كان محفلا بهيجا، اصطفت العصافير معها والعناكب، اصطفت الطيور و معها الحمائم، وقف ال»كنار» يرتل موسيقاه في تثاؤب، بدأت السوق.. في ساحة تفتح أرضها لأقفاص تحمي طيورا تسر الناظرين.. في ساحة انطلق ثلة من المعجبين بالعصافير في تأثيث فضاء السوق الأسبوعي. كلمات صارت لزام ألسنتهم، ولغتهم تخللتها رموز لا يجيد فك شفراتها إلا من اقتحم عالم العصافير وأمضى تجربة طويلة في تربية «سطيلة» وفصيلته. سوق «الفراخ» بالقريعة الذي يجاور سوق العيون بأمتار معدودة، بالعاصمة الاقتصادية البيضاء، يعج بمن فيه، شباب وشياب حتى، ألفوا زيارته كل أحد، في أياديهم «سجون» صغيرة، ضاقت مساحتها بعصافير اختلفت في لحنها ونشيدها ولون ريشها. يوم الأحد، عقارب الساعة تتحرك نحو العاشرة صباحا، باب صغير يقود مريده نحو عالم متناهي في الكبر بداخله لغة يتداولها فئة خاصة من الناس، لا يفهمها إلا الممتلك لأذن موسيقية وعين فنية. بين زحمة السوق تهيم أعين الزائر مسترخية في فضاءه الرحب، توابل الأقفاص والكارتون والصناديق الخشبية خلقت وصفة سحرية تتلاءم وذوق العارفين بثنايا هذا العالم. عصفور «البيروكي» المتواجد بين بضعة قضبان حديدية داخل مساحة ضيقة، جعلته ينطق من حين إلى آخر بعبارات «حلو عليا» و»بغيت نطير» في مشهد يجعل قهقهة الزوار ترتفع ضحكا. نوع الطائر، ثمنه وكم يبيض شهريا أسئلة يطرحها زائر السوق بفضول تام لما لا والعرض يفوق الطلب لتبقى الجودة معيارا للثمن. فأغلى الطيور يصل ثمنها إلى 10000 درهم فيما أرخصها «البيروش» بثمن 40 درهما. بين جنبات السوق رفقة بائع طيور «مبيضة ولامفرخة»، أول سؤال طرحه عزيز عند دخوله سوق «الفراخ» بالقريعة، البائع يجيبه.. «هذا الربيع وهذا هو الوقت ديال البيض»، فيسأله عزيز في عملية تواصلية مشفرة.. «شحال عندها من شهر»، البائع يجيبه « ثلاثة شهور، يلا عندك شي جويجة فالدار خود هادي وعاشرها معاهم»، ينتهي الحديث بين عزيز والبائع بسبب الثمن الذي لم يناسب عزيز. مجرد أسئلة فقط، أراد بها عزيز دراسة السوق من حيث الثمن والجودة، فمهنته كبائع طيور تدفعه باستمرار لمعرفة ثمن كل نوع. قبل زيارته السوق رتب عزيز أقفاصا صغيرة الحجم في محفظته، واضعا سعرا لكل زوج من طائر «البيروش»، أما طيور «الكنار» و»الحسون» فالربح معقود عليهما. بين أزقة السوق التي خلقتها صفوف بائعي الطيور يجول عزيز متفقدا أجود الطيور وأثمنها قبل عرض بضاعته التي حرص لأسابيع على رعايتها والاهتمام بها ليل نهار. ما أن أكمل جولته بالسوق حتى التقطت عيناه حيزا فارغا لم يعتد افتراشه من قبل. يتجه صوبه بسرعة خاطفة، يلقي السلام على رفاقه، يفتح حقيبته التي اختزنت بدورها أقفاصا تعج بالطيور ويبدأ في ترتيبها وفقا لمعايير جمالية قد تجذب الزائر نحو طيوره. عن سر اهتمامه الكبير وحبه الشديد للطيور يقول عزيز « لما كنت في الخامسة عشرة من عمري كنت أرافق عمي في زياراته المتكررة نحو «سوق العيون»، كنت أدقق في تغريدات العصافير وأشكالها وحتى ألوانها المختلفة، عند بلوغي السابعة عشرة انقطعت عن الدراسة ووصل اهتمامي بالطيور إلى ذروته، فاتخذت من تجارة الطيور وبيعها حرفة لي. والحمد لله الأمور مشيا مزيان» عزيز ليس سوى مثال لجمع من أصدقائه الذين