أن يستحم المرء في سعادة قضت بأناة ورفق من فيافي الجمال والإبداع. فمعناه أن يشعر هذا المرء بالانتماء الماتع والأمان الكافي. لحظتئذ يبعد عن عقله وخياله كل الشوائب والمرنقات التي تغرقنا في الهزائم النفسية والفراغ المهول والقاتل. إن هذه المطالب العزيزة لا تأتيك أيها الإنسان المعاصر إلا بمصالحتك مع تجربة الإبداع والكتابة، فمن خلالها نتمكن من إعادة رسم ملامح جديدة ومطمأنة للذات الإنسانية المعاصرة، التي أعياها الانتظار، وقطع دابرها الواقع المعيش، بما يفرزه من المرارات والآلام وتعاظم المشاكل... وكل ذلك لا مخرج له إلا بالارتماء في سوح الإبداع والكتابة، فهي وحدها المخلصة، وهي التي ترجع لذواتنا المكلومة. الآمال والمتعة. بل تهبنا مسالك الإسعاد والسعادة، وتضعنا أمام مرآتنا لتقري وسبر وجوهنا الحقيقية. وكل حركاتنا وسكناتنا من القيم الزائفة و المخادعة. لوحات وضيئة ومشاهد محملة بالآمال والثقة نستقيها من تجربة فريدة ورائدة، تمثلها الأديبة المغربية المتألقة زهرة رميج، امرأة أوجدتها الحياة للكتابة، وللاحتراق البارد في بساتينها الثرة والغنية بأجناسها وضروبها، امرأة لاتفارق محياها الابتسامة الجميلة، ولا تفتقر لدماثة خلقها، به تشاكس كل من خالطها وجالسها (المشاكسة المرغوبة والجميلة)، مياسم وصفات تندر في حياتنا اليوم، وقلما يتم تصريفها في مجالنا التداولي. زهرة رميج أديبة زاهية في مسار حياتنا الإبداعية والثقافية، وإسم رسيخ بما قدمته من أعمال أدبية حركت الدوائر النقدية داخل المغرب وخارجه. وأعمالها تتوزع بين القصة القصيرة، والقصة القصيرة جدا، والشعر، والترجمة، والرواية، والمقالة وغيرها. تجربة هذه المناضلة الجسور لا يمكن إغماط حقوقها ومشروعيتها، فالمبدعة زهرة رميج اختارت الإبداع والكتابة عن طواعية وعشق، وخيار لن تندم عليه، تقول في أحد حواراتها: «إن الكتابة حققت لي بالدرجة الأولى التوازن النفسي، وحررتني من صمتي، وأعطت لحياتي معنى، إذ ارتقت بي من وضع – الإنسان الأخير – إلى وضع – الإنسان الذي يسير في الطريق-» على حد تعبير الفيلسوف الألماني الرهيب والثائر فردريك نيتشة (1844-1900). شهادة قوية وصادقة من الكاتبة رميج تعطينا خيطا شفيفا، به ننسج جانبا من عوالم الكتابة عندها. فهي فضلت أن تغوص في معاناة الإنسان المغربي، وتستنطق دخيلته مما قاساه من المحن والآلام العصيبة. إبداع هذه الكاتبة الجريئة يطلعنا على واقع ما يعرف في المغرب بسنوات الرصاص: السنوات الكئيبة والبغيضة التي حشرت في بطونها المظلمة خيرة الناس. الذين بحت حناجرهم بما كانوا ينادون به من الإصلاحات والتغيير الاجتماعي والسياسي، وإقرار العدالة الاجتماعية، والإنتصار لقيم حقوق الإنسان، وكذا التمتع بثقافة الحريات العامة، ومنطق التعددية بأشكالها المختلفة، والاستفادة من سائر نظم العقلانية والتنويرية الحديثة والمعاصرة. إن هذه التجارب