الأحد، السابعة صباحا، يستيقظ "الجيلالي" باكرا، رغم أنه في يوم عطلة. يخترق بتحضيراته المكثفة صمت منزله بالدارالبيضاء، ينتقل هنا وهناك، عبر أرجاء البيت، يجمع أقفاصه ويحضر عصافيره بعناية، ثم يخرج دراجته النارية، وينطلق متوجها صوب سوق "الفراخ" الأسبوعي، وسط العاصمة الاقتصادية.يصل "الجيلالي"، الذي الجيلالي يبلغ 58 سنة من العمر ويعمل موظفا بالقطاع العمومي، إلى السوق، ويتوجه نحو المقهى القريب، يلقي التحية هنا وهناك، ثم يضع أقفاصه، وينضم إلى مجموعة من أصدقائه، يتجاذبون الحديث، ويخالطون أخبار الأسبوع برشفات من الشاي الساخن، في انتظار أن تتحرك عجلة السوق، ويمتلئ عن آخره، يقول أحد مربيي الطيور"يوم الأحد هو الموعد الذي يجمعنا هنا كهواة وكأصدقاء". التاسعة صباحا، شارع محمد السادس، المحاذي لسوق "الفراخ"، يضيق بمستعمليه، زوار من كل أنحاء المغرب، يتوافدون على السوق، وجلبة تحتدم عند مدخله، يقول حارس الدراجات "السوق دائما ممتلئ عن آخره، حتى عندما أعلن عن مرض أنفلونزا الطيور، ظل قائما في موعده، ولم يتأثر"، شأنه شأن غيره من الأسواق في باقي أنحاء المغرب، كسوق "الدجاج" بوجدة، و"باب الكيسة" بفاس، و"باب الحد" بالرباط، وسوق "حمرية" في مكناس. يجمع "الجيلالي" أقفاصه، ويدخل السوق. المكان يعج بالزوار، من كل الطبقات والأعمار، لكنات مختلفة تتناهى إلى الأسماع، وتتماهى، وتغريد العصافير المنبعث من كل اتجاه، في سيمفونية فوضوية، طبعت الجو العام للسوق، وشحذت حماسة "الجيلالي"، الذي يقول "السوق يمتلأ بالزوار من كل أنحاء المغرب يوم الأحد، أما السبت فحركته تكون بطيئة إلى حد ما". يتخذ زاوية بالسوق، يخرج كرسيه البلاستيكي الصغير. يجلس وبجانبه أقفاصه، التي تعج بأنواع عدة من العصافير، يرخي بسمعه إلى تغريدها، يقول (ع.ش)، 33 سنة، مربي طيور"تغريد وشكل العصفور هما اللذان يحددان قيمته". تصريح هذا المربي، يزيل بعض الغموض عن تصرف "الجيلالي"، الذي لا زال يستمع إلى تغريدها، وملامح وجهه تتأرجح بين الرضى في أحيان، والامتعاض في أحيان أخرى، لعله يقيم حالتها، إنه ارتباط وثيق بين البشر وهذه الكائنات، الصغيرة الحجم، المرتفعة القيمة. "جدر" و"شنبور" أقفاص من كل صنف وشكل، ولوازم ومعدات لتربية الطيور، تباع بالسوق، وتجد زبائنها دون الحاجة إلى إشهار أو تسويق، فهاوي تربية الطيور، يبحث عن كل ما يمكنه من العناية بها. والمكان المقصود دائما ما يكون محل "العشاب"، الذي ينتشر خارج أسوار السوق، وهي تسمية يطلقها هواة تربية الطيور على الدكاكين، التي تتاجر في بيع العصافير، وكل لوازم العناية بها من أقفاص وأدوية، هذه الأخيرة غالبا ما تكون مستوردة. بعد لحظات قليلة، يقترب أحد الزوار من "الجيلالي"، يسأله عن بعض عصافيره، ويدخلان في حديث مشفرا لا يستطيع فك رموزه، إلا العارف بخبايا هذه الهواية، من قبيل "واش هادا جدر ولا شنبور"، أي يتساءل حول عمر العصفور، ف"الجدر" هو العصفور البالغ، أما "الشنبور"، فهو العصفور الصغير السن. الحديث طال، والمناقشة احتدمت، لتنتهي أخيرا دون نتيجة، وينتقل الرجل إلى بائع آخر، لأن الجيلالي رفض بيع طائره. أثمنة متباينة يحددها نوع الطائر وشكله، ليبقى المعيار المهم، طريقة تغريده، وبهذا الخصوص يلجأ المربون إلى عدة طرق لتحسين تغريد طيورهم عن طريق ما يدعونه ب"الرواية"، ويستخدمون لأجل ذلك، أسطوانات مدمجة تحمل تغاريد نموذجية لأنواع معينة من الطيور شهرها "سطيلة" و"الكنار" و"الحسنية" و"الهزار" و"الميستو". سعر طائر الحسون أو"سطيلة"، المعروف بعدة مسميات أخرى، يتراوح بين 20 درهما و3000 درهم، والمعيار دائما طريقة تغريد الطائر، يأتي بعده طائر"الكنار" المرتفع الثمن، بسعر أدنى، يبدأ من 150 درهما، ثم هناك بعض الفصائل الهجينة، مثل"الميستو" المُنتج من تزاوج طائري "الحسون" و"الكنار" أو"الحسون" وطائر"القاماتشو" البري، التي تعتبر باهظة الثمن، وتتميز بجودتها في التغريد. أثمنة مرتفعة لهذه الكائنات الصغيرة، والسبب تغريدها، ربما يبدو هذا ضربا من الجنون بالنسبة للإنسان العادي، الذي لا يعرف عن هذه الهواية وروادها شيئا. لكن العارف بها لا يستغرب أن يترك بعض هواتها وظائفهم الأصلية، ويتخذون منها حرفة وتجارة، يقول (ع.ش)، 33 سنة، الذي ترك وظيفته كنجار ليمتهن تربية الطيور والمتاجرة بها "بدأت تربية الطيور في البداية كهواية ثم تحولت فيما بعد إلى مهنة، بعد أن أدركت رواجها وربحها". "سوق النسا" حتى بعض النساء استهوتهن الفكرة، وأقمن مزارع صغيرة أو "مسارح"، على أسطح المنازل لتربية عصفور"البروش"، المعروف بكثرة توالده، تقول (خ.ش)، 38 سنة، ربة بيت "وجدت الفكرة مربحة، وبدأت أشتري الكثير من الطيور لتربيتها، في حين يقوم أبنائي ببيعها لأجلي في السوق". الربح المادي لهذه الهواية، ولّد بالحاجة هواية أخرى، وهي صيد هذه الطيور، فصارت هذه العملية تمنح لصاحبها المتعة والربح، فاصطياد الطائر من البرية و"روايته"، أي تعليمه التغريد الصحيح، ومن ثمة "تقفيزه"، أي تعويده على الحياة داخل قفص، مسلسل ممتع، وبيعه يضيف فائدة مادية أخرى لا يمكن إنكارها. غير أن الإشكال الذي بات يعانيه الهواة، هو تراجع "المراقد"، أي أماكن الصيد، إما بفعل الزحف العمراني أو التلوث الصناعي، الذي دفع بالطيور إلى مغادرة مجموعة من المناطق، كانت إلى غاية الأمس القريب، أماكن صيد مثالية، لعل أشهرها مناطق الواد المالح، والألفة، وبوسكورة، وتيط مليل، وسيدي معروف.. يقول (ع.م )، 58 سنة، صياد طيور، والحسرة بادية في نبرته "مجموعة من المراقد اختفت من الوجود، ولم يعد الصيد متاحا إلا خارج المدينة". يسترخي الجيلالي، ويطالع المارة من الزوار يستوقف أحد الصبية، الذين يعرفهم، ثم يسأله، أن يجلب له بعض "الزوان" و"الميلونج"، أي أكل للطيور، من "العشابة"، المحاذين للسوق، ينطلق الصبي مسرعا، بينما يطالع الجيلالي، ما تبقى لديه من أكل للعصافير، فموعد السوق هو فرصته الوحيدة خلال الأسبوع، لاقتناء أكل لها بسبب انشغاله بعمله الأصلي. ينتصف النهار، ويكتظ السوق بالزوار، من مختلف الأعمار والشرائح الاجتماعية، الغني والفقير. المتعلم والأمي، يجمعهم شغف تربية الطيور أو "ولعة الطيور"، كما هو متعارف بينهم. ينهض"الجيلالي" عن كرسيه، عندما يلحظ جلبة غريبة أمام مدخل السوق، أنه أحد الزوار من خارج المدينة، جلب معه مجموعة من الطيور، يخترق "الجيلالي" الزحام، ليصطدم بتحية من البائع، عندما فاجأه بالقول "واش ما زالت الولعة". تنفرج أسارير"الجيلالي"، انه صديق قديم من فاس، مضى وقت طويل على آخر لقاء بينهما، يتصافحان بحرارة، ويتبادلان الأخبار، بينما يفحصان الطيور الجديدة. بعد لحظات ينضم إليهما مجموعة من الأصدقاء، ويتحول الحديث كله إلى الطيور، وأخبارها، وما الجديد في طرق تربيتها. غريب أمر هذه "الولعة"، كيف تجمع بين الناس مهما اختلفت خلفياتهم، يقول“الجيلالي“ بفخر“هذه الهواية كانت السبب في مصاهرات، وفي فض خلافات بين الناس...“، قول كهذا، فيه من الانتصار للهواية والدفاع عنها الشئ الكثير. "ولعة" الطيور صبية صغار حضروا مع آبائهم يرقبون بفضول كل ما يجري، وينصتون السمع باهتمام لأحاديث الكبار حول الهواية وخباياها، يقول (م.ز)، 19 سنة، مربي طيور"أحببت تربية الطيور من والدي، كنت آتي إلى السوق معه صغيرا، والآن أنا آتي هنا وحدي“. يحرص كل هواة تربية الطيور على أن يزرعوا في أبنائهم حب هذه الهواية، حتى صارت عائلات بكاملها مولعة بتربية الطيور، الشيء الذي لا يمكنه إلا أن يصب في مصلحة هذه الهواية، خصوصا وأنها بدأت تعرف نوعا من التنظيم، حيث تأسست مجموعة من الجمعيات المدنية، التي تهتم بهذه الهواية وتسعى إلى تأطيرها، مثل الجمعية المغربية لتربية الطيور بالبيضاء، وجمعية البر نوصي...، غير أن هذا التنظيم الجمعوي البسيط لا يمكنه أن ينهض بهذه الهواية، التي تستقطب المزيد من الهواة يوميا، إذا لم يكن هناك بالموازاة، عمل إعلامي حقيقي يعرف بها للمجتمع، خصوصا وأن لها فوائد معنوية ومادية كثيرة، يقول"الجيلالي" هذه الهواية تريحني نفسيا وترفع من معنوياتي، كما أنها تعلم الالتزام لكونها مرتبطة بالعناية بالطيور، التي تصبح في مسؤولية مربيها". يقتني الجيلالي بعضا من الطيور التي جلبها صديقه الفاسي، لكنه لم يبع مما جلبه شيئا، وفي هذا يقول مازحا "أحب طيوري ولا يمكن أن أبيعها بأقل من قيمتها"، منطق يبدو مقبولا، فالسوق بدأ يلفظ أنفاسه الأخيرة مع حلول الثانية بعد الظهر، ولم تعد تسمع إلا تحايا الوداع هنا وهناك، يجمع الجيلالي أقفاصه بعناية، بعد أن ودع أصدقاءه وضرب لهم موعدا، في مقهى هواة تربية الطيور بحي قرية الجماعة، الذي اعتادوا اللقاء فيه، كل مساء يوم أحد من الأسبوع.. يتوجه نحو موقف الدراجات، ويمتطي دراجته النارية عائدا إلى منزله، وعلامات الحماسة، التي رافقته صباحا، لا زالت تطبع وجهه، ربما السبب موعده مع الطيور، الذي لم ينتهي هذا اليوم، ولعله لن ينتهي..