أغرتهم تغريدات «سطيلة» و»الكنار» والآخرون. «المالينوا» .. مهاجر أوربي حسب إجماع العارفين بخبايا تربية العصافير، فالمغرب يمثل محطة موسمية تقصده عصافير «المالينوا» القادمة من إسبانيا وبلجيكا، حيث تعيش وتتوالد مؤقتا بغابة بوسكورة والمعمورة ومناطق متفرقة من جبال الأطلس. اعتدال جو فصل الربيع بالمغرب يدفع هاته العصافير سنويا إلى الهجرة نحو غاباته، التي تعتبر وجهة جيدة لوضع البيض ورعايته إلى حين تفقيصه ثم العودة من جديد نحو الديار. وينظم المغرب سنويا بطولة وطنية لاختيار أفضل الطيور تغريدا من هذا الصنف، البطولة تحظى بمشاركة مربوا «المالينوا» من جميع جهات المغرب وذلك للتباري حول لقب «مالينوا الموسم». «البيروكي» .. مهاجر أسترالي تهاجر طيور البيروكي القادمة بدورها من الغابات الأسترالية نحو بلدان شمال إفريقيا خلال فصل الربيع وذلك لوضع بيضها في ظروف طبيعية ملائمة. طائر الببغاء يمثل صيدا ثمينا لمربي الطيور إذ يتراوح ثمنه بين 2000 درهم و 10000 درهم، مناطق اصطياده بالمغرب حسب بائعي الطيور تشمل مدن خريبكة، وجدة والحسيمة. قدرته على تخزين الفونينمات في ذاكرته تجعله الطائر المحبوب لدى فئة واسعة من هواة الطيور، بين الفينة والأخرى يصدر بصوته كلمات اعتاد سماعها. تغريداته تبدوا أحيانا مزعجة إلا أن ريشه يجمع ألوانا متعددة. «الموزاييك» .. مهاجر من جزر الكناري «السات»،»الفريزي» و»الساكسون رولر» طيور جعلت شبابا وشيوخا يهتمون بها وبثمنها المتراوح عادة بين 150 و 700 درهم. طيور «الموزاييك» متعددة، لون ريشها وطبيعة تغريداتها فقط يحددان نوعها، شكل جسمها يرسم رقم سبعة، في مظهر أنيق يغني جمالية القفص ويضفي عليه طابعا رومانسيا. وفقا لشروط معينة ومعايير صارت حكرا على باعة هذا العالم وزبنائه فطيور «الموزاييك» غالبا ما يتم تهجينها بمعية أصناف أخرى من الطيور. مهن خلقها رواج سوق «الفراخ» عند مدخل السوق يقف بعربته التي اتسعت لبضع كؤوس زجاجية وقنينات بلاستيكية ملأها مسبقا بالريب، بين الفينة والأخرى ينادي «الريب بلدي» لجذب الزبناء نحو عربته، أعينه ترقب زوار السوق والوافدين إليه. كل مساء يقتني حليبا طريا صافيا، يضيف إليه حبوبا تسمى «المروبات»، يضيف إلى الوصفة مكوناته السحرية، يهيئها في قنينات بلاستيكية، ثم يركنها في مكان دافئ، بعد 4 ساعات يضع قنيناته في ثلاجته، ثم ينصرف إلى النوم. « نهار الحد كيكون ميسر، الحمد لله كنبيع كلشي، كاع الناس كيعجبهوم الرايب ديالي. الله يدوم علينا هاد السوق» «الزوان»، «زريعة الكتان» و»الميلونج» منتوجات غذائية تخص الطيور اعتاد محمد تهييئها بمزله مساء كل سبت. في أكياس بلاستيكية اختلفت أحجامها وفئاتها وضع محمد كميات محددة من أغذية الطيور، السعر يبدأ بخمسة دراهم ويصل إلى عشرة دراهم. إلى جانب أغذية الطيور يبيع محمد لوازم ومعدات تخص أقفاص الطيور من قوارير للشرب وعلب للأكل إضافة إلى أشياء أخرى. «من زمان وانا كنفرش هنا، معيش عائلة من هاد الحرفة، حنا عايشين مع هاد الناس» ليبقى سوق «الفراخ» بالقريعة محطة أسبوعية تجمع عشاقا وهواة طيور، خطواتهم الأولى في هذا العالم كانت إعجابا لتتحول بعد ذلك إلى هوس صار يشغل دهنهم ويملأ تفكيرهم في كل وقت وحين.