المريرة والقاسية التي انكتبت في صفحات القهر، والقتل الرمزي، وعقلية الجلاد. تستنبتها المبدعة في جل كتابتها. إذ نجد سيمة الاعتقال السياسي بالمغرب حاضرة في راويتها الأولى: «أخاديد الأسوار» الصادرة سنة 2006، وهي رواية سعت فيها صاحبتها لتجسيد معانتها الشخصية، وما استشعرته من الظلم، وما عاشته من أيام مكفهرة صعبة لا يتحمل أعباءها إلا كبار النفوس وعظيم الشمم، في هذه الرواية ليس في إمكاننا أن نفصل بين خيال الذاكرة وذاكرة الخيال. وبين عناصر السيرة الذاتية. فإعمال الذاكرة من طرف الكاتبة أمر بالغ الحضور، وبالذاكرة –كذلك- تمكنت الروائية من استحضار مافات وخفي، فهي تلتقط أدق التفاصيل والسلوكات التي كانت متبعة ورائجة وقتئذ لتلفت انتباهنا إلى ما كان يجري وسيار في ذلك الزمن. والهدف هو: تحريك العقل الجديد، ودفعه للبحث في الماضي المنظور، وكذا النبش في تضاعيفه وَماعُدَّ مستغلقا ومغيبا. إن هذا النص عبارة عن حوار بين الأحياء والأموات الذين غيبهم فعل الزمن. كتابة زهرة رميج تتميز بالجرأة والحس النقدي الواعي بمنطلقاته وتشوفاته، كما أن تجربة الكتابة عندها تتطعم بالسخرية وصورها المتعددة، خصوصا إذا كانت الحياة المعاصرة بتمظهراتها الكثر مصبوغة بالمهازل والمفارقات. علائم وخصوصيات نلمسها حاضرة على طول المسيرة الإبداعية لهذه الأديبة الصرحاء في نشر تجربتها في الحياة ومع الناس. فعلى نفس الخطى تكد وتجهد أناها معرية للكثير من السلوكات والقيم التي تطبع حياة الناس على امتداد جغرافية الفكر والثقافة المغربية، التي بدورها تتجلى واضحة المعالم والعناوين في التاريخ الاجتماعي والسياسي للمغاربة في سنوات الرصاص المظلمة. موضوعات ومنظورات تثوي وتتشتت بين ثنايا نصوص -زهرة رميج- القصصية: (أنين الماء 2004، زهرة الصباح 2006، عند ما يومض البرق 2010، أريج الليل 2013). والروائية: (أخاديد الأسوار 2007، عزوزة 2010، الناجون 2012، والنص الروائي الأخير: الغول الذي يلتهم نفسه 2013). تجربة فذة –خصوصا- وأنها صادرة من امرأة انتمت بقوة الأدلة لدنيا الإبداع المنغرز في جيولوجيا التاريخ المنهمر أحداثا ووقائع جسام، تدعونا الكاتبة إلى الإنصات له والنبش في مدوناته وسجلاته لجبر الكسور، وتضميد الجروح والقروح التي طال سكنها في العقول والوجدانات. أدب وكتابة صادقين تجدهما عند زهرة رميج ما عليك إلا أن تدخل جل عناوين إبداعاتها كعتبات للقراءة والتأويل السميولوجيين، بدءا من أخاديد الأسوار ومرورا بالناجون، والغول الذي يلتهم نفسه، وغيرها، لتنجلي أمام العقل الحصيف والاستباري نجوم الصباح المعطرة بأريج الليل التي ترفض بوعي ومسؤولية كل العواصف والبروق، وسائر الصور والتجارب المعذبة والمنغصة التي تقتل كل إبداع، وتوق للإنعتاق من كل أسر وقيد. وبالتالي استقبال حاضر يزهو وينتعش بما يعرفه من قيم جديدة تخاطب كينونة الإنسان وجوهره. *كاتب مغربي