بعد نجاح معرضها، الأول، الذي احتضنه رواق المركب الثقافي أنفا بالدارالبيضاء، منتصف الشهر الماضي، تعود الفنانة التشكيلية المغربية ليلى العراقي إلى الساحة الفنية وذلك بعرض بعض أعمالها، في معرض جماعي، يجمع 13 فنانا تشكيليا، بالمركب الثقافي سيدي بليوط يوم 23 مارس الجاري. وتندرج أعمال الفنانة العصامية الدكتورة ليلى العراقي، التي دونت شهادة ميلادها بأزيد من خمسين لوحة أنجزتها في سنتين تقريبا، ضمن الحساسية الجديدة، خصوصا الاتجاه التعبيري، وتتميز تجربتها بالاشتغال على مواضيع المغرب العتيق، وكل المشاهد الطبيعية التي يزخر بها المغرب. في تمثلها لهذا الفيض الصباغي، قالت العراقي، على هامش معرضها الأخير، إن "هذه التجربة الصباغية نابعة من كل الأحاسيس الجوانية والبرانية معا". وأضافت في تصريح ل"المغربية" أن "المغامرة الصباغية لم تأت اعتباطيا، وإنما بعد تأمل وقراءة وإلمام بتقنيات التشكيل، والفضل في هذه المبادرة يعود إلى الفنان التشكيلي، عفيف بناني، الذي شجعني وصقل موهبتي"، مشيرة إلى أنها تعتمد على السكين، وليس الريشة كما هو سائد في الفضاء التشكيلي المغربي. وأبرزت أنها تقنية صعبة، وتتطلب وقتا طويلا إلى جانب حرفية ودقة في الإمساك بالسكين، وتناغم الألوان. وبخصوص اشتغالها على المشاهد الطبيعية المغربية أوضحت ليلى أن أعمالها بمثابة تأريخ للذاكرة والأثر المغربي. على هذا النحو، تخوض الفنانة رحلة عبر تاريخ الأشكال والتمثلات المشهدية الأخرى الحية، مثل الواحات والحدائق والأضرحة والقصبات في أزيد من خمسين لوحة بأحجام مختلفة. وأسرت العراقي ل"المغربية" أنها تعتز كثيرا بلوحة تحمل عنوان ضريح مولاي إدريس زرهون، وتقول إن "هذه القماشة تحمل بالنسبة لها كل معاني الأمل والحظ السعيد". فكل لوحة محاولة اتصال دائم متعدد الواجهات والتمظهرات وترحال لا يعرف الكلل. عن تجربتها الصباغية يقول الفنان التشكيلي، عفيف بناني، إننا "بصدد تاريخ بصري للمتخيل المديني، كما قرأته هذه المبدعة وأدركت أسراره البليغة في عالم دينامي ينهض كلحظة إبداعية من لحظات الهوية، إذ أدركت ليلى في لوحاتها الحوارية بأن الإبداع الحقيقي هو الذي يحول الفن إلى صيرورة تتأسس على هوية الاختلاف. ألم يقل دولوز:"لا يتخالف إلا ما يتشابه؟". وأضاف بناني في حديثه عن أعمال العراقي، أن التراث من منظور هذه الفنانة لا يمكن تجاوزه إلا بمحاورته والتفاعل معه، ولا يمكن قتله ولو رمزيا إلا بإحيائه. فالأصول، تفرض العودة إلى الروافد والمنابع وتقتضي عبور المسالك الليلية والمعتمة باسم "حمى الذاكرة" لاستنباط المعاني الجوهرية دون ضياع أو ذوبان في الماضي، مبرزا أن ليلى العراقي، فنانة تعانق الحرية كمبدأ وممارسة، وحرية الفكر، وحرية الإبداع، وحرية التمثيل البصري، ومقتربها البصري فيض من المشاهد الحية لمغرب أخضر، فروح الأمكنة طافحة في لوحاتها، يضيف بناني. آمنت العراقي أن محاورة المشاهد الطبيعية متاهة من بين متاهات الكائن والوجود، مقدمة مفهوما جديدا للتصور عن العالم، يتحول معه الإنسان إلى ذات متخيلة والعالم إلى صورة متمثلة، إذ ترسم شجرة أنسابها الرمزية وتصوغ موقعها الاعتباري بين فناني الوجود وصناع جماله وحقائقه. وأوضح بناني أن تجربة ليلى الصباغية بمثابة نص شعري يستمد قوته الذاتية من المنزع التعبيري التجريدي عن طريق بلاغة اللون والتركيبة والإيحاء والتناغم البنائي والانسجام التصويري. هذه الإشراقات مدخل لتمثل فضاءات ليلى المصاغة بأسلوب واقعي وتعبيري في الآن ذاته. فأسلوبها يتسم بالشفافية اللونية والخلفيات الذهنية التي تضفى على أجواء اللوحة بعدا صوفيا. ثمة أرض وماء وسماء، هي عناصر مع أخرى استلهمتها ليلى العراقي في هذه التجربة، كما اعتمدت على ثنائية الظل والنور لإبراز جانب من فن أقرب إلى الانطباعية التشخيصية. الأكيد أن هذه الفنانة، وهي تسافر بمتخيلها نحو عوالم الزمن الحاضر، وكأني بها تعيد الحياة إلى الصور بالأبيض والأسود، لكن ارتضت في منجزها الصباغي أن تنتصر للألوان الناصعة، مدركة أن قيمة أعمالها في اكتمالها واستقلالها، وفرادتها وجدتها في الساحة الفنية المغربية. أعمال فنية أكثر كثافة وسلاسة، إذ استطاعت بلوغ حد بعيد في العمق والمهارة والقدرة على التحكم إلى درجة تتماهى من خلالها مع الأصول البصرية والشذرية المستنبتة. جماليا تميزت هذه الفنانة في اشتغالها على الأثر والأضرحة وكل التمثلات الحية التي يزخر بها المغرب، فهي تبدع بالألوان نصوصا نشتغل بها وأخرى نشتغل عليها، منتصرة للنوع الأول الذي يقوده مبدعون كبار يدفعوننا إلى التفكير معهم والتفكير بهم ويدفعون الفنانة ليلى العراقي إلى الإبداع معهم والإبداع بهم، هؤلاء هم الذين خبروا وانصهروا بأرواحهم وتماهوا في الفن الصباغي، وشكلت تجاربهم التشكيلية فيضا خارج السند والإطار واللوحة بما تحمله من قراءات جمالية. إن انشغالها الكبير بسحر المغرب وبجوهر حياته اليومية، بعيدا عن كل النظرات الاختزالية، التي تصنف الفن في السياحة، هو ناصية إبداعها ومنتهى أحلامها. وترى الفنانة العصامية ليلى العراقي، التي فضلت التفرغ للصباغة بعدما سخرت فترة مهمة من حياتها لتدريس الطب، وتحديدا الفارماكولوجيا "علم الأدوية" بكلية الطب بالدارالبيضاء، أن الفن رسالة وضمير حي قبل أن يكون ألوانا وأسندة وأفكارا.