بلاغة النادرة.. دراسة في التصنيف والتجنيس نوقشت مؤخرا بقاعة محمد الكتاني، بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بتطوان، أطروحة جامعية لنيل الدكتوراه في اللغة العربية وآدابها، تقدم بها الباحث سليمان الطالي في موضوع «بلاغة النادرة: دراسة في التصنيف والتجنيس». وقد تكونت لجنة المناقشة من الأساتذة: عبد العزيز الحلوي(رئيسا)، محمد مشبال(مقررا)، الإمام العزوزي(عضوا)، سعيد جبار(عضوا). حصل الباحث بعد المناقشة العلمية على درجة الدكتوراه بميزة مشرف جدا. يصدر هذا البحث عن مبدإ منهجي يرى أن تعرّف خصوصية جنس النادرة في التراث العربي، ينطلق من النظر في مختلف النصوص التي احتوتها المصادر والمصنفات التراثية، واستقرائها للتعريف بها وتحديد أصنافها، والكشف عن بلاغتها؛ التي تتمثل في تحديد مكوناتها وثوابتها التي لا تستغني عنها، وسماتها المتغيرة التي تختلف باختلاف النصوص، والكشف عن أجناس الخطاب التي تتناص معها، وإبراز مقصديتها وحجاجيتها ووظائفها التداولية. وقد واجهتنا في سبيل تحقيق هذه الغاية إشكالات متعددة؛ كإشكال تصنيف الأجناس والأنواع السردية القديمة وتجنيسها، وإشكال قراءتها وتأويلها، وإشكال علاقة الأدب القديم بالأدب الحديث، وإشكال علاقة البلاغة بالسرد، وإشكال المنهج. إنّ تقاطع هذه الإشكالات وتداخلها قد تنوء بحملها هذه الأطروحة، غير أنها ضرورة أملتها علينا طبيعة الموضوع والغاية المرجوّة؛ فنحن نقارب «جنسا أدبيا» قديما، ونروم الكشف عن بلاغته، وتصنيف نصوصه وتجنيسها، بهدف فهمه وتعرّف إشكالاته، وإعادة التواصل معه بوعي جديد، والطموح لاستشراف آفاق أوثق صلة بالحاجات الأدبية والجمالية للإنسان العربي المعاصر. لقد ارتكزت قراءة الباحث سليمان الطالي للنوادر بهدف ردّ الاعتبار لهذا الجنس الأدبي الذي عرف الإهمال والتهميش في تراثنا السردي، ولم يحظ بالرعاية والاهتمام الكافيين على الرغم من محله الرفيع كما وكيفا. ولعلّ التهميش الذي عرفته أشكال القص والسرد في تراثنا النقدي والبلاغي، هو الذي حفزني للبحث في النوادر، بغية «تأصيلها» لأنها مازالت في أمس الحاجة إلى هذه الدراسة. بالرغم من أنه لا نزعمُ أنّها أطروحة جديدة كلّ الجدّة، بل سبقتها دراسات تعرض لها في هذا البحث تمحورت –جلها– حول نوادر «البخلاء» للجاحظ، بينما كادت تغفل نوادر غيره من المؤلفين والمصنفين القدامى. ولعلّ التهميش الذي عرفته باقي النوادر الواردة في المصادر والمصنفات التراثية، هو الذي دفعه إلى مقاربة نصوص متعددة ومختلفة، سواء التي وردت في مؤلفات الجاحظ، أم التي وردت عند غيره من المؤلفين والمصنفين. إنّ تداخل هذه الإشكالات في هذه الدراسة-يضيف الباحث سليمان الطالي- لم يثبط عزيمته، بل كان دافعا لتجاوزها،» بهدف تحديد طبيعة هذا الجنس الأدبي وبلاغته المخصوصة. فكان لزاما علينا في البداية تحديد المقصود بالبلاغة والمبادئ المنهجية التي صدر عنها هذا البحث، قبل أن نتصدى لنقد النصوص وتجنيسها وتصنيفها. لا نقصد بالبلاغة –هنا– الأسلوب، أو دراسة الوجوه البلاغية انطلاقا من الكلمة المفردة أو الجملة أو البيت الشعري معزولين عن السياق النصي والنوعي كما هو الحال في البلاغة المدرسية، بل المقصود الجمالية المستمدة من خصوصية النوع الأدبي للنادرة، والتي تتمظهر – حسب تصورنا– عبر مكوناتها الثابتة، كما تتجلى في السمات الغالبة عليها. وبقدر ما تركز البلاغة «النوعية» على البحث والكشف عن خصوصية النوع الأدبي؛ أي الاهتمام بالسمات البلاغية والنوعية التي تميز جنسا أدبيا عن آخر، وإبراز خصائصه، وتفاعله وتقاطعه مع أجناس خطاب أخرى، فهي لا تنأى في الوقت نفسه عن التواصل مع الإبداع الأدبي، والكشف عن أسرار النصوص والآثار واستكناه خباياها، ورصد جماليتها وأساليبها التعبيرية وإمكاناتها التصويرية، وتفسير وتعليل قيمتها. إن الاعتماد على المرتكزين التجنيسيين (المكونات والسمات) في التجنيس النقدي للنوادر العربية هو مطلبنا المنشود في هذه الدراسة، لأنه الكفيل –كما نعتقد– بمنح هذه النصوص صفة الهوية الأجناسية للنادرة. على هذا الأساس، يصبح لهذين المرتكزين فاعلية قصوى في مجال القراءة النقدية للنادرة، كما يشكلان سندين أساسيين من النقد التجنيسي الذي اعتمدناه في مقاربة نصوص النوادر لإبراز بلاغتها. لقد سعيت في دراسة هذا الجنس الأدبي إلى المزاوجة بين التأطير النظري –وإن بشكل محدود– من خلال تحديد مفهوم النادرة، وبنيتها، وموقعها في الدراسات الحديثة، وبين –التركيز على– التحليل النصي بوصف مكوناتها الثابتة وسماتها المتغيرة، والكشف عن أجناس الخطاب التي تتناص معها، وإبراز دلالاتها ومقاصدها وأساليبها الحجاجية ووظائفها التداولية. ولعل في هذه المزاوجة ما يحقق التكامل بين فصول الدراسة، كما يكفل لها الانسجام؛ فلم تكن بالنسبة إلينا الغاية في تحديد هذا الجنس الأدبي والتعريف به، وإبراز موقعه في الدراسات الحديثة في مدخل هذا البحث، أقل قيمة من الغاية العلمية والنقدية –في البابين الأول والثاني– المتمثلتين في الكشف عن طبيعته البلاغية، وتجنيس نصوصه وتصنيفها، كما لم تكن أقلّ قيمة –أيضا– من الغاية الإنسانية التي تتمثل في التواصل مع هذا الجنس الأدبي وإبراز قيمته الأدبية والإنسانية. وقد تجنبنا اعتماد جملة من التقنيات الشكلية التي تحفل بها نظريات النص، كما تجنبنا اعتماد مفهومات ونظريات مستمدة من مناهج شتى، وإن لم يمنعنا أحيانا الاستفادة من مناهج ونظريات مختلفة – بشكل جزئي ومحدود– كنظرية الأجناس الأدبية، ونظرية التلقي، والأسلوبية، والسرديات، والتداوليات، والبلاغة الحجاجية، والبلاغة «الأدبية». ولعل من بين أهمّ القضايا التي حاولت الأطروحة مناقشتها، هي إبراز حجاجية النادرة من خلال رصد العلاقة بين صيغتين خطابيتين مختلفتين، غير أنهما يتكاملان ويتفاعلان هما: السرد والحجاج. لقد انطلقنا في دراسة النوادر من منظور للبلاغة لا يفصل بين السرد والحجاج، بل يرى أنّ ثمّة تلازما متينا بينهما، سواء في النوادر أم في مطلق النصوص سواء أكانت سردية أم غير ذلك. كما انطلقنا من قناعة ترى أنّ موضوع البلاغة يتمحور حول دراسة العلاقة التي تنشأ بين النص والمتلقي. ولمّا كانت غايتنا الكشف عن بلاغة النادرة وتجنيس نصوصها وتصنيفها، فإننا اصطفينا من المصادر والمصنفات التراثية النماذج التي بدا لنا أنها تنسجمُ مع محاور وفصول البحث، وإن لم يمنعنا أحيانا من إيراد نوادر بعينها والاستشهاد بها في أكثر من محور. بهدف إبراز السمات المتعددة والمختلفة التي يضطلعُ بها كلّ نموذج، واجتناب إيراد نماذج أخرى درءا للتطويل والإسهاب، فضلا عن توضيح غنى كثير من النصوص، التي تضطلع بإمكانات أسلوبية وسردية وحجاجية متعددة ومختلفة. وفق هذا التصور المنهجي، قسمنا البحث إلى مدخل وبابين؛ تناولنا في المدخل –بوصفه تمهيدا للدراسة– التعريف بالنادرة لغة واصطلاحا، وقد بيّنا العوامل التاريخية والاجتماعية والسياسية والحضارية التي ازداد الاهتمام فيها بالنادرة في عصري الأمويين والعباسيين. كما وقفنا أيضا على القراءات المختلفة التي عملت على النظر في النوادر التراثية، بحيث اختلفت رؤية ومنهجا وتصنيفا وتجنيسا، وهذا طبيعي نظرا لاختلاف المنطلقات والمرجعيات التي انطلق منها كلّ باحث من جهة، وهو ما أفضى إلى تباين واختلاف النتائج وطبيعة المعايير المعتمدة من لدن الدارسين في تصنيفهم وتجنيسهم؛ كاعتماد معيار الموضوع أو المضمون، أو اعتماد معيار الصيغة، أو معيار الأسلوب أو معيار الأنساق بمفهومه البنيوي، أو غيره. كما عملنا في مدخل هذا البحث على إبراز الخصائص الشكلية والبنيوية التي تتسمُ بها النادرة، ومراوحتها بين شكلين مختلفين: نوادر موجزة تركز على حدث واحد، أو شخصية محوريّة واحدة، ولا تولي للبنية الزمكانية اهتماما، وتنحو نحو الإيجاز في القص، بدل التفصيل والإسهاب. ونوادر قصصية ممتدة تتسم بالامتداد السردي والخطابي، وتعتمد على مجموعة من الأحداث المتسلسلة والمترابطة، ولا تكتفي بحدث واحد، كما تعتمد عنصر الإثارة والتشويق، وتتمحور حول شخصية رئيسة وشخصيات ثانوية، وتقوم على الوصف والتصوير الدقيق للشخصية المحورية، بالتركيز على ما هو خارجي (ملامح الشخصية وحركاتها وسكناتها...)، وما هو داخلي مرتبط بانفعالاتها، وبخوالجها النفسية الدفينة. وإذا كان مدخل هذا البحث إطارا نظريا عامّا لهذه الأطروحة، فإنّ الباب الأول الذي عنوناه ب «مكونات النادرة وسماتها»، أفردناه للكشف عن المكونات الثابتة والسمات المتغيرة التي تجعل النادرة جنسا أدبيا، من خلال تحديد المقومات «الأجناسية» الناظمة لها، واستقراء نماذج مختلفة من النصوص ووصفها وتحليلها. توقفنا في الفصل الأول عند مكونات النادرة، وهي العناصر الثابتة التي لا يستقيمُ تجنيسها إلا بها. وقد توصلنا بعد طول نظر واستقراء لمختلف النصوص إلى مكونين اثنين متضافرين، هما: السرد القصصي، والهزلية. ولعلّ الاعتماد على هذين المرتكزين ينسجمُ مع رؤيتنا للنادرة، والتي نعتبرها جنسا أدبيا تتحدد هويتها «الأجناسية» بالهزل الذي يتجسدُ سردا. على هذا الأساس، بيّنا أنّ مكون السرد القصصي في النوادر ينهض على مجموعة من العناصر والمقومات؛ رواية وسندا وما يضطلعان به من وظائف توهم بالواقعية، وتصوير واقعي للشخصيات وللحدث، وشخصيات رئيسة وثانوية، وحوار كاشف عن نفسيات الشخصيات وأخلاقها وسلوكها وعاداتها وطبائعها وطريقة تفكيرها ونظرتها إلى العالم، وتصوير لصراعها في موقف قصصي شيق، وسخرية من الخصوم وتسفيه لآرائهم والهجوم عليهم صراحة أو ضمنا، ولغة بسيطة واقعية بعيدة عن التعقيد المعجمي والمجازي إلا إذا استثنينا نوادر النحاة