تمهيد: عرض بالمركب الثقافي بمدينة الناظور العرض الأول لمسرحية (نقب واهرب) للفنان المغربي عبد الحق الزروالي، وذلك في إطار الأيام المسرحية الثانية بتاريخ 26 مارس2013. وتتسم المسرحية في أبعادها الفنية والجمالية والدلالية بتصويرها البلاغي الكلي، حيث تنقسم التمثيلية إلى مجموعة من الصور المسرحية الفرعية، ضمن تجربة مسرحية منودرامية متميزة، تعكس مسيرة حياة مبدع وفنان في صراعه مع الذات والواقع معا. وعليه، سنحاول في هذه الدراسة مقاربة العرض المسرحي الذي قدمه عبد الحق الزروالي في ضوء الصورة البلاغية، من خلال استكشاف الصور البلاغية والسردية والدرامية التي تعج بها المسرحية بشكل من الأشكال. إذاً، ما هي هذه الصور التي تزخر بها مسرحية (نقب واهرب) لعبد الحق الزروالي؟ وماهي الآليات الدلالية والفنية والجمالية التي تستند إليها هذه التمثيلية المعروضة؟ هذا ما سوف نرصده في هذه الورقة النقدية. آليات المسرح الفردي: تسرد مسرحية ( نقب واهرب) لعبد الحق الزروالي حكاية مرزوق ومرزوقة، معروضة في إطار مسرح تراجيدي متوتر، يستحضر المخرج فيها الذات والموضوع والميتامسرح في نطاق رؤية جدلية مأساوية. ومن ثم، تنشد التمثيلية سيمفونية السقوط والهزيمة والانتظار، وتعلن موت الإنسان أوالفنان الذي يتخبط في صراعه العبثي والسيزيفي مع ذاته وواقعه وفنه. وقد اعتمد عبد الحق الزروالي في ذلك على مجموعة من الآليات الإجرائية التي يمكن حصرها في ما يلي: آلية التمسرح الفردي: يعني هذا أن المسرح عند عبد الحق الزروالي تجربة فردية، وليست تجربة جماعية أو ثنائية، حيث يقوم الزروالي بأداء أدوار فنية عدة ، منها: دور الممثل، والمخرج، والمؤلف، والسينوغرافي، بل يمارس حتى دور التقني... وقد حافظ عبد الحق الزروالي على تجربته المنودرامية منذ سنوات السبعين إلى يومنا هذا، ولم يحد عنها قيد أنملة، بل يسعى إلى تطويرها من عرض مسرحي إلى آخر، مقتنعا بفلسفتها وأهميتها وجدواها في تفعيل حركية المسرح العربي بصفة عامة، والمسرح المغربي بصفة خاصة. آلية الممثل الشامل: يتميز مسرح عبد الحق الزروالي بالممثل الشامل الذي يقوم بأدوار عدة، فهو عامل لغوي، وعامل سيميائي، وعامل دلالي، وعامل منطقي. أكثر من هذا، يتحول هذا الممثل إلى أقنعة رمزية ودرامية عدة، ويتخذ صورا سيميولوجية متنوعة ومختلفة. ويعني هذا أن الممثل الشامل هو الذي ينجز مجموعة من المهام إلى جانب التشخيص، كالتأليف، والإخراج، وتصميم السينوغرافيا، والتحكم في الآليات الصوتية والتقنية والموسيقية، ويستحضر عبر حواره الفردي شخصيات خيالية متنوعة، فيجسدها بصريا وحضوريا، ويتفاعل مع الجمهور عن طريق التشابك النفسي والالتحام الوجداني. آلية التقطيع: يلتجئ عبد الحق الزروالي إلى تقطيع العرض المسرحي إلى مجموعة من المشاهد والمناظر واللوحات الدرامية، بغية تكسير روتين الاسترسال والانسياب المملين، لكن داخل وحدة موضوعية قائمة على الاتساق والانسجام الدلاليين. ويعني هذا أن الزروالي يكسر عرضه الميزانسيني بمجموعة من الوقفات الكوميدية أو التراجيدية؛ لتكسير رتابة المسرحية، والحد من امتدادها الطويل الذي يتجاوز ساعة ونصف من المناجاة، والحوار الداخلي، والمنولوج الطويل. آلية