الدفالي: الصراع والإيديولوجيا تراجعا نسبيا وهذا أخلى المكان للبحث العلمي التاريخي الرصين2/3 في حوار مطول مع المشرف على مجلة «أمل» للثقافة والمجتمع، وأستاذ التاريخ والحضارة بكلية الآداب والعلوم الإنسانية عين الشق بالدار البيضاء محمد معروف الدفالي، والذي سننشره على ثلاثة أجزاء، يتحدث في لنا فيه عن سوق النشر والثقافة في المغرب، ومستوى الطلبة الباحثين، بالإضافة إلى غياب المادة التاريخية في وسائل الإعلام العمومي، والتاريخ الراهن للمغرب، وحركة 20 فبراير أنتم تنفون ما أوردته أسبوعية الأيام في عددا 545 في خبر مقتضب تتحدث فيه عن كون مسودة كتاب «تاريخ المغرب تحيين وتركيب» التي سلمت للقصر كانت أقوى من النسخة الرسمية التي أعلن عنها في 17 نونبر 2012. هذا كلام لا ينسحب عليه إلا بعض أقوال لينين في لحظة ما «والدين يأخذون على الصحافة أقوالها فليلغوا تاريخ مولدهم في القرن 20» لأن مثل هذا الكلام العائم الذي لا سند له يجب الاحتياط منه، الكتاب مثلما كتبه الباحثون مثلما خرج، وهذا الأمر موجود في حوارات كثيرة مع الأستاذ محمد القبلي ومع أساتذة من المعهد، ليس هناك مسودة أقوى من الكتاب، طبعا المسودة تبقى مسود، فعندما نقول إن 40 باحثا شارك في الكتاب، لا يمكن أن يكون هناك خيط ناظم بين 40 شخصا، فهيئة التحرير التي أعادت صياغة هذه الأعمال، هي التي وجدت الخيوط الناظمة بينها وهذا عملها، لكن هل تصرفت في المضمون؟ لا أعتقد، هذا الأمر غير موجود نهائيا.. مقاطعا.. هذا أمر مفهوم أكاديميا، أنا أتحدث عندما تقدم مشروع الكتاب إلى القصر وانتظر سنوات قبل الإعلان عنه، في تلك الفترة يتحدثون عن تدخل رسمي في الكتاب. لا لم يتدخل أحد في الكتاب، بشكل مطلق، هذا أمر معروف لذا الجميع، أما التأخير في الإعلان عن الكتاب فلأنه كان فقط ينتظر دوره، لأن المعهد كما قلت رسمي ولا يمكن أن يصدر كتابا من هذا النوع والحجم دون أن يقدم للملك، فقط كان ينتظر الوقت المناسب الذي يقدم فيه للملك لا أقل ولا أكثر، وأي كلام خارج هذا الإطار هو كلام زائد. هل نتوقع أن تاريخنا، الذي كان مادة للصراع في السبعينيات والثمانيات، فتح اليوم أمام الباحثين للاشتغال عليه بكل حرية، وأن ما يحد من الاشتغال عليه هي عوائق ذاتية، منها الرقابة الذاتية التي تجعل المؤرخ لا يطرق كل المواضيع. ما يمكنني قوله هو أن الشروط اختلفت وتختلف، قبل ثلاث عقود أو أربعة أو حتى قبل عقدين، الشروط التي كانت ليست هي الشروط الموجود اليوم، الآن أصبحت جميع الأطراف، سواء التي تحكم أو الباحثين، على وعي أقوى، أعرف أن هناك وعي عقلاني أكثر حضورا، الصراع تراجع، الأيديولوجيا تراجعت نسبيا، وكل هذا أخلى المكان نسبيا للبحث العلمي التاريخي الرصين، ربما هذه العوامل تشجع البحث في التاريخ وعلى طرق مواضيع لم يكن بالإمكان طرقها فيما مضى، لأنها كانت ضمن الطابوهات وضمن المحرمات، وحتى الأرشيف لم يكن في المتناول، حتى الكتابات الأولية التي يمكن الانطلاق منها كانت منعدمة، الآن هذه الأشياء تجاوزت نسبيا، بل الأكثر من ذلك هناك اهتمام بالتاريخ، وهنا لابد من الإشارة إلى ما هو دولي وما هو محلي، القوى الدولية والمنظمات العالمية تطرق مواضيع أساسية، منها الحق في المعرفة وتعميم الأرشيف.. والمغرب من ضمن الدول التي استجابت لهذه الطروحات، والآن ينظم نفسه في هذا السياق، وهذا التنظيم مرتبط بشكