تتحدث كل طيور العالم المغردة لغة الشذو والموسيقى النابعة من سحر الطبيعة، وتتحدث الشعوب عن خصوصيات تراثها وتقاليدها، وتعاملها مع باقي الكائنات. ويتحدث هواة تربية الطيور المغاربة لغة العشق والانصهار في عالم خاص لا يمكن الحكم عليه بمجرد النظرة الأولى. يعشقون أن ينادى عليهم بلفظة «الماليع»، وهي كلمة السر بينهم لقياس مدى تعلق كل فرد بهوايته، وبطائره، سواء كان حسونا أم كناري مالينوا أو فلاوطا أو غيرها... تتعدد أسماء الطيور وأشكالها وخصوصياتها، وتبقى الهواية أو «الولاعة» قاسما مشتركا بين جميع الهواة، لتصل حد الجنون أحيانا. ويعيش الهواة في ارتباطهم بهاته الحيوانات الفريدة قصصا مثيرة، فبعضهم قد يصل به التعلق بطائر معين حد مبادلته بمعطف جلدي، أو حتى بسيارته، كما يروج في أوساط «الماليع»، لأن العشق أعمى، ولم يعد هناك هدف لدى العاشق سوى الوصول إلى معشوقه مهما كان الثمن باهظا في نظر الآخرين، فإنه بالمقابل لا يساوي شيئا لدى العاشق، وهذا دخول قوي في مقام العشق لا يعلمه إلا المريدون. «الاتحاد الاشتراكي» اقتحمت على «الماليع» عالمهم الخاص، وتقاسمت معهم هذا العشق والجنون، لتهديه إلى قرائها كتغريدات منعشة... اقتحمت مملكة الطيور في منتصف ستينيات القرن الماضي مدفوعا بشحنات من رفيق الطفولة والدراسة في آن واحد حدث أن استضافني يومها في بيته ونحن عائدون من المدرسة ضيافة خفيفة خالية من كل المراسيم والطقوس، كأس شاي وكسرة خبز مدهونة بقليل من الزبد البلدي، امتد بصري إلى أقفاص بداخلها طيور استهوتني ألوانها القزحية، استفسرته عن إسم هذه الطيور الجميلة، أجابني منتشيا ، إنه الموقنين يا أخي، فطلبت منه أن يبيعني واحدا، تغيرت ملامحه، وأقنعني أنه لا يبيع طيوره، وهي ليست موضع مزايدات . أدركت أن حب الطائر يسكن دواخل صديقي، وأحسست بمملكة الطير تناديني لأرتشف من عشقها. وعدني صديقي بمرافقته في خرجة لصيد الحسون لأتمكن من الحصول على قسط من الغنيمة، علمت من خلال يديه أنه صياد محترف. وفعلا، رافقته وأنا لا أعرف من تقنيات الصيد إلا «التبتبيت» الذي لقنني إياه. كانت وسائل الصيد بدائية «العلك»، «السمار»، «الرزينة».. لم نلو على شيء فعدنا خاليي الوفاض إلا من أثار التعب وفراغ البطن . أحببت الصيد، فكنت أفتش عن قعور بعض الأحذية ، عن رضاعات الأطفال المهملة، كان اهتمامي منصبا على ركام النفايات آملا في الحصول على المواد الأولية. كما عانيت من أثار الحروق والروائح المنبعثة من الخلطة التي كنت اطبخها في علب الطماطم. ولما كان الصيد مخيبا للآمال اتجهت نحو باعة الطيور من شيوخ فطاحل كنت أخشى حتى الدنو منهم لاستفسارهم عن ثمن الحسون، الذي كان موجودا بغزارة في تلك الفترة، عكس وقتنا الحاضر الذي أصبح الحسون فيه عملة نادرة. كنت مدمنا على اقتناء الطيور من عند المرحوم بكرم الله «الشريف»، كان معروفا لدى الهواة والمربين بمزاجه الحاد، كنت اقتني منه الطائر بريالات معدودات، وكنت أستجمع قواي لأسأله هل ذكر أم.... لم أكد أكمل سؤالي حتى يجحظ بعينيه ويقول لي «سير لداركم راه ذكر.» لم أكن أميز حينها بين الذكر والأنثى. تطورت علاقتي ب«الشريف» فصرت أزوره بالبيت لأنه أحد ساكنة حينا، فيطلعني على ذخائره من الحسون. بدأت في تربية أصناف أخرى مختلفة الأشكال والألوان وحتى الأحجام، العصفور، الحداد، الولوال ، طائر السنغال، السمريس.. إلى أن انقطعت عن تربيتها بسبب الدراسة الجامعية، ظل الحنين لهذا العالم يراودني إلى حين حصولي على الإجازة، وعلى فرصة التجنيد في إطار الخدمة المدنية أواخر سنة 1976، حينها عاودت الكرة في اقتناء الطيور، إلى أواخر الثمانينات، حيث ربيت أول زوج من الكناري البلدي، أهداني إياه ابن أخ لي وهو من هواة تربية الطيور، كان «زوج كرغلي اللون» ظل إلى يومها راسخا في مخيلتي، شكل متميز، حجم كبير، كانت هذه أولى محاولاتي في تفريخ الكناري ونجحت التجربة. أسرتني الألوان الجميلة لفراخ الكناري التي جعتني اقتحم مملكة الطيور دون استئذان. كان يزورني بين الفينة والأخرى بعض أصدقائي من مربي الطيور، كانوا كلما اقتربوا من المنزل يسمعون تغاريد الطيور الصداحة، وكانوا يمازحونني بأني أتوفر على «جوقة الخمسة والخمسين» . كنت أتردد باستمرار على عبد الفتاح لعبيبي وهو صديق عزيز من رموز تربية طائر الكناري بمدينة سلا، كان يحترمني كثيرا لدرجة أنه لم يكن يستطيع نصحي باستبدال صنف الكناري البلدي بصنف المالينوا، لكن أخاه كان بائع الطيور هو من كانت له الشجاعة لحثي على ذلك، ألح علي كثيرا إلى أن وقعت في الشباك. أسلمت نفسي لهذا الصنف الذي أحببته قبل أن أراه، حينها سلمت طيوري كلها أزواجا وفراخا لابن أخي، الذي أهداني أول زوج للكناري، فأهديته أضعافا مضاعفة، واقتنيت زوجين من كناري المالينوا من مربين محترفين مشهود لهم بالكفاءة والخبرة، كانت تربية كناري المالينوا رغم صعوبة البداية، انغماسا حقيقيا في سحر مملكة الطيور، وولوج لأعماق العشق والجمال. استفذت من مجالسة بعض شيوخ المدينة الذين أفادوني بالشيء الكثير، حول عوالم السماع، ومازلت أغوص في دواخل هذا الطائر الذي أحببته حتى النخاع، بعد الإحالة على التقاعد النسبي خصصت لهاته الهواية جل أوقاتي، لم أحس يوما بالملل، بل أصبح اهتمامي منصبا على هذا العالم الخاص في مملكة الحسن والطيور التي تهذب النفس وتعلم كيفية التجاوب مع الطيور والإطلاع على أحوالها بمجرد الملاحظة الدقيقة ... لدرجة أن الطائر يمرر لك خطابا ورسائل تستوجب توفرك على شفرات لحل ألغازها وتحليل رموزها.