مظاهرات في الشوارع؛ ملايين السوريين موزعون داخل سوريا وخارجها كنازحين ولاجئين، مئات ألوف الشهداء، مئات ألوف المعتقلين والمفقودين والأرامل والمشوّهين، مناطق بأكملها محاصرة، وكتائب عسكرية أقرب للإسلامية، ونظام دولي وإقليمي يساهم في إطالة الصراع في سوريا، وصراع دموي. وبالتالي يحق لجميع السوريين، موالين ومعارضين التساؤل: إلى أين وصلت سوريا والثورة تدخل عامها الرابع؟ لنقرّ بداية أن ما حدث ويحدث في سوريا هي ثورة شعبية عارمة ضد نظام مستبد، وقد تعقّدت مساراتها كثيرا. وتتخذ في عامها الرابع شكلا وحيدا، ولنقل فيها شكل مهيمن بالكامل، وهو المكون العسكري، وله صبغة طائفية يقابل فيها نظام يقدم نفسه كحام للأقليات. وبالتالي ومنذ عام تقريبا والآن، يصح القول بمقدار كبير: إن الثورة تحولت إلى صراع مسلح، وفيها خطاب طائفي تشكل كردة فعل ضد نظام يستخدم المنطق الطائفي، ولكن طبيعته الحقيقية أنه نظام شمولي، وناهب لكافة فقراء سوريا. قولنا إن في الثورة خطابا طائفيا لا يعني بحال من الأحوال، أن كافة الكتائب طائفية، ولا يعني أن الطائفية محصورة في المكون العسكري، فهناك كتائب غير طائفية وهناك قوى سياسية دعمت الخطاب الطائفي، كالمجلس الوطني وإعلان دمشق وجزء كبير من الائتلاف الوطني، بل إنّه تبنى المنطق الطائفي في فهم الثورة، وهذا يتلاقى مع رؤية النظام للثورة، أي أنها ثورة طائفية، ويتلاقى مع خطاب النظام المضمر والعلني لمواليه أنه حامي الأقليات وحامي الدولة بالعموم. «جنيف 2» الذي عُقد قبل بضعة أسابيع وفشل، قد يتأجل عقده مجددا ما لم يحدث تغيّرا عالميا، يدفع أميركا بالتحديد إلى موقف صلب من النظام أو تغير داخلي يتعلق بسلاح نوعي، وبالتالي وبما يخص الخارج ودول الإقليم المرتبطة به، لا يبدو أن لديها سياسات مختلفة عما جرى خلال الأعوام الثلاثة، بل إن ما نراه من خلافات ضمن مجلس التعاون الخليجي والصراع بين قطر والسعودية والآخرين، قد يلعب دورا سلبيا إزاء الثورة السورية، وقد يساهم في إبقاء الوضع على ما هو عليه، ليكون الاستنفاع هو الواقع المستمر، وحينها سيعزز التشكيك في مفهوم الثورة السورية كثيرا، ولن يدفع مجددا نحو عقد جنيف بضغط عال لبدء المرحلة الانتقالية. المعارضة التي أشرنا إليها لا تزال غارقة في غباء منقطع النظير، فلم تفهم سياسات الدول العالمية ولا الإقليمية، وانعدام المصلحة بدعم ثورة شعبية، وكان يفترض فيها وبعد ثلاث سنوات من الكذب والدجل أن تفهم أنها دول ولا تدعم ثورات شعبية لإسقاط الأنظمة، بل توظف الثورات لمصالحها الإقليمية، وهو ما فعلته كل من قطر والسعودية وتركيا وأميركا وسواها، وبالتالي كان على المعارضة تغيير سياساتها ورؤاها نحو تفعيل الداخل في المدن الكبرى وفي المناطق التي لم تثر بسبب السياسات الرديئة للمعارضة، وفي رفض أية جهاديات تنسب نفسها إلى الثورة. هذا لم يحصل، ولا تزال المعارضة التي