الاستطراد: لا يلتزم عبد الحق الزروالي بسرد القصة بشكل متسلسل ، بل يكسرها إلى مناظر ومتواليات درامية متنوعة، لها عناوين فرعية خاصة، تخدم العنوان الرئيس. وأكثر من ذلك، تصبح لازمة (مرزوقة ومرزوق) هي أداة ناجعة للربط بين المشاهد المتنوعة، ووسيلة فعالة للجمع بين المتتاليات والفقرات والوحدات المفككة. ويعني هذا أن عبد الحق الزروالي يخرج من موضوع إلى آخر، ويسهب في الحبكة الدرامية تفصيلا وتوسيعا واستطرادا، كما كان يفعل الجاحظ، وطه حسين، وعز الدين المدني.... بغية إثارة المتلقي ذهنيا، واستفزازه رصدا وتقبلا، وتشويقه وجدانيا وحركيا. آلية التسريد: يرتكن عبد الحق الزروالي في مسرحيته (نقب واهرب) إلى آلية السرد والحكي على غرار بريخت، منتقلا من حكاية إلى أخرى، حيث يتحول الممثل الشامل إلى راو وسارد وشاعر ومبدع وفنان وشخصية عادية مقهورة، أو شخصية متسلطة قاهرة. وقد تأثر الزروالي أيما تأثر في ذلك بعالم الرواية والقصة. ومن ناحية أخرى، يوظف الزروالي هذه التقنية حينما يستكشف الخيوط الكبرى لقصته، فيبدأ بتعريف الشخصيات، وتفصيل الأحداث الدرامية الكبرى والفرعية، واستعراض الحبكة الدراماتورجية. اضف إلى ذلك، أن هذه الآلية تقرب المسرحية من عالم الأدب أكثر مما تقربه من عالم المسرح. آلية تكسير الجدار الرابع: يتميز عبد الحق الزروالي بخرق الستار الخيالي، وتكسير الجدار الرابع، بغية الالتحام بالجماهير الراصدة للعرض المسرحي، بل يدخل في حوار مباشر مع الصالة، مستعملا في ذلك لغة عربية أدبية شاعرية، ممزوجة بدارجة راقية ، بل قد يعنف بعض الشاردين أو الساهين أو المشاغبين في قاعة العرض على طريقة الطيب الصديقي في تعامله مع الجمهور الحاضر. ويعني هذا أن الزروالي قد تشبث كثيرا بتقنية بريخت في التواصل مع الجمهور تنويرا وتوعية وتبليغا، والاشتباك معه فنيا وجماليا ودلاليا ونفسيا. آلية التنويع: يكسر عبد الحق الزروالي رتابة عرضه المسرحي بتنويع لوحاته ومشاهده ومناظره ، من خلال استخدام الأغاني والرقصات والموسيقى الوظيفية المعبرة، مع تضمين مواقفه الدرامية بالأشعار والأمثال والملحون ...، وتنويع الإضاءة السينوغرافية تعتيما وإنارة. وبالتالي، تنتقل الإضاءة من إضاءة عامة إلى إضاءة مركزة ومبئرة. كما يعتمد الزروالي على تنويع الأصوات داخل العرض المسرحي إيحاء وترميزا ، من أجل توفير الأجواء المسرحية المناسبة لتمثيليته المنودرامية سياقا وتداولا وتمهيدا. علاوة على ذلك، ينوع تحركه فوق خشبة المسرح في اتجاهات أفقية وعمودية ودائرية ودرامية. آلية الاسترجاع: تعتمد مسرحية عبد الحق الزروالي على آلية الاسترجاع ، من خلال تذكر الأحداث والحكايات والقصص. ويعني هذا أن السارد يتلذذ بذكرياته المسترجعة، ويستكشف ذاكرته المنسية أو الحية أو المهترئة، باستعراض أحداث الماضي في علاقتها بالحاضر والمستقبل.