تتحدث كل طيور العالم المغردة لغة الشذو والموسيقى النابعة من سحر الطبيعة، وتتحدث الشعوب عن خصوصيات تراثها وتقاليدها، وتعاملها مع باقي الكائنات. ويتحدث هواة تربية الطيور المغاربة لغة العشق والانصهار في عالم خاص لا يمكن الحكم عليه بمجرد النظرة الأولى. يعشقون أن ينادى عليهم بلفظة «الماليع»، وهي كلمة السر بينهم لقياس مدى تعلق كل فرد بهوايته، وبطائره، سواء كان حسونا أم كناري مالينوا أو فلاوطا أو غيرها... تتعدد أسماء الطيور وأشكالها وخصوصياتها، وتبقى الهواية أو «الولاعة» قاسما مشتركا بين جميع الهواة، لتصل حد الجنون أحيانا. ويعيش الهواة في ارتباطهم بهاته الحيوانات الفريدة قصصا مثيرة، فبعضهم قد يصل به التعلق بطائر معين حد مبادلته بمعطف جلدي، أو حتى بسيارته، كما يروج في أوساط «الماليع»، لأن العشق أعمى، ولم يعد هناك هدف لدى العاشق سوى الوصول إلى معشوقه مهما كان الثمن باهظا في نظر الآخرين، فإنه بالمقابل لا يساوي شيئا لدى العاشق، وهذا دخول قوي في مقام العشق لا يعلمه إلا المريدون. «الاتحاد الاشتراكي» اقتحمت على «الماليع» عالمهم الخاص، وتقاسمت معهم هذا العشق والجنون، لتهديه إلى قرائها كتغريدات منعشة... أتذكر أني كنت أصطاد في صغري مجموعة من الطيور التي كانت متواجدة بكثرة في منطقة الجديدة ك«كوبار» «سطيلة»، «الجاوش»، «بومسيسي»، و«بالهدهود» . في ذلك الوقت كان شائعا عند العامة في التراث الشعبي أن كل من أكل قلب «بالهدهود» وهو طائر «الهدهد» سيصبح فائق الذكاء، وهو ما جعله على رأس أولوياتنا في خرجات الصيد الطفولية . كنا سنة 1967 نصطاد هذه الطيور بحجرة «فكاك» الخاصة ب«سطيلة» أي طائر الحسون، وقد كنا نصطاد هذه الطيور بمنطقة «المويلحة» بمدينة الجديدة التي كانت خلاء آنذاك، وتعرف توافد عدد كبير ومتنوع من الطيور. ابتداء من سنة 1979 كنا نصطاد طيور الحسون و عملنا على تربيتها في القفص، كان ذاك أول لقاء لي مع الولاعة التي يتحدث عنها الجميع، وأول الحبو في اتجاه مملكة الطيور، شجعني تفهم الأسرة، وعدم تدخلها لمنعي من هوايتي المفضلة، بل إنها كانت تحبذ الإهتمام بالحيوانات، خاصة الطيور. أتذكر حينما اشتريت أسطوانة 45 «تورنيديسك» التي عن طريقها كنا نتعلم «الرواية»، أي مقاطع تغريد مركبة، اشتريتها من الدارالبيضاء قرب سينما «ليبرتي». حينما التحقت بالوظيفة العمومية كنت أتنقل بين بلدة البئر الجديد و مدينة الجديدة، كنت أقطن مع العائلة، هذا الوضع جعلني أتخلى عن بعض الطيور لكثرتها آنذاك، و لعدم إيجاد الوقت الكافي للاهتمام بها. وفي سنة 1986 عدت إلى «الولاعة»، وتسلمت بطاقة التعريف الخاصة بمملكة الطيور، عن طريق اختبار العشق والسماع، كانت البطاقة هي طائر المالينوا، أذكر أن أخي كان يملك هذا الطائر، ذهبت عنده إلى الدارالبيضاء حيث يقطن، و بشرفة بيته بشارع الزرقطوني سقطت عيني على هذا الطائر، كانت لدي معلومات بسيطة عنه، منها أن لونه أصفر، لكن الغريب هو أنه كان أسود اللون، فأدركت أن التلوث غير لونه، تأثرت لهذا المشهد، أخذته منه و نقلته إلى الجديدة، اعتنيت به، نظفته ليكون بدايتي الحقيقية نحو عالم السحر والجمال، وهي بداية اهتمامي بالطائر الرومي «المالينوا». كنت ، حسب علمي، أول من اشتغل على إنتاج فراخ الحسون في القفص، و كما هو معلوم، فإن المسألة تكاد تكون مستحيلة بالنسبة للماليع، ولكي أتحدى هذه المعلومة، قررت أن أتميز وأقدم شيئا جديدا لمملكة الطيور الساحرة، فاشتغلت على طائر الحسون، و توصلت إلى إنتاج هذا الطائر بالقفص، تمكنت من إنتاج 20 فرخا من صغار الحسون إناثا و ذكورا سنة 2003/2004، استعملت في ذلك جذع شجرة و قشرة ثمرة الكوكو، فوجئ الجميع بالنتيجة، لم يصدقوا ذلك، لقد كانت بداية لتجربة لم تتكرر، لكني برهنت لحكماء المملكة بأن المستحيل ليس له مكان بوجود رغبة عارمة في التحدي والتميز، رحيلي من المكان الذي تمت به هذه التجربة، و انتقالي إلى مسكني الجديد جعلني أفكر في المحاولة من جديد لإعادة التجربة رغم صعوبتها، لكن النجاح الأول شكل حافزا لإعادة التجربة من جديد. لن أنسى طائر حسون كان متميزا جدا لدي لحد أنه كان لا يأكل إلا من يدي، حدث أن زارتنا معلمة صديقة للأسرة، شاهدت كيف يتصرف هذا الطائر معي، فطلبت مني أن أسلمه لها لكي تستخدمه كوسيلة لتعليم التلاميذ، رفضت في بادئ الأمر، غير أن تدخل الوالدة، أجبرني على تغيير رأيي وإعطائها الطائر. لكن الغريب هو أنها حينما أعادته، كان مريضا «مكوبر»، حين يخرج رأسه من أسفل جناحيه ينظر إلي بعينين ذابلتين، وكأنه يلومني على خيانته، توفي في الغد، فأصبحت المعلمة بالنسبة لي أقبح من القبح نفسه لأنها حرمتني من أحد أعز رفاقي في مملكة الطيور التي بدت لي بعد فقدانه قاحلة بعدم وجود صديقي المدلل، لكن مملكة العشق لا تترك محروما أو محتاجا إلا وأرسلت له سفراء من عندها، لتحيي جذوة العشق في قلبه، وتحتفظ به موردا في بحر سمائها العسلية.