أصبحت تابعة لدول خارجية تكرر السياسات الغبية ذاتها، وتثرثر طيلة الوقت إما عن سلاح نوعي أو حظر جوي، بل ووصل الأمر ببعض السياسيين لطلب تدخل من قبل إسرائيل لتشكيل منطقة حظر جوي تكون، مدخلا لإسقاط النظام ومواجهة الجهاديات! وهذا تفكير في غاية العجز ويوضح الغباء المستحكم بعقل المعارضة السورية. لا يمكننا ورغم كل التقييم السلبي المشار إليه أعلاه القول إن الثورة انتهت، وأن ما يجري هو صراع أقرب منه إلى الطائفي؛ فرغم الخطاب السلطوي الطائفي ورغم الخطاب الطائفي لجزء من المكون العسكري، إلا أن الثورة لا تزال شعبية، وغياب المظاهرات بالمعنى الواسع لم يحجبها كلية، وبقيت شذرات منها تندلع هنا وهناك ضد النظام وضد الجهاديات، وأن مجرد غياب قدرة النظام على استعادة المناطق التي خرجت إلا مدمّرة بالكامل، يشير وبوضوح شديد إلى أن الثورة لم تنتهِ ولكنها لم تنتصر وفيها تعقيدات كارثية كذلك، وتتعقد الصورة بشكل أكبر فأكبر. ما الحل وقد حدث ما حدث؟ أولا، ليست هناك وصفة سحرية لحل تلك التعقيدات، وربما تستنقع كذلك، ولكن ما هو ضروري، هو القول إن المعارضة السورية من جنس النظام، أي ليست مهتمة بالثورة ولا بسوريا، ومعنية فقط بالوصول إلى السلطة وعبر التدخل الخارجي أو تبرير الطائفية، وبالتالي ساهمت في تأجيل انتصار الثورة. ثانيا، إن فوضى السلاح، وجهادية الكثير من الكتائب، توضح أن المكون العسكري أصبح بشكله الحالي عبئا حقيقيا على الثورة وعلى الناس وعلى سوريا، وهو كما النظام يساهم في تدمير الثورة، وفي تعزيز كل ما هو مضاد لقيمها، وهذا يتطلب جدلا حقيقيا يناقش كل هذه الفوضى، وتنظيم عمله، ضمن رؤية وإستراتيجية وطنية، وطرد كل جهادية منه، واعتبارها بمثابة ثورة مضادة وتساهم في إطالة عمر النظام وتأخر انتصار الثورة، وأن سقوط النظام حاليا لن يقود نحو تحقيق أهداف الثورة بل نحو تحقيق الثورة المضادة، وقد يشهد الواقع صراعات أهلية في أكثر من مدينة وبلدة، وبالتالي فوضى عارمة. لا بد من العمل مع المنظمات الدولية المعنية بشؤون المواطنين من أجل العودة إلى سوريا، وليس الاكتفاء بتوزيع جزء من المساعدات داخل سوريا وخارجها؛ وهذه العودة هي حق أولي للسوريين، ولا يجوز اشتراطها بأية حلول سياسية في جنيف وسواه. الثورة تغير وجهها كثيرا، والمكون العسكري بصيغته السائدة أقرب إلى الثورة المضادة، وما يحدث يدفع بسوريا نحو كوارث مضاعفة، وبالتالي الواقع كله ضد استمرار النظام ولكن الصراع المسلح وهيمنة الصراع المسلح لا يساعد في إسقاط النظام، والخطاب الطائفي يعقد ذلك كثيرا. وبالتالي هناك ثورة مستمرة ولكنها في غاية الالتباس والتعقيد، وهناك نظام مستمر بدعم إقليمي وروسي، وهناك نظام إقليمي وعالمي يعيد إنتاج النظام بالقول بالحل السياسي، ومعارضة عاجزة وسعيدة بتبعيتها. هذه هي اللوحة القاتمة في سوريا.. ولا توجد مؤشرات راهنة لتغييرها... *عن الأهرام