تتحدث كل طيور العالم المغردة لغة الشذو والموسيقى النابعة من سحر الطبيعة، وتتحدث الشعوب عن خصوصيات تراثها وتقاليدها، وتعاملها مع باقي الكائنات. ويتحدث هواة تربية الطيور المغاربة لغة العشق والانصهار في عالم خاص لا يمكن الحكم عليه بمجرد النظرة الأولى. يعشقون أن ينادى عليهم بلفظة «الماليع»، وهي كلمة السر بينهم لقياس مدى تعلق كل فرد بهوايته، وبطائره، سواء كان حسونا أم كناري مالينوا أو فلاوطا أو غيرها... تتعدد أسماء الطيور وأشكالها وخصوصياتها، وتبقى الهواية أو «الولاعة» قاسما مشتركا بين جميع الهواة، لتصل حد الجنون أحيانا. ويعيش الهواة في ارتباطهم بهاته الحيوانات الفريدة قصصا مثيرة، فبعضهم قد يصل به التعلق بطائر معين حد مبادلته بمعطف جلدي، أو حتى بسيارته، كما يروج في أوساط «الماليع»، لأن العشق أعمى، ولم يعد هناك هدف لدى العاشق سوى الوصول إلى معشوقه مهما كان الثمن باهظا في نظر الآخرين، فإنه بالمقابل لا يساوي شيئا لدى العاشق، وهذا دخول قوي في مقام العشق لا يعلمه إلا المريدون. «الاتحاد الاشتراكي» اقتحمت على «الماليع» عالمهم الخاص، وتقاسمت معهم هذا العشق والجنون، لتهديه إلى قرائها كتغريدات منعشة... ولدت بحي رياض الزيتون القديم بدرب الناقوس في مدينة مراكش، كان عشق الطيور والانغماس في عالمها إرث عائلي، فقد كان أبي يربي طيور الكناري منذ سنة 1950، أي قبل ولادتي بست سنوات، سبق وحكى لي أنه كان يقطن مع عمه في حي كليز الذي ترعرع فيه وشرب فيه ماء العشق وارتشف منه معنى الحياة. استمر السحر الموروث معنا، وحافظ عليه أبي حينما انتقلنا إلى حي الحسني كاسطور سنة 1966، كان عمري آنذاك لايتجاوز 10سنين، ما زلت أتذكر لحظات لا تمحى من ذاكرة صبي مراكشي أصيل، لقد كان أحد الباعة المتجولين يطوف في الأحياء، يضع صندوقا فوق دراجته، كان الصندوق مغطى بشباك تصطف تحتها مجموعة من طيور الحسون، اشتريت منه طائرا لا أعرف هل هو ذكر أم أنثى، أذكر أني دفعت فيه عشرون فرنكا، دخلت إلى منزلنا، ابتسم أبي ورحب بي في مملكة الطيور، وأعطاني قفصا لأضع فيه طائري. ازداد عشقي لطائر الحسون، وصرت أبحث عن تفاصيل العناية به، تغذيته، تطبيبه، تنظيف القفص، وذلك من خلال احتكاكي أيضا مع الأصدقاء في الحي الذين لهم نفس الاهتمامات في تربية الطيور والسباحة في فضاءات «عرصاتها» و«واحاتها» الساحرة، كان عددهم مهما، تقاسمنا تفاصيل العشق وذوق الجمال من خلال حب هذا الطائر الأنيق الذي يرجع له الفضل الأول والكبير في معرفة ولقاء وصداقة الكثير من العشاق في مدينة مراكش التي يفوح منها عبق التاريخ قويا، كما ينبعث منها غموض الأساطير القديمة، اضافة إلى نكهة عشق الطيور التي تسكن في قلوب العديد من أبناء المدينة، الوردة الحمراء، بمعالمها المتميزة وخصوصيات سكانها المرحة، وأيضا بقوة وشهرة طيورها، خاصة طائر الحسون المتميز، والذي تعد منطقة مراكش والضواحي من أحسن «المراكد» أو «الأوكار» الخاصة به، طائر الحسون هذا طار بي عبر أجنحته المزركشة في مملكة الطيور، وجعلني أمارس تربيته بجنون. عملت على البحث في لغة الطير، تفقهت قليلا، وعلمت من خلال مقاطعه التغريدية، بأن مستواه اللغوي مستنبط من مجموعة من التغاريد المتنوعة المأخوذة من العديد من الطيور الموجودة في موطننا مثلا كالمقاطع «الحدادية» و«العصفورية» و«البوحية» و«الحسنية» ولا ننسى كلمة ال«باجباطي» التي تسري في عشقي لهذا الطائر الجميل الذي سحرني منذ صغري. وبحكم ارتباطي به والتدقيق في معالمه الشكلية، والغوص في ثناياه الروحية من خلال تغاريده، والاجتماعية باعتبار نفسيته وتزاوجه، فكان لا بد من بسط هذا العلم للمغرمين به مثلي وللمهتمين والمبتدئين على السواء، من خلال محاضرات تتناول كل جوانب تربيته والعناية به وتزاوجه. مازال أبي وشيخي، النبراس الأول نحو مملكة السحر محتفظا بعشقه لطائر الكناري الذي كان هو سبب عشقي الأول للطيور المغردة. أقول وبكل اعتزاز وافتخار:« لقد كان ميلادي داخل مملكة الطيور التي فتحت عيني عليها وعلى روابيها وتضاريسها الرائعة من خلال أبي وشيوخي...»