واللغويين والمتقعرين في الكلام. كما وقفنا في هذا الفصل على مجموعة من سمات الهزل المهيمنة في نصوص النوادر، والتي لا تحضر مفردة، بل تتضافر وتتواشج مع سمات أخرى، بحيث تقومُ على المفارقة أو التناقض؛ كمفارقة المقام والمقال، والحجج الطريفة، وتناقض المقدس والمدنس، والمحاكاة الساخرة، والمعارضة، والمجاز الهزلي، وغيرها. ووقفنا في الفصل الثاني الذي عنوناه ب «سمات النادرة» على تداخل الأنواع الخطابية في هذا الجنس الأدبي، وركزنا النظر على العلاقة «التناصية» التي بموجبها تتفاعلُ النادرة وتتداخل مع بعض أجناس الخطاب، حيث تتضمن الرسالة، والوصية، والخطبة، والدعاء. وقد بيّنا كيف تنسلخُ هذه الأجناس عن أغراضها الجادة الذي ترد فيها وتدرج في سياقات هزلية، ممتثلة للجنس الأدبي الجديد الذي تندرج فيه، ومثيرة الهزل والإضحاك. كما حاولنا في هذا الفصل الكشف عن حجاجية النادرة من خلال رصد العلاقة بين صيغتين خطابيتين مختلفتين ومتواشجتين، هما: السرد والحجاج. فبيّنا أنّ النادرة تتضمن في كثير من الأحيان أجناس خطاب مختلفة، تحضر في متونها بوصفها مظاهر تناصية تضطلعُ بوظيفة حجاجية واضحة، كما تشترك مع بعض الأجناس والأنواع الحجاجية، كالخطبة والمناظرة والموعظة، في الوظائف التواصلية التي تتوجه إلى المتلقي قصد إقناعه والتأثير فيه فعليا وعمليا، سواء بتعليمه أو إمتاعه أو إفادته أو إثارة مشاعره أو تغيير سلوكه أو تعديل أفكاره أو مواقفه، أو من أجل حثه على الفعل أو الاستعداد للفعل. وتُسخّر النادرة –في سبيل هذه الغاية– جملة من الأساليب الحجاجية التي تتغيا التأثير في المتلقي وإقناعه، وتوصيل مقاصد تداولية تخدم البعد الحجاجي، أي إنها تنطوي على عبرة أخلاقية أو حكمة مشتركة أو فكرة تعليمية، ومن ثمّ فالسرد يخدم الحجاج ولا يستقل به. وقد عرضنا لجملة من الأساليب الحجاجية التي تنطوي عليها النادرة، اقتصرنا على تجلياتها النصية المهيمنة، كالاستشهاد بالخطاب الديني، وتضمين الشعر والمثل والحكمة، والاحتجاج بأدلة عقلية ومنطقية، والتناقض المنطقي، والقياس بأنواعه: التام والناقص والمغالط. وختمنا هذا الفصل بالحديث عن المقاصد الهزلية والتداولية التي تنطوي عليها النوادر. وانصرفنا في الباب الثاني الذي حمل عنوان «أصناف النوادر» إلى تصنيف موضوعاتها ومضامينها، بعد استقراء مختلف تجلياتها النصية إلى أربعة أصناف: نوادر اجتماعية، ودينية، وسياسية، وجنسية. وقد بيّنا أنّ الفصل بينها فصل منهجي فحسب، لأنها تتداخل وتتواشج أكثر مما تتباين وتختلف، إلا أنّ هذا القول لم يمنعنا من تلمس بعض الفروق الدقيقة بينها، ورصد الخصوصيات المضمونية الجزئية التي تميز صنفا عن باقي الأصناف الأخرى. خصصنا الفصل الأول «للنوادر الاجتماعية» باعتبارها تتميز عن باقي الأصناف الأخرى بهيمنة الموضوعات والمضامين الاجتماعية والمقاصد الأخلاقية عن باقي الدلالات والمقاصد الأخرى. ويأتي موضوع البخل وآداب العرب في الطعام ومآدب الضيافة، في مقدمة الموضوعات التي يضمها هذا الصنف، إضافة إلى موضوعات ومضامين كثيرة، ترتبط بالعيوب الخِلقية والخُلقية والنفسية، كالنفاق، والجحود ونكران الجميل، والكذب والمبالغة والادّعاء، والخوف