يعد مولاي الطاهر الأصبهاني من بين الأعمدة الأساسية لمجموعة جيل جيلالة، بل من أعمدة المجموعات الغنائية ككل، صوته أطرب الكثيرين، منهم مسؤولون في الدولة، بل أكثر من هذا كان قد أثنى عليه العندليب الأسمر في أواخر السبعينات، عندما كان في زيارة للمغرب ودعاه أحد المسؤولين إلى حفل ستحييه فرقة جيل جيلالة، أدت خلالها أغنية «ليغارة»، ولأن الأغنية استهوته كثيرا صعد العنديب الأسمر إلى الخشبة، وأخذ البندير في يده وبدأ يغني مع المجموعة، وبعد انتهائها سيمسك العندليب بيد مولاي (كما يناديه المقربون منه) ويعلن في الحضور بأن صوته من أجمل ما سمع في حياته. شكل صوت مولاي الطاهر الأصبهاني رنة خاصة في أذان الأجيال، حتى أن الشباب الذي يقلد المجموعة غالبا ما يقلدون صوته، الذي أسكن في أذهان المتلقين- بمعية أصوات الدرهم والطاهري وعبد الكريم وسكينة والسعدي- فن الملحون وجعله فنا مشاعا لدى الشباب الذي كان يستثقل الطريقة التي يؤدى بها من طرف شيوخه. في هذه السلسلة سنسافر مع الأصبهاني وسط قلعة جيل جيلالة لنطلع على أسرارها ومسارها. كانت مسيرة جيل جيلالة حافلة بالمشاركات الدولية، بعضها يظل موشوما في ذاكرة هذه الفرقة التي أتحفت ولاتزال المغاربة لثلاثة عقود، ففي سنة 1994 ستكون لجيل جيلالة رحلة استثنائية إلى لبنان، هذه المرة ليس للمشاركة في حفلات ، كما جرت العادة بذلك، ولكن من أجل إنجاز عمل فني كبير مع الفنان عبد الحليم كركلا وفرقة الرحباني الموسيقية. يتذكر مولاي الطاهر الأصبهاني أن أول لقاء مع الفنان عبد الحليم كركلا كان في أواخر الثمانينات بتونس ، حيث لم تكن الفرقة تعرف الرجل، يقول مولاي الطاهر: كنا في قرطاج نشارك في فعاليات المهرجان هناك، كانت مشاركتنا ، كما هو معتاد، في هذه المناسبة تلقى إقبالا كبيرا، بعد انتهائنا سيتقدم نحونا رجل، أذكر أنه كان مصابا بكسر في يده، كانت لهجته مشرقية، أبدى إعجابه بأغانينا قبل أن يقدم لنا نفسه بالقول: «أنا اسمي عبد الحليم كركلا من لبنان وأود أن تشاركوني في عمل أنجزه ». رحبنا بفكرته وأبلغناه أننا على استعداد للتعاون. أخذ أرقام هواتفنا المنزلية، ثم افترقنا.. في سنة 1994 سيتصل بنا شخص من لبنان ويخبرنا أنه يريد أن نلتحق ببيروت لتسجيل بعض الاغاني، رحلنا الى هناك، وبينما نحن في الاستوديو ، سيدخل علينا عبد الحليم كركلا، كنا إذاك قد عرفنا انه أخصائي ب «الكوريغرافي» وأنه من الفنانين الكبار ببلاد الأرز، وأنه يتلقى دعما ماليا كبيرا من رفيق الحريري لإنجاز أعماله المتميزة وتعمل معه فرقة موسيقية تتشكل من عشرات العازفين. بعد واجب الترحاب أسر لنا أنه يود توظيف بعض اغانينا في أحد اعماله الكبرى التي سيعرضها في عواصم العالم ومدنها الأثرية، وجدنا انه أعد كل شيء وتصوره واضح للعمل، بل أكثر من ذلك أنه اختار اغاني جيل جيلالة التي يريد توظيفها... كان اختياره قد وقع على اغاني «الكلام المرصع» و«الدورة» و«الحمد والشكر» . رحبنا بمقترحه ودخلنا للاستوديو قصد الشروع في التسجيل، وكنا نفاجأ بحضور منصور الرحباني الذي علمنا فيما بعد انه هو من سيقوم بالتوزيع الموسيقي للعمل. سجلنا اغنيتي «الكلام المرصع والدورة» أما «الحمد والشكر» فلم نسجلها إلا بعد ان عدلنا كلماتها.. مكثنا هناك 15 يوما توطدت خلالها علاقاتنا بكركلا، الذي أصبح يجالسنا يوميا ويستمع الى اغانينا ، وكلما استمع لأغنية لم يكن قد أنصت إليها من قبل، الا وطلب منا ان نسجلها للعمل، فكنت أرد عليه مازحا «خاصك تألف» ، و كان هويستغرب لهذا الجواب فاستفسرني في احدى المرات «كيف تقول لي خاصني نألف والاغاني مؤلفة أصلا؟» ، فأجبته «تألّف» أي أن تسخى للفرقة ب«ألف دولار ، ألفين... وهكذا ، لأن حد التعاون هو ثلاث أغان ، وقد منحناها لك» ! فدخلنا جميعا في هيستيريا من الضحك. كان الرجل بسيطا وودودا خلق معنا علاقة صداقة متينة حتى أننا لم نأخذ شريط العمل الى أن سمعنا الناس هنا في المغرب يتحدثون عن عرض قُدم بمدينة وليلي وكانت فيه جيل جيلالة رائعة، واشترينا الشريط كسائر خلق الله. إن كنه هذا العمل، يتابع مولاي الطاهر، هو أداؤنا لأغانينا بالشكل الذي نقدمه بها ويقوم الجوق الموسيقى بالعزف وتتوزع الجمل الموسيقية والكلمات بشكل سانفوني جميل واحتفظ أيضا بأصواتنا التي أعجبته كثيرا ووظفت في هذه المقطوعات.. قبل عودتنا الى المغرب بأيام قليلة، أُبلغنا بأننا مدعوون الى بيت إحدى الشخصيات البارزة في لبنان ، ويتعلق الأمر برفيق الحريري. يقول مولاي الطاهر، لم أكن أتوقع اننا سنستقبل في بيت هذا الرجل ذي المكانة المتميزة عربيا ودوليا، بتلك الحفاوة، لم يكن رفيق الحريري موجودا، كان أبناؤه وزوجته وشخصيات سياسية منهم وزراء ومسؤولون في الاحزاب اللبنانية بالاضافة الى فنانين، تصور أنه لدى دخولنا ، وقف الجميع من مكانه، «صُعقت» فعلا من هذه اللباقة والمستوى الرفيع من تقدير الآخر... «مْعلوم»، يضيف مولاي الطاهر، فهكذا هو تصرف الطبقة المتنورة حقا لاادعاء ، وخبرت ساعتها ما معنى مصطلح «التحضر».. ومع ان الدعوة كانت ترحابية فقط للفرقة قررنا ان نغني لهؤلاء الناس، وقد أعجبتهم أغنية «الشمعة» كثيرا ، خصوصا زوجة رفيق الحريري ، كما أدينا أغاني أخرى... المهم أنني وقفت على حقيقة هذه العائلة ، فهي بالفعل عائلة راقية وتشكل البورجوازية الوطنية الحقة، تعشق الفنون والثقافات ، وتدعمها ماديا ومعنويا ، وليس هاجسها هو الاسمنت والترامي على الصفقات، وفهمت لماذا تعد بيروت عاصمة الفنون والثقافة لأن فيها مثل تلك العائلات التي تدفع بكل ماهو جميل إلى الأمام، وبكل ما يجعل بلدها نقطة جذب للعالم. قبل رحلة لبنان كان لجيل جيلالة موعد مع الجمهور الامريكي بثلاث مدن وهي نيويورك، بوسطن وواشنطن، حيث اتخذ أحد المنظمين يسمى حسن، مبادرة إقامة عروض لجيل جيلالة في هذه المدن الامريكية، اعتقد أعضاء الفرقة انهم سيغنون للجالية العربية هناك، لكنهم في الحفلات الثلاث سيجدون أمامهم حتى الجمهور الامريكي ، ولكثرة إعجاب المستضيفين بأغاني جيل جيلالة، سيمنحونهم حتى مداخيل تذاكر المسرح بواشنطن، رغم أن جيل جيلالة اخذت مستحقاتها عن عروضها الثلاثة في المغرب! ما أعجب مولاي الطاهر خلال هذه الرحلة التي سيستقبلهم فيها السفير المغربي بلخياط والتقوا عنده بالفنان محمد جبران، هو المنظم حسن الذي يعشق المغرب ويريد ابراز مؤهلاته ، فهذا الرجل الذي كان وداديا حتى النخاع ، أنشأ فريقا لكرة القدم بواشنطن ، ولفرط حبه للوداد أطلق عليه اسم «واك واشنطن».