تشييع جنازة الراحل محمد الخلفي إلى مثواه الأخير بمقبرة الشهداء بالبيضاء    "التقدم والاشتراكية" يحذر الحكومة من "الغلاء الفاحش" وتزايد البطالة    الجزائر تسعى إلى عرقلة المصالحة الليبية بعد نجاح مشاورات بوزنيقة    مسلمون ومسيحيون ويهود يلتئمون بالدر البيضاء للاحتفاء بقيم السلام والتعايش المشترك    انخفاض طفيف في أسعار الغازوال واستقرار البنزين بالمغرب    بلينكن يشيد أمام مجلس الأمن بالشراكة مع المغرب في مجال الذكاء الاصطناعي    وقفة أمام البرلمان تحذر من تغلغل الصهاينة في المنظومة الصحية وتطالب بإسقاط التطبيع    الولايات المتحدة تعزز شراكتها العسكرية مع المغرب في صفقة بقيمة 170 مليون دولار!    الرجاء يطوي صفحة سابينتو والعامري يقفز من سفينة المغرب التطواني    العداء سفيان ‬البقالي ينافس في إسبانيا    جامعة الفروسية تحتفي بأبرز فرسان وخيول سنة 2024    جلالة الملك يستقبل الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني    جثمان محمد الخلفي يوارى الثرى بالبيضاء    مباراة نهضة الزمامرة والوداد بدون حضور جماهيري    جرسيف .. نجاح كبير للنسخة الرابعة للألعاب الوطنية للمجندين    لقاء مع القاص محمد اكويندي بكلية الآداب بن مسيك    لقاء بطنجة يستضيف الكاتب والناقد المسرحي رضوان احدادو    ملتقى النحت والخزف في نسخة أولى بالدار البيضاء    بسبب فيروسات خطيرة.. السلطات الروسية تمنع دخول شحنة طماطم مغربية    مقاييس الأمطار المسجلة بالمغرب خلال ال24 ساعة الماضية    دشنه أخنوش قبل سنة.. أكبر مرآب للسيارات في أكادير كلف 9 ملايير سنتيم لا يشتغل ومتروك للإهمال    روسيا تمنع دخول شحنة طماطم مغربية بسبب "أمراض فيروسية خطيرة"    ندوة علمية بالرباط تناقش حلولا مبتكرة للتكيف مع التغيرات المناخية بمشاركة خبراء دوليين    غزة تباد: استشهاد 45259 فلسطينيا في حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة منذ 7 أكتوبر 2023    الرباط.. مؤتمر الأممية الاشتراكية يناقش موضوع التغيرات المناخية وخطورتها على البشرية    اتهامات "بالتحرش باللاعبات".. صن داونز يعلن بدء التحقيق مع مدربه    قضايا المغرب الكبير وأفريقيا: المغرب بين البناء والتقدم.. والجزائر حبيسة سياسات عدائية عقيمة    أكادير: لقاء تحسيسي حول ترشيد استهلاك المياه لفائدة التلاميذ    استمرار الاجواء الباردة بمنطقة الريف    تفاصيل المؤتمر الوطني السادس للعصبة المغربية للتربية الأساسية ومحاربة الأمية    البنك الدولي يولي اهتماما بالغا للقطاع الفلاحي بالمغرب    تثمينا لروح اتفاق الصخيرات الذي رعته المملكة قبل تسع سنوات    ألمانيا: دوافع منفذ عملية الدهس بمدينة ماجدبورغ لازالت ضبابية.    بنعبد الله: نرفض أي مساومة أو تهاون في الدفاع عن وحدة المغرب الترابية    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة    حملة توقف 40 شخصا بجهة الشرق    "اليونيسكو" تستفسر عن تأخر مشروع "جاهزية التسونامي" في الجديدة    استيراد اللحوم الحمراء سبب زيارة وفد الاتحاد العام للمقاولات والمهن لإسبانيا    ندوة تسائل تطورات واتجاهات الرواية والنقد الأدبي المعاصر    تبييض الأموال في مشاريع عقارية جامدة يستنفر الهيئة الوطنية للمعلومات المالية    ارتفاع حصيلة ضحايا الحرب في قطاع غزة إلى 45259 قتيلا    القافلة الوطنية رياضة بدون منشطات تحط الرحال بسيدي قاسم    سمية زيوزيو جميلة عارضات الأزياء تشارك ببلجيكا في تنظيم أكبر الحفلات وفي حفل كعارضة أزياء    الأمن في طنجة يواجه خروقات الدراجات النارية بحملات صارمة    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    إسرائيل تتهم البابا فرنسيس ب"ازدواجية المعايير" على خلفية انتقاده ضرباتها في غزة    وفاة الممثل محمد الخلفي عن 87 عاما    الممثل القدير محمد الخلفي في ذمة الله    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    المديرية العامة للضرائب تنشر مذكرة تلخيصية بشأن التدابير الجبائية لقانون المالية 2025    كودار ينتقد تمركز القرار بيد الوزارات    أخطاء كنجهلوها..سلامة الأطفال والرضع أثناء نومهم في مقاعد السيارات (فيديو)    "بوحمرون" يخطف طفلة جديدة بشفشاون    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"البلاغة والسرد" لمحمد مشبال، جدل الوظائف وبروز معيار التلقي التداولي
نشر في طنجة الأدبية يوم 13 - 12 - 2011

يقدم محمد مشبال في كتابه " البلاغة والسرد- جدل التصوير والحجاج في أخبار الجاحظ" مدخلا جديدا لقراءة نثر الجاحظ. لقد تفاعل مع مختلف الآفاق التي تعاقبت على هذا النثر محاورا ومناقشا ليخلص في النهاية إلى تقديم مقترح قرائي خاص صدر فيه عن عدة قرائية تقوم على المعايشة والقدرة على الإنصات إلى نبض النصوص وحفيف الجماليات
لعل أهم ما قدمه الباحث في هذه الدراسة التي تطفح بالجهد والمعاناة ربطه أدب الجاحظ بالحياة وهو ما عبر عنه في مقدمة كتابه تعبيرا بليغا بالقول: " لعل أهم فكرة حاول الكتاب مناقشتها وتطويرها من صلب نصوص الجاحظ هي علاقة البلاغة بالسرد وهي علاقة فرضتها طبيعة هذه النصوص الوثيقة الصلة بالبلاغة التي وسع الجاحظ دنياها لتشمل الحياة والخطاب أو العالم واللغة، فالبليغ عنده ليس المتكلم الذي استجاب في إنجاز كلامه لمقاييس الرؤية البلاغية فقط ولكنه الإنسان الذي امتثل في سلوكه وتصرفاته وتفكيره لجوهر هذه الرؤية" (البلاغة والسرد ، منشورات كلية الآداب – تطوان ط 1 – 2010 ص: 6) وذاك مدخل جديد في رأينا يصدر عن نظر بحثي مختلف يجعل "البلاغة" موصولة ب "الحياة" وتيارها الجارف. ولقد كان هذا الجدل الدينامي والناجح الذي يقيمه الباحث في دراسته بين "البلاغة" و"الحياة" دافعا لنا لتملس مناحي التفاعل بين البلاغة والجدل. يغرينا بهذا الضرب من الدرس أن "بلاغة الحياة" قائمة في أساسها على الجدل والمجادلة .
جدل الوظائف:
تظهر القراءة الواعية لكتاب "البلاغة والسرد" ل محمد مشبال جدلا خصبا ينعقد بين الوظائف على مستويين: التجليات الإبداعية وهي هنا المتن الجاحظي (بلاغة النص السردي) واللغة الواصفة وهي هنا قراءة مشبال لهذا المتن (بلاغة تلقي النص السردي). وفيما يلي رصد لأهم هذه الوظائف "المتجادلة":
جدل البلاغة والسرد:
عندما يصطفي الباحث من العناوين "البلاغة والسرد" عنوانا ليسم به إصداره الجديد، فإن هذا الإجراء ليس من الاعتباط في شئ سيما وهو يصدر عن باحث مثل محمد مشبال عرف عنه تحيزه المطلق للدقة في إجراء المفاهيم وتطبيقها سواء في الدراسات التي أنجز أو البحوث التي يشرف عليها أو توكل إليه مهمة مناقشتها.