أي: يحضر الماضي بشكل لافت للانتباه داخل العرض المسرحي، مادام يقوم على التذكر والفلاش باك واسترجاع الذكريات. هذا، ويبرز الفلاسفة كثيرا مدى أهمية الذكريات في بناء الحاضر ، وتنمية شخصية الإنسان ، كما يتضح ذلك بينا عند دافيد هيوم(D.Hume) ، وفرويد (Freud) ، و جول لاشوليي(Jules Lachelier)... آلية التهجين اللغوي: يستعمل عبد الحق الزروالي لغة تراثية معتقة ممزوجة بعامية مغربية أو عربية، مع إيراد الأمثال والحكايات والقصص والأشعار والأغاني والملحون ، وتوظيف تقنيات السرد التراثية، والتحليق في أجواء الماضي عبر عبق الذاكرة وحكايات ألف ليلة وليلة... ويعني هذا أن لغة عبد الحق الزروالي تمتح أصالتها من معين البلاغة والسرد العربي القديم تشاكلا وتطابقا وتجانسا وتوازيا ومقابلة وتضمينا وتناصا...كما ينتقل الزروالي من أسلوب إلى آخر تنضيدا وأسلبة وبوليفونية. ويذكرنا كل هذا بمسرح الطيب الصديقي، ومسرح عز الدين المدني ، ومسرح عبد القادر علولة ، لاسيما على مستوى المزج اللغوي والأسلوبي ... آلية المناجاة: تتحول مسرحية (نقب واهرب) لعبد الحق الزروالي إلى مناجاة طويلة ، يستحضر فيها شخصية مرزوقة التي فارقت مرزوق إن حضورا وإن غيابا، وتركته وحيدا يندب ماضيه، ويلعن حاضره، ويبكي مستقبله. ويعني هذا أن مسرحيته عبارة عن منولوج طويل، ينقسم إلى حوارات داخلية، وحوارات راصدة، وحوارات متخيلة مع شخصيات مستحضرة إيحاء وتلويحا وتعريضا وتناصا، و حوار مناجاة في شكل توتر ذاتي داخلي، أو بمثابة أدعية، أو حديث مع النفس أو الذات في صراعها الداخلي، أو في صراعها الخارجي مع الواقع والفن. أنواع الصور البلاغية: يعتمد عبد الحق الزروالي في عرضه المسرحي (نقب واهرب) على مجموعة من الصور البلاغية ، سواء أكانت لفظية أم بصرية؛ مما جعل هذه المسرحية تتخذ منحى رمزيا تراثيا وذهنيا ثريا، يدفع الراصد إلى استخدام مخيلته التأويلية لقراءة الشفرة بدقة محكمة، وتفكيكها لسانيا وسيميائيا. والآن، نستحضر مجموعة من تلك الصور، وهي على الشكل التالي: صورة التضمين: يعتمد عرض عبد الحق الزروالي على صورة التضمين أو الاقتباس التي تتحول إلى حوار تناصي تفاعلي، حيث يورد الزروالي أشعار العرب وأيامهم وتاريخهم وقصصهم، علاوة على تضمين عرضه المسرحي بمجموعة من الأغاني الشعبية والراقية، والاستشهاد بالأمثال والحكم والعبارات المأثورة والمسكوكة ، مثل: الصيف ضيعت اللبن، هذا ما جناه علي أبي... صورة التشاكل: يشدد عبد الحق الزروالي كثيرا على صورة التشاكل القائمة على الاشتقاق والمشابهة الصوتية والإيقاعية واللغوية، مثل: مرزوق ومرزوقة... ويعني هذا أن المسرحية عبارة عن تشاكلات اشتقاقية وجناسية من البداية حتى النهاية ، تنقر على إيقاعية العرض وموسقته، بغية إثراء تنغيمه اللغوي والبصري والموسيقي... صورة السخرية: تنتج هذه الصورة عن توظيف مجموعة من المفارقات التي يستعرضها الزروالي عبر امتداد مسرحيته المنولوجية الطويلة، فيسخر من ذاته المهترئة، ويتهكم من الواقع المحبط الموبوء بالقيم التبادلية المنحطة. كما يسخر من واقع الفن الذي كسدت بضاعته، بسبب اللامبالاة القاتلة، والتهميش المقصود، وكثرة الوعود الزائفة، والتسويف الفارغ. صورة السجع: يستعمل الزروالي السجع بكثرة في عرضه المسرحي؛ لخلق هرمونيا إيقاعية متناسبة، عبر فواصل سجعية متناغمة ومتناسقة، مثل هذا المقطع: واحد نهار عضني الكلب في الدوار ركبوني على الحمار داوني لسبيطار... وهكذا، دواليك.... صورة المشابهة: تستند هذه الصورة إلى توظيف التشبيه والاستعارة والمجاز ، مثل العنوان (نقب