والجبن، والتحايل والخداع، وغيرها. وفي الفصل الثاني الذي حمل عنوان: «النوادر الدينية»، بيّنا أنّ هذا الصنف ينماز عن باقي الأصناف الأخرى بقيامه على موضوعات دينية تجاه جملة من الأحكام والطقوس المرتبطة بالشرائع أو العبادات أو الأحكام الشرعية. إضافة إلى أنّ متون هذه النوادر تتضمن موضوعات دينية، قد تكون آيات قرآنية، أو أحاديث نبوية، أو أدعية، أو وعظا وإرشادا، أو قصصا دينية. كما تتمحور حول الصراع الذي يدور بين شخصيات تنتسب إلى فرق ومذاهب مختلفة، بحيث تعمل كل شخصية على الدفاع عن مذهبها، والسخرية من المذهب المناوئ. وقد أدرجنا النوادر المذهبية تحت صنف النوادر الدينية، بعدما بيّنا أنّ سمات الاشتراك والتشابه التي تجمعها مع النوادر الدينية والسياسية، أكثر ممّا تجمعها مع النوادر الاجتماعية والجنسية لسبب بسيط، هو أنّ النوادر المذهبيّة كانت لها جذور سياسية ودينية، أكثر ممّا حرّكتها دوافع وخلفيات أخرى. وأفردنا الفصل الثالث الذي حمل عنوان: «النوادر السياسية» لتحديد الفروق الدقيقة التي تجعل هذا الصنف ينماز عن باقي الأصناف، وبيّنا أنه يقوم على موضوعات وعلى مضامين سياسية مهيمنة على باقي الموضوعات والمضامين الأخرى، كتصوير الصراع السياسي الذي كان محتدما على الخلافة بين الأمويين والشيعة من جهة، وبين الأمويين والعباسيين من جهة أخرى، وتقديم صورة سلبية وقاتمة حول الأمويين بهدف الإزراء بهم والسخرية منهم، في مقابل تقديم صورة إيجابية –في الغالب– حول العباسيين والشيعة، باستثناء نصوص قليلة تشذ عن هذا الاتجاه. وفي الفصل الرابع والأخير الذي حمل عنوان: «النوادر الجنسية» بيّنا أنّ هذا الصنف ينماز عن باقي الأصناف السالفة، بموضوعات ومشاهد جنسية مبتذلة، كما يقومُ على معجم ماجن يخوض في المحظور، ويعمل على تعرية المسكوت عنه من خلال تصوير العلاقات الجنسية فيما اصطلحنا عليه بالمضمون الجنسي للنوادر. انطلاقا مما سلف يمكننا اختزال أهمّ نتائج هذا البحث الذي راهن على صياغة أصول بلاغة النادرة وسماتها على النحو الآتي: 1- تعتبر النادرة جنسا أدبيا سرديا طريفا، يندرج ضمن الأدب الهزلي الساخر، الذي يتميز عن الأدب الجاد، غايته الأساس إمتاع السامع أو القارئ بتسليته، وانتزاع ضحكته. من مقاصده التداولية النقد والتهكم والسخرية والإصلاح والتهذيب وتعديل السلوك وتقويم الأخلاق. 2- تتسمُ النوادر عموما بوحدة الحدث وببساطة لغتها التي تبتعد عن مظاهر التصنع والتكلف والتنميق الزخرفي، وبلاغة المحسنات، إلا إذا استثنينا نوادر بعض اللغويين والنحاة والمتقعرين في الكلام الذين يلجؤون إلى الإغراب في مقامات لا تستدعي ذلك، لمقاصد وأغراض نفعية ذاتية. 3 تعالق مكوّني السرد والهزل في النادرة، بوصفها جنسا أدبيّا تتحدّدُ هويته الأجناسية بالهزل الذي يتجسدُ سردا. وهما يرتبطان بسمات أخرى مهيمنة في متونها كالغرابة والطرافة والشذوذ والمفارقة، كما يرتبطان بسمات أخرى تحضر في بعض النصوص وتغيب في نصوص أخرى. 4- يقوم السرد القصصي في النوادر على بلاغة التصوير الواقعي الهزلي الذي يقوم على جملة من العناصر والمقومات؛ تصوير واقعي دقيق للشخصيات وللأحداث، وحوار كاشف عن نفسية الشخصيات وأخلاقها وطبائعها ومستوياتها الثقافية واللغوية، وشخصيات واقعية محورية وثانوية، وأمكنة وأزمنة، ورواية وسند، وتشويق ومفاجأة، وهزل يزاوج بين الإمتاع والإفادة، ولغة بسيطة واقعية مفعمة بالحياة وبعيدة عن التعقيد المعجمي والمجازي، وعن التصوير العجيب المفارق لقوانين الطبيعة. 