إن الباحث عندما يجتبي هذا العنوان فإنما يفعل ذلك بمكر "بليغ". لقد أراد التنبيه من طرف خفي فيما نتصور على الإشكال العويص الذي يواجه الباحث المعاصر الذي يصدر عن منظور التحليل البلاغي في فحص النصوص ووصفها. يتعلق الأمر بالجدل الدائر بين علماء البلاغة المعاصرين حول "اختصاصات" هذا العلم فهناك من يتصور الدراسات البلاغية حكرا على البنيات الحجاجية في الخطاب لاعتباره البلاغة بعدا تأثيريا في النص يروم تحقيق الإقناع وإيقاع التصديق. مما يترتب عنه إقصاء المكونات التخييلية والسردية فيما يرى آخرون أن التحليل البلاغي ينبغي أن يقتصر على دراسة البنيات الأسلوبية انطلاقا من تصورهم للبلاغة "زينة زخرفية" غايتها الإمتاع وليس النفع.
إن "الفصل" بين المكونين في بعض التوجهات البلاغية المعاصرة ليجسد "محنة البلاغة" التي ما فتئ هذا "العلم العتيق" يعانيها نتيجة "الانشطار" بين جناحيه الأساسين: التداول والتخييل. ويرتد هذا الانشطار، وهنا المفارقة، إلى أرسطو نفسه، فقد خصص الفيلسوف الاستاجيري كتابين لدراسة ظواهر الخطاب هما "فن الشعر" ويختص ببحث الخطاب التخييلي الشعري و"فن الخطابة" الذي يفحص الخطاب الإقناعي الحجاجي. أما البلاغة في السياق العربي فلم تعرف هذا الفصل وإنما رصدت منذ بدايتها لبحث الخطاب الاحتمالي بنوعيه التخييلي والتداولي. وقد عبر الباحث عن موقفه من هذا الإشكال فصرح في مقدمة الكتاب بأن " ثمة تلازما بين التصوير والحجاج ليس في أدب الجاحظ فقط ولكن في مطلق النصوص الأدبية" (البلاغة والسرد ص: 6)
انطلاقا من هذا الفهم للبلاغة أصبح من المستساغ بالنسبة للباحث فحص أخبار الجاحظ المنضوية ضمن " السرد " من منظور بلاغي. وقد شكل جهد الباحث في هذا المجال كما اعترف هو نفسه أهم فكرة حاول الكتاب مناقشتها وتطويرها (البلاغة والسرد ص:60) وقد أسعف الباحث في تحقيق هذا المقصد المتن التمثيلي الذي اعتمد لاختبار الفكرة وروزها، فالجاحظ قامة أدبية سامقة كان له الأثر البالغ في توجيه التفكير البلاغي العربي فهو "أحد مؤسسي البلاغة النظرية العربية القديمة كما أنه أحد مؤسسي بلاغة النثر أو السرد بمفهومها الجمالي والإنساني لقد نقل أسرار البلاغة من مبدأ الكلمة الساحرة واللقطة الثمينة أو الصورة البديعة إلى مبدأ الوصف والسرد والغوص في تفاصيل الحياة ورصد المشاعر والسلوك الشاذ الغريب " (البلاغة والسرد ص: 7 ). لهذه الاعتبارات مجتمعة كان توجه الباحث إلى فحص "علاقة البلاغة بالسرد" منبثقا من نصوص الجاحظ ذاتها لكون هذه النصوص " وثيقة الصلة بالبلاغة التي وسع الجاحظ دنياها لتشمل الحياة والخطاب أو اللغة والعالم" (البلاغة والسرد ص: 6.)
إن إجراءات التحليل البلاغي للنصوص المنضوية ضمن "السرد" شأن "أخبار" الجاحظ التي اختصها مشبال بكتابه لا تنضبط للحدود البلاغية التي ارتهنت في صوغ أصولها لجنس الشعر، ذلك أن بلاغة السرد مغايرة لجنس الشعر ولذلك فهي تستدعي إجراءات في التحليل تراعي بلاغته المخصوصة، لأن مفهوم البلاغة عند الباحث لا يقوم بالضرورة على مرتكزات مقننة كتلك التي صنفها علماء البلاغة قديما وحديثا في أبواب معروفة، بل يمكن إضافة مرتكزات مستمدة من سياقات لم يتم تسخيرها في بلورة مفهوم البلاغة كسياق الجنس الأدبي أو النوع الأدبي وسياق القراءة والسياق النصي.
إذا كانت بلاغة الشعر تقوم على مكونات مخصوصة يتوجب على الدارس مراعاتها عند تصديه لفحص ووصف هذا الجنس الأدبي، فإن بلاغة السرد تضطلع ببنائها مقومات أخرى مغايرة تماما لتلك التي تتقوم بها بلاغة الشعر، فإذا كان الشعر لغة كثيفة أساسها الرمز والإيحاء، فإن السرد لغة شفافة قوامها الحكي العاري، وقد حدد الباحث ما يعنيه ببلاغة النص السردي فحصرها في التأثير العملي الذي يحدثه النص في القارئ إما بحمله على تقبل المعنى الجاهز والمشكل وإما بتحريضه بوسائله الخاصة على فعل القراءة والتواصل النشيط (البلاغة والسرد ص: 26) .
من الواضح أن بلاغة النص السردي ترتبط عند الباحث ب "التأثير العملي" في القارئ. وقد ترتب عن هذا الفهم للبلاغة أن توجه الباحث إلى النظر في نصوص الجاحظ السردية من زاوية استراتيجية التواصل، حيث تبين أن السرد عند الجاحظ لا يقصد+ به التسلية والامتاع فقط، ولكنه مسخر أداة للتواصل مع القارئ من أجل تلقينه المعلومات وتزويده بشكل ضمني بالحقائق الخلقية والإنسانية العامة. ومن هنا رأى الباحث أن النصوص السردية عند الجاحظ "تحمل معنى علميا وخلقيا وفلسفيا لأنه يتوق إلى توصيل رسالة معينة الأمر الذي يقتضي ضرورة تحليله وتلقيه في مواقف تواصلية ملموسة، أي النظر إليه بوصفه خطابا صيغ على نحو يؤدي وظيفة تداولية وتوصيل رسالة إلى متلق مستعد لتلقيها والاستجابة العملية لمقصدية صاحبها" (البلاغة والسرد ص: 48).
جدل التصوير والحجاج:
لعل القول بتداخل التداول والتخييل في نصوص الجاحظ السردية أن يمثل الأطروحة الأساس التي حاول الباحث إثباتها والاستدلال عليها في كتابه "البلاغة والسرد". ويكفي أن نشير هنا إلى تصديره الكتاب بعنوان فرعي هو "جدل الحجاج والتصوير في أخبار الجاحظ"، الأمر الذي يوجه أفق القراءة إلى اختزال متن الكتاب وتركيز مضمونه حيث يستخلص القاريء أن الباحث معني في هذه الدراسة برصد أشكال التداخل والتفاعل بين الوظيفة الحجاجية الإقناعية والوظيفة التخييلية الجمالية انطلاقا من فرض منهجي مثل عصب الدراسة وأساسه تلازم الحجاج والتصوير في أخبار الجاحظ ( البلاغة والسرد ص: 23.)
لقد رام الباحث إثبات أن الخبر عند الجاحظ منطلق من المقام التواصلي المحسوس ليصوغ عالمه التخييلي الأدبي، فإذا كانت الوظيفة الحجاجية طاغية في أخبار الجاحظ كما أظهر التلقي التداولي، فإن ذلك لا يمنع أن هذه النصوص يمكن أن تستجيب لنمط آخر من التلقي يصدر عن آفاق قرائية مغايرة تطمح إلى تلقي هذه النصوص في ضوء مفاهيم التصوير في سعي للكشف عن معالم البعد التخييلي الذي تنطوي عليه هذه النصوص، ويسهم بقسط موفور في بناء بلاغتها المخصوصة حيث مقومات مثل التصوير والسرد والهزل والطرافة والغرابة غير منفكة عن أساليب الإقناع ومقتضيات التداول ولكنها مباطنة لها وملازمة . ومن هنا وجب على المحلل البلاغي لأخبار الجاحظ الوعي بتداخل وتمازج الوظيفتين الحجاجية والتخييلية فيها، ففي نصوص الجاحظ من "الأدبية" ما يجعل القارئ يتفاعل معها بمفهومات التخييل والتصوير إلى جانب التداول والحجاج. وهو ما قرره الباحث في الفقرة الأخيرة التي قفل بها خاتمة الكتاب حيث صدع بما يمكن اعتباره "القول الفصل" في بلاغة الجاحظ من منظور الباحث. يقول: " نستطيع أن نخلص في نهاية هذا التحليل إلى أن بلاغة الجاحظ قامت على مكونين أساسين هما: الحجاج والتصوير. فالجاحظ بياني قوي الحجة قادر على الإقناع والإفحام والتأثير وهو أيضا مصور قادر على الوصف الدقيق والقص الممتع تدل على ذلك نوادره وأخباره في البخلاء وكتاب الحيوان والبيان والتبيين، فلا عجب أن تجتمع في الرجل هاتان الصفتان اللتان شكلتا عمود البلاغة الإنسانية"، (البلاغة والسرد ص: 168).
إن التداخل بين التخييل والحجاج سمة راسخة في نثر الجاحظ لحظها ونبه عليها أغلب قرائه بدءا بابن العميد الذي وصف كتب الجاحظ بأنها تعلم "العقل أولا والأدب ثانيا"، (البلاغة والسرد ص: 139) إلى شوقي ضيف ( الفن ومذاهبه في النثر العربي) وفيكتور شلحت ( النزعة الكلامية في أسلوب الجاحظ) و محمد النويري ( البلاغة وثقافة الفحولة) و محسن جاسم الموسوس ( سرديات العصر الإسلامي الوسيط). لقد توقف الباحث عند هذه الكتابات التي زاوجت في مقاربتها لآثار الجاحظ بين البعدين التخييلي والتداولي وعمل على تجلية هذا الملمح فيها، حيث أعاد صياغة الإشكال الذي تطرحه على الشكل التالي: هل يتسع نثر الجاحظ للوظيفتين التخييلية والتداولية؟ أو بعبارة أخرى: هل يفضي وصف أعمال الجاحظ وتفسيرها إلى وضع اليد على بلاغة مخصوصة؟ يتداخل فيها نمطان من الخطاب، الخطاب التداولي الحجاجي والخطاب الأدبي التخييلي، (البلاغة والسرد ص: 137.) لقد اعتمد الباحث اجتهادات ياكبسون خاصة "الوظيفة المهيمنة" وتصورات موكاروفسكي حول "تنافس الوظائف" مداخل لتسويغ أطروحته الناحية إلى تقرير الجدل مبدأ بين الحجاج والتصوير في أخبار الجاحظ. وقد استقام للباحث استنادا إلى أطروحة موكاروفسكي حول الخاصية المزدوجة للعمل الفني باعتباره علامة مستقلة وتوصيلية في نفس الآن أن يعد أخبار الجاحظ مزاوجة بين الوظيفتين: الحجاج والتصوير.
انطلاقا من هذا الفهم تناول الباحث في الفصل الثاني من الكتاب "التمثيل السردي والتواصل" جملة من نصوص الجاحظ السردية من منظور تواصلي الأمر الذي سمح له بعقد مماثلة بين الخطاب والمقامات التي يتنزل فيها، حيث المرسل (الجاحظ هنا) يلح على المقاصد (فعل النص في متلقيه) من دون أن يفرط في شروط الإرسال الجيد (الصياغة) التي تتيح له التأثير في المستقبل وإثارة انفعلاته.
لقد توقف الباحث عند أخبار ثلاثة تجلي هذا الملمح في أخبار الجاحظ: خبر "وفاء كلب" (ص: 63) وخبر عبد الله بن سوار وإلحاح الذباب ( ص: 44) وخبر "الشيخ عبد الله بن مرثد مع الكلب" (ص: 44) حيث استخلص من تحليله أن هذه التمثيلات السردية هي "مواقف تواصلية" يتوخى الجاحظ من خلالها حمل متلقيه على إنجاز فعل يقع خارج النص (الذم والسخرية والنفور من أفعال يراها الجاحظ شاذة ويريد من قارئه أن يشاركه هذا الحكم). يتعلق الأمر إذن بالوظيفة البلاغية الحجاجية التي تتخذ من الأخبار إطارا سرديا تتضافر فيه وتتساند أساليب الإقناع ومقومات الإمتاع لحمل المتلقي على فعل ما أو النفور منه .
إن الجاحظ فيما يستخلص الباحث "لا يتردد في إلحاق العقاب بشخصياته المتردية والسخرية منها داعيا المتلقي إلى مشاركته وجهة نظره بناء على جملة من المسلمات والقيم التي قامت عليها نصوصه السردية الحجاجية"، (البلاغة والسرد ص: 48). مما يعني أن أخبار الجاحظ هي عند التحقيق تشكيلات فنية وجمالية منطوية على عبرة وفائدة. وهو ما عكف الباحث على إجلائه عندما بحث "مقاصد الأخبار" في المدونة الجاحظية، (البلاغة والسرد ص: 48)، حيث نظر في أخبار الجاحظ باعتبارها خطابا بلاغيا تواصليا يتوخى توصيل جملة من المقاصد من قبيل: - بناء الأخلاق في المجتمع - المعرفة العقلية سبيل الإيمان -التمييز بين الإنسان والحيوان - تثقيف القارئ - متعة الهزل المقترنة بالفائدة.
وقد انتهى الباحث من فحص وتدبر المتن السردي المعتمد إلى تقرير التداخل بين "الحجاج والسرد" في أخبار الجاحظ مبدأ راسخا وحقيقة متأصلة، فهي حكايات سردية "تقوم بتمثيل مضمون خلقي أو حكمة مشتركة أو معنى نقدي أو فكرة فلسفية أو علمية. فإذا كانت في بنيتها السطحية الظاهرة تسرد حكاية فإنها من الواضح تخدم أغراضا بلاغية"، (البلاغة والسرد ص: 49).وتلك مقدمات قادت الباحث إلى استخلاص نتيجة هامة نراها عصب البحث وحجر الزاوية فيه مؤداها أن النظر في أخبار الجاحظ "لا ينبغي أن يكون باعتبارها سردا خالصا أو خطابا حجاجيا مستقلا بل ينظر إليها في صيغتها المتداخلة بين التخييل والإقناع أو بين الخطاب السردي والخطاب الحجاجي"، (البلاغة والسرد ص: 50) .
لقد قدم محمد مشبال في هذا الكتاب، الذي هو ثمرة جهد خصيب من التفكير البلاغي اليقظ، قراءة اجتهادية لا تركن للمألوف ولا تسكن إلى الجاهز، فقد سعى الباحث من خلال جهده في هذا الكتاب إلى معاودة النظر في البلاغة الجاحظية التي خضعت لقراءات متعددة وانطلاقا من أنظار بحثية ومنهجية متغايرة. ويأتي إسهام الباحث ليشكل "قيمة مضافة" إلى جهود الباحثين الذين فتنوا بالجاحظ وأغرتهم نصوصه الإبداعية فاتخذوها أرضا لتجريب عتادهم القرائي. غير أن الباحث يقترح في هذا الكتاب أجهزة قرائية مختلفة قدرها مسعفة في رسم معالم البلاغة الجاحظية بما تعين من حدود وما ترسم من آفاق. فالقراءة هنا ليست "تطبيقا" لمناهج أو اختبارا لنظريات يغدو معها النص مجرد "شاهد" على قناعات نظرية معدة سلفا، ولكنها خلاصة تجربة إنسانية في معايشة المتن الجاحظي دراسة وتدريسا، الأمر الذي يفضي إلى "ألفة" ومتعة تهزان الذات القارئة التي تستشعر حاجة إلى "المشاركة الإنسانية" فيكون البوح الذي أثمر كتابا اصطفى له صاحبه من الأسماء " البلاغة والسرد- جدل التصوير والحجاج في أخبار الجاحظ".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.