مرايا وجدانية للعالم وحركة رمزية في التعبير البصري تعرض الفنانة التشكيلية العصامية خديجة الفاروقي الملقبة ب»الفيلالية» إلى غاية 3 نونبر 2013 برواق المركب الثقافي سيدي بليوط بالدار البيضاء جديد أعمالها التي تجسد إرادة الحياة و فكرة الإنسان المثالي. فهي دائمة البحث عن الروح الخفية للكائنات و الأشياء في ضوء لغة بصرية اختزالية تتسم باقتصاد الألوان و الأشكال، و بكيمياء العواطف (أتذكر مقولة العالم النفساني ألفرد أدلر). في حضرة لوحاتها الفنية ننعم بأنفاس الفاعلة الجمعوية و النشيطة الإنسانية التي سخرت حياتها لخدمة قضايا الشباب و الطفولة بحس اجتماعي قل نظيره. إنها تقدم لنا واقعا لا خيالا ، و شعورا انطباعيا لا منطقا رياضيا. كما أنها لا تقدم لنا فلسفة أو شعرا بصريا فحسب، بل إيمانا صوفيا ، و أملا جديدا، و حلما إنسانيا يقظا. فخارج كل نزعة تيئيسية أو تذمرية، ترسم الفيلالية متاهة العالم، و حقائق العيون البشرية بصيغة أسلوبية تزاوج بين التعبير التجريدي الخالص، و التعبير الرمزي شبه الهندسي، آمنة بكل ما هو جميل و مفيد في آن. لقد أتت إلى عوالم التصوير الصباغي من مجال الديكور الداخلي و عدد وازن من الفنون الجميلة، رافضة الانشغال بالآخرين و مصادرة حقوقهم في الحياة و الوجود معا. إنها تحمل رؤية إيجابية للعالم، و تلتزم بكل ما هو جديد و فاضل في سلم قيم المجتمع مراهنة منذ البدء على الطفولة و الشباب، و مثمنة الميثاق الوجودي المقدس بين المرأة و الرجل. هكذا ، تشتغل الفيلالية في إطار مشروع جمالي ينم عن أنها سليلة الحركة الرمزية في التعبير البصري، حيث تنفذ بعمق إلى الروح الإنسانية بعدما نزعت عنها هالات الأسطرة و الأدلجة. إنها ترسم ما تحس به بلغة تلقائية و إنسانية لا افتعال فيها و لا إطراء. في لحظات تأمل لوحاتها الفنية ذات الطابع الشذري ، يخيل إلي و كأنها ترى إلى الفن من أجل الفن كما رأى الفيلسوف الألماني نيتشه إلى السياسة باعتبارها فضاء مفتوحا على ممارسة فضيلة الكشف و البوح ، و على حرية السؤال و البحث عن إشارات الاستفهام، و علامات الوقف و التعجب و الدهشة و الاستحالة. فخارج كل محرم سياسي و طابو اجتماعي، تقدس الفيلالية دينامية الحياة و قدرتها على النمو و الارتقاء بشكل يذكر المنشغلين بقضايا الثقافة بالأصل اللغوي لكلمة الطبيعة (Physis et natura). إنها تحلل بأسلوبها التصويري ذي النزعة التعبيرية الغرافيكية عناصر الطبيعة المطبوعة، مفصحة عن قوتها الهادئة، أقصد قوة حيويتها الروحانية الباطنية، التي جعلتها تختزل في أعمالها الإبداعية بعض شذرات الفكر و الإحساس معا. لا تعيد الفيلالية إنتاج مأساة القدر الذي أصبح يسير على قدمين في عصرنا الحالي، بل تراها تترك كهف الفلسفة العدمية أو الفوضوية الباردة، و تتمسك بروح الأفكار النبيلة المتحررة من كل تعصب أو شوفينية، و كأنها تشن ثورة هادئة باسم القيم و الأخلاق التي أصبحت مهددة بفعل المد الليبرالي المتوحش. بجرأة و جسارة، تكتب الفيلالية فصلا جديدا من فصول سيرتها الذاتية، معتبرة المرأة هي محور الحياة (أتذكر أن نيتشه اعتبر الحكمة أنثى و لا تحب الأنثى إلا الرجل المكافح الصلب). ألم يقدس كوزيما ، زوجة فاغنر، بوصفها مثالا للمرأة النموذجية، و لقبها الربة أريادون زوجة الإله الأسطوري ديونيسوس؟ إن الإنسان من منظورها الجمالي كائن يجب أن نتصالح و نتعايش معه بدل أن نتفوق عليه. تشبعت بشطحات الموسيقى و مراقي الرقص الكلاسيكي، و طرائف و مغامرات التعليم المدرسي، و انتهت بها الرحلة إلى إشراقات اليقظة البصرية في معبد التشكيل، منتشية على إيقاع الألوان و الأشكال و كأنها تعزف سيمفونية صامتة، أو تردد ما كتبه نيتشه إلى بيتر جاست : «إلى قائد الأوركسترا بيترو : غن لي أغنية جديدة... العالم يتحول ... و السماء بكاملها مبتهجة». هكذا، أدركت على التو لماذا أصرت أن تصاحب إيقاعات البيان عوالم افتتاح معرضها الفردي برواق المركب الثقافي سيدي بليوط، حيث كان العزف بصيغة المؤنث، و تحولت معه و به ردهات المكان إلى «أوديون» باللغة الإغريقية. أدركت، أيضا، لماذا أعلن الفيلسوف شوبنهور و هو على قمة شهرته أن الموسيقى قادرة دون شك بوسائلها الخاصة على التعبير عن كل حركة للإرادة و كل شعور. ألم يكتب ، أيضا، نيتشه مؤلف «ميلاد المأساة من روح الموسيقى» في أسلوب شعري، و وجداني، و غنائي؟ إن هذه الخلفية الموسيقية الصامتة (أسس لها ، نظريا، الفنان العالمي بول كيلي الذي أجد بعض معالم آثاره في لوحات هذه الفنانة رغم أنها لم تتواصل قط مع أجوائها البصرية) هي التي تؤطر عوالم الفيلالية، و تتحكم في نسج خيوط روحها المرنة و المرحة مرونة و مرح الأطفال الباحثين عن كياناتهم الوجودية التواقة إلى السلام و الراحة و السكون. بعيدا عن تشاؤمية شوبنهور، تقدم الفيلالية دروسا في حب الحياة و في الحق في الفرح، حيث وجدت في التصوير الصباغي متنفسا روحيا و ملاذا طبيعيا للتغلب على المآسي و الأحزان، و لمقاومة نزعات الخوف و الألم و اليأس. في هذا الصدد، تنشد هذه الفنانة الحالمة عمق التجارب و اتساع مداها، إذ تجد في التفاؤل الفرح (لا التفاؤل الحزين أو التفاؤل في المأساة) قانون الحياة و سر توازنها الخفي. كما أنها تحتفي في لوحاتها الإبداعية ذات الأجواء المشهدية الغرائبية بعمق الغريزة و مثالية الفكر لا مأساته، و ذلك في نشوة روحية و طرب ديونيسي نستحضر من خلاله و عبره روائع رتشارد فاغنر، و باخ، و بيتهوفن. آمنت الفيلالية على غرار الفنانين المستقلين من جيلها بأن الإبداع الحقيقي يستمد روحه من فلسفة إنسانية خالصة عسى أن يبزغ من مملكة الجمال الفني فجر مصالحة جديد. رفعت قيمة اللحن اللوني فوق الكلمة الصامتة للشكل، و حللت بعين الرسامة الجمالية عناصر مواضيعها المفضلة (الطفولة، المرأة، الطبيعة...) في علاقة رمزية بالأعماق الباطنة للوحة بوصفها أداة الظاهر و رموزه و إيحاءاته. إن الرسم من منظور الفيلالية كالموسيقى قادر على إعادة ترسيخ القيم الجمالية، و تحويل عالمنا الإسمنتي الأصم إلى مجال أروع و أفضل ، فهو فن الانفعال و التأمل معا الذي نمارس من خلاله تطهيرا فرديا و جماعيا في الآن ذاته، كما يؤهلنا هذا الفن البصري إلى إضفاء روح الانسجام و النظام على حياتنا المهددة بالفوضى العارمة. في حضرة أعمال الفيلالية المعروضة برواق المركب الثقافي سيدي بليوط نتمثل ، جليا، بلاغة الخيال الواقعي الذي يؤكد ، إيجابيا، الحياة، و يمجد قيمها الفردية و الجماعية معا. أليس الفن الصباغي كالموسيقى يتيح لنا مهربا ، و فترات من الهدوء و السلام (أتذكر مقولة شوبنهور) ، إذ ننتقل ، بعفوية و سلاسة، من الإرادة إلى التخيل ، و من الرغبة إلى التأمل. كما نسمو فوق عالمنا الأصم، دليلنا في ذلك هذا السهل الممتنع الذي يسكن عوالم اللوحات المعروضة، و يحدث تأثيرا عميقا في وجداننا و خيالنا. تحية للفنانة الفيلالية لأنها نذرت حياتها لخدمة الحقيقة التي بذلت من أجلها تضحيات جسيمة في أعمالها الاجتماعية كما في لوحاتها الإبداعية. إنك بالقوة و بالفعل ، فنانة الحياة و مهندستها الاجتماعية بروح مثالية تنم عن سخاء الروح ، و نكران الذات. أدري ، الآن ، لماذا اخترت نقاء الهواء، متقربة أكثر من ذي قبل مئات الخطوات من حياة الطبيعة بدار بوعزة بعيدا عن صخب المدينة و وحشيتها الكاسرة. أشعر كيف تحيين الآن في محترفك باحثة عن التوازن في أدق الأمور. لقد فطنت تماما إلى هذا الأمر الجوهري الذي أكسبك هدوءا نفسيا و عمقا روحيا للعيش من جديد بين الناس الذين تتقاسمين معهم حرقة الإبداع و فتنته، معتبرين الكتابة التشكيلية فاكهتهم الرمزية قادرة على تطهير الروح و تجميلها. تحية لهذه الفنانة لأنها آمنت بالطفولة في الحياة و الإبداع معا، و ساهمت من موقعها الاجتماعي و الاعتباري معا في رعايتها بإيثار و غيرية. إنها إرادتها القوية التي تفنذ أطروحة نيتشه : «أيها المبدعون... كل مولود جديد يأتي برجس إلى العالم، فعلى كل مبدع أن يطهر نفسه». أخالها تردد في صمت و خشوع : «أيها المبدعون... كل مولود جديد يأتي بإشراقة إلى العالم فعلى كل مبدع أن يطهر نفسه». (ناقد فني)