ويمتد هذا الصراع على مستوى المواجهة اللفظية، وتذكير “باغور” بمجازره في هذه المواجهة، أي يجب أن يكون هناك تراشق كلامي بين الشخصين لينتهي الأمر بالمبارزة، وليس تأجيل ذلك إلى مشهد المحاكمة. وهذا أكيد أنه كان سيجذب المتلقي أكثر لأنه يخلق عنده ما يسمى في اللغة المسرحية بالتوتر، ويجعله يتوقع نهاية معينة أو يتمناها، والتوتر الدرامي الناجح هو الذي يتعلق بتفاصيل الأحداث وليس بالنهاية. كما نرى أنه من الأفضل لو تم الاستعانه بتقنيات سنيمائية من قبيل تقديم مشهد مقتضب جدا عن طريق ما يسمى بالفن الوسائطي كعرض شريط حقيقي في دقيقة أو دقيقتين عن قلعة ثزوضا، يدرج بطريقة لا إقحام فيها في إحدى مقاطع المسرحية، وذلك باللعب على ثنائية الوهم والحقيقة، وكذا خلق عنصر الإدهاش.
الخاتمة
تمثل مسرحية “اعيش أباغور” تجربة جرّيئة ومتميزة في التعامل مع التراث،جماليا ودلاليا، إذ ارتدّت إلى الذاكرة الشعبية الأمازيغية وتمكنت من استثمار لحظاتها المشرقة وصفحاتها الخالدة، مركزة على قيمة الإنسان الامازيغي التائق إلى الحرية والرافض للظلم، مبينة خصوصيته وتقاليده. ورسمت المسرحية في تقديمها للأحداث خطا واقعيا وواضحا لم يركن إلى أي انزياح دلالي، ولم تعمد إلى خلق صدمة أو دهشة في تغيير مسار المأثور الشعبي الذي اتكأت عليه. ولعل الرهان المهم الذي كسبته فرقة نادي مسرح الشباب بأزغنغان هو الكشف عن طاقات موهوبة تعِد بالكثير في مجال التمثيل والفرجة والإبداع عموما. وبهذا استطاعت أن تنجز عرضا ممتعا تجاوزت به حدود زمانها ومكانها المقترحين، ونجحت في جذب جمهور واسع أسَرَتْه طيلة مدة الفرجة المُقدَّمة.
تركيب عام
يعتبر مسرح الشباب ركيزة مهمة في صرح المسرح المغربي، ومن أغنى الروافد التي صبت فيه وزودته بطاقات شابة. فالمسرح رهين بالمؤسسة وبمختلف الفئات العمرية، لذا وجب توفير الشروط الضرورية لقيامه ونجاحه، ونخص بالذكر البنيات التحتية اللازمة. فالمسرح في الدرجة الأولى صناعة. لكن للأسف مازالت مؤسساتنا التعليمية شبه خالية بكل ما يمت بصلة إلى فن المسرح بناية وتأطيرا ودعما، فما زال يعتبر هذا الفن النبيل مادة من مواد الأدب والمؤلفات، وفي أحيان كثيرة تسلية وترفا فكريا. وحتى المركبات الثقافية والسوسيو تربوية المشيدة في البلد معظمها لا تتوفر على قاعة ذات مواصفات مقبولة للعرض المسرحي. ولعل هذه الإقصائيات خير دليل على ذلك، فالقاعة التي أجريت في العروض لم تكن صالحة للعرض المسرحي، وكانت معرقلة لمجرياته لا سيما وأن الخشبة كانت ضيقة (حوالي خمسة أمتار في ثلاثة أمتار)، وهي أصلا صممت للندوات. كما أن الأجهزة الخاصة بالإنارة لم تكن مثبته فيها، لذلك جاءت كل العروض مفتقرة لمكوناتها البصرية، ومن ثم لم تساهم الإنارة قط في تحديد إيقاع الفرجة، ولم تتدخل في التنويع المكاني أوالتعاقب الزمني، ولا تنويع طبائع الشخصيات ونفسياتها. مع ذلك لا يمكننا إلا أن نصفق للمجهود الجبار الذي بذلته الفرق المشاركة، وسعيها نحو إيصال رسالتها الفنية للجمهور، والدفاع عن فن مهدد بالتراجع أمام فنون أخرى حديثة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.