5- تتداخل النادرة تناصيا مع أجناس خطاب مختلفة بعدما تنسلخُ عن أجناسها الجادة وتندغم في النسيج النصي للنادرة، وتصبح من ثمّة عنصرا يتضافر مع عناصر أخرى ليولد طرافتها وهزليتها. فالنادرة احتضنت القرآن، والشعر، والحديث النبوي، والخطبة، والرسالة، والدعاء، والوصية، والقول المأثور، وغيرها. ويعدّ حضور أجناس الخطاب في النوادر جزءا من خطة الكتابة والإبداع في هذا الجنس الأدبي، وسمة من سمات كتابته وتكوينه النصي، وهو أسلوب من أساليب التندر والحجاج والإقناع في الوقت نفسه. 6- تقوم بلاغة النادرة على تعالق مكوني السرد والحجاج؛ فإذا كانت النادرة في بنيتها السطحية الظاهرة تسرد حكاية هزلية، فإنها تخدم أغراضا بلاغية الهدف منها التأثير العملي في المتلقي، يتجلى في رسائلها التي تنطوي عليها التي لا تكاد تخرج عن المقاصد الخلقية والعقدية والنفسية والفلسفية والتعليمية. كانت هذه أبرز النتائج التي توصلنا إليها في هذا البحث، والتي كشفت عن غنى هذا الجنس الأدبي وبلاغته المخصوصة التي تقومُ على مكونين ثابتين يتمثلان في السرد والهزل، ويتعالقان بسمات تختلف باختلاف النصوص، ويرتبطان بالموضوعات والمضامين الأساسية التي تقوم عليه أصناف النوادر، والتي كشفت عن تعدد مقصديتها وحجاجيتها ووظائفها الهزلية والتداولية، وقابليتها لتعدد القراءات بدل القراءة الأحادية الدلالة. وهذه صفة أصيلة في الأدب الحي، تخول له الاستمرارية في الحياة، وتكفل له المناعة التي تحرز عنه الإهمال والتهميش. ولا شك أنّ مثل هذا الطموح في إنجاز هذا البحث لم يسلم من الصعوبات في جميع مراحله، نذكر منها: - اختلاف مفهوم النادرة والتباسه بمفاهيم أخرى من قبيل: الخبر، والحديث، والطرفة، والملحة، والقصة، والحكاية، وغيرها. وهي مفاهيم استخدمت استخداما تمّحي فيه الفروق لدرجة يعسر وضع حدود بينها، ممّا جعلني أختار مفهوم النادرة لشيوعه أكثر من غيره، وتداوله في الدراسات العربية الحديثة. - توزع نصوص النوادر وتفرقها في مصادر ومصنفات تنتمي لحقول متباينة وهو ما يجعل الإحاطة بها أمرا عسيرا، ولهذا لا نزعم الإحاطة الشاملة بل اكتفينا ببعض المصادر والمصنفات الأدبية –التي أشرنا إليها– . - غياب المعايير البلاغية الموروثة في إدراك طبيعة هذا الجنس الأدبي السردي، ما دام أن النقد العربي ينهض على جنس الشعر بوصفه عمدة الأدب. ومن ثمّ طُرح علينا إشكال المنهج: هل نقارب هذا الجنس الأدبي في ضوء مفاهيم نظريات الأجناس الأدبية والبلاغية الغربية أم بمنهج نقدي «عربي» مع علمنا المسبق بغيابه؟. - صعوبة تصنيف وتجنيس النادرة في التراث العربي نظرا لغياب نظرية عربية متكاملة حول الأجناس الأدبية، التي يمكننا أن ننفذ من خلالها لمقاربة النادرة وتعرف مشكلاتها الحقيقية، وإبراز جماليتها وبلاغتها، وتحديد أوجه الائتلاف والاختلاف التي تجمعها مع أجناس خطاب مختلفة.