واهرب) الذي يحمل خاصية استعارية، لتأكيد حيوانية الإنسان، وتصوير جشعه وطمعه البشع، والسخرية منه؛ بسبب استغلاله للآخر مكرا وخداعا واحتيالا. ويستعمل الزروالي التشبيه كثيرا، وبالضبط حينما يشبه الإنسان بالبراد في امتلائه وخوائه. صورة التوازي: يستخدم الزروالي في عرضه المسرحي صورة التوازي بكثرة، حتى إن المسرحية بكاملها، من البداية حتى النهاية، منغمة إيقاعا وتهجينا وأسلبة، حيث تكثر صورة التوازي بشكل لافت للانتباه، كما يبدو ذلك جليا في الشواهد التالية: البوارق/ المزالق، وحجلة وعجلة... صورة الترميز: يتحول عرض عبد الحق الزروالي إلى صور رمزية موحية مفتوحة، تحمل في طياتها دلالات عدة، ومقاصد مباشرة وغير مباشرة. بمعنى أن الرموز اللغوية والبصرية بمثابة رسائل ذهنية، تنتقد الواقع المحبط على جميع الأصعدة والمستويات.أي: إن العرض المسرحي انتقاد رمزي للذات والواقع والفن على حد سواء. صورة المقابلة: لم يكتف عبد الحق الزروالي بصور بلاغية معينة، بل وظف أيضا صورة المقابلة ليشير إلى التناقضات الجدلية التي توجد في العوالم الذاتية والموضوعية والميتامسرحية، مثلما هو الحال حينما كان يتحدث عن الصهاينة في علاقتهم بالفلسطينيين، حيث يقول الزروالي ساخرا: أدخلونا في التاريخ، وأخرجونا من الجغرافيا... صورة الطباق: تعج المسرحية بمجموعة من الأضداد والطباقات البلاغية التي تعبر عن الصراع الجدلي بين السيد والعبد، وصراع الذات مع الواقع، ورصد تناقضات الموضوع المادي في تشيئه، واستلابه، وانبطاحه، وتآكله وجوديا وكونيا. صورة السيمياء: يستعين عبد الحق الزروالي بصورة السيمياء التي تتمثل في مجموعة من الإكسسوارات والأيقونات. فهناك أيقون الحقيبة الدال على السفر والارتحال والضياع والانتظار والبحث السيزيفي عن المعشوقة مرزوقة، وصورة العصا التي تحمل دلالات الترحال والانتظار والعجز والتحدي والصمود، وصورة الكتب التي تحيلنا على عبثية الإنسان المثقف، وضياعه وجوديا وكونيا ، واغترابه ذاتيا ومكانيا ... وأحسن الصور السيميائية التي شغلها عبد الحق الزروالي تلك الصورة التي استخدم فيها الزروالي أصبعه الأوسط للإشارة إلى ضياع الإنسان العربي، والتأشير على خسارته الكبرى. خاتمة: نستنتج، مما سبق ذكره، بأن مسرحية (نقب واهرب) لعبد الحق الزروالي عبارة عن عرض مسرحي مفتوح ذهنيا وسيميائيا ووجدانيا وحركيا. ويتضمن مجموعة من الآليات الإجرائية لتفعيل المسرح المنودرامي ، مثل: آلية المسرح الفردي، وآلية الممثل الشامل، وآلية التقطيع، وآلية الاستطراد، وآلية التنويع، وآلية التسريد، وآلية التهجين، وآلية المناجاة، وآلية الاسترجاع، وآلية تكسير الجدار الرابع... ومن جهة أخرى، يعج هذا العرض المسرحي بمجموعة من الصور البلاغية والدرامية، كصورة السجع، وصورة المشابهة، وصورة السيمياء، وصورة الطباق، وصورة المقابلة، وصورة التشاكل، وصورة التوازي... ويعني هذا أن تمثيلية عبد الحق الزروالي تنحو منحى التأصيل الفني والجمالي في مجال الدراما المسرحية، من خلال الارتكان إلى التهجين اللغوي، وأسلبة لغة العرض المسرحي تنضيدا وتناصا ومفارقة وسخرية وتناصا وحوارا وتفاعلا... وبهذا، يكون عبد الحق الزروالي رائد المنودراما العربية بامتياز.