من قال إن البيت لم يُخلق للرجال؟ من سمح لهم بهجر البيوت و الاستقرار في المقاهي والشوارع؟ من أوهمهم بأن مكوثهم بضع ساعات في البيت يسيء لرجولتهم و يخدش سلطتهم, من علّمهم أن البيت خُلق للنساء والأطفال وأنه لا يليق فضاء لهم يخصصون فيه جزءا من وقتهم «الثمين» للاهتمام بأطفالهم وزوجاتهم. لست أتحامل على الرجال و لن أقبل أن يتهمني بعضهم بمعاداة الرجولة لأنني ببساطة أحترم كل رجل حر, لكنني أحاول أن أفهم سبب «هروب» الرجال بشكل دائم حتى أيام العطل والأعياد و بعد ساعات العمل الطويلة.. قد يخرج أحدهم مبكرا ولا يعود إلا متأخرا دون سبب اضطراري أو مبرر, يترك البيت وآثار النوم بادية على وجهه, ولا يعود إلاّ والرغبة في النوم تداعب جفونه. الكثير من الرجال يعتبرون البيت مأوى للهم والغم, لا تلبسهم الفرحة إلا بمغادرتهم له ولقائهم برفاقهم أو استلقائهم على كراسي المقاهي حيث يقضون نصف عمرهم, صباحا حيث يتناولون الفطور ويتصفحون الجرائد وزوالا حيث يحتسون كؤوس الشاي والقهوة, ومساء حيث يشاهدون قناة الجزيرة أو مباريات الكرة أو أشياء أخرى.. وهم يتحسرون بندم على أيام الحرية و العزوبية. هناك الكثير من الرجال يتظاهرون بالحداثة والتحرر لكنهم يتعاملون داخل بيوتهم بمنتهى التشدد والبدائية, لا حوار يجمعهم بزوجاتهم وأبنائهم, لا نقاش ولا أسئلة.. لا عبارات حب ولا ود ولا حتى تشجيع أو شفقة, يبدو الزوج كزائر ثقيل وليس كرَبّ أسرة وأب حنون مسؤول وناضج. لقد ارتفعت نسبة الطلاق بشكل مخيف لأن شرخا كبيرا واضحا يبدو جليا في الأسر المغربية وبين الأزواج أساسا, وسأخصص مقالتي الأسبوع القادم لأتحدث عن مسؤولية النساء أيضا حتى لا أتطرق إلى «نصف الحقيقة» وأغفل نصفها الآخر كما نصحني يوما أحد القراء في رسالة قوية قمت بنشرها تحدث فيها بحرقة عن كون النساء سببا مباشرا في «ترك» الأزواج لمنازلهم. يشعر الرجال في بيوتهم كأنهم عصافير سجينة في قفص صدئ, لا تعود الحياة لتنبض في قلوبهم إلا بمغادرتهم له, بعضهم لا يضحك ولا يفرح ولا يبتسم ولا يغني إلا بعيدا عن عيون زوجته وأطفاله, وبمجرد عودته يجر أقدامه بخطاه المتثاقلة البطيئة المترددة ويلبس قناع الصرامة والالتزام والتشدد كأنه يقتفي سلوك أبيه وجدّه. لست أدري لم يصر الرجال على الغياب الدائم في كل أمر يخص بيوتهم, عن كل تلك التفاصيل اليومية التي من المفروض أن تقربهم من زوجاتهم, وتلك المسؤوليات الكبيرة التي تربطهم كعقد شرف بأبنائهم ليساعدوهم على النجاح والتميز ويدفعوهم لتحقيق أحلامهم. ذلك الرجل الذي أحترمه يأتي فيجلب السعادة معه, يدخل بيته بلهفة المشتاق وليس بصدمة المستاء, ترن ضحكته فيعلو صداها ليحلق فوق بيوت الجيران, يجوب أرجاء البيت فيظل عطره متناثرا في كل زواياه, لا يزعجه الجلوس في المطبخ ولا تحضير كوب شاي.. يحْضُر في الأعياد وفي العطل, في الفرح والمأتم, ترى طيفه بكل مكان, بقطع الديكور المختارة بذوق وبالكتب الكثيرة التي يحملها إلى سريره, وبأقراص الموسيقى التي تشي بوجوده بالبيت, وبصوته الذي يصدح بالصلوات والأدعية.. ينطق حبا, وينفعل حبا ويحيا حبا.. لا يفرح أثاث البيت إلا بوجوده, ولا تلتئم الجراح إلا ببسمته ولا يكون للبيت معنى إلا «بسيّده». ذاك الذي لن يعيبه مطلقا أن يُخلق البيت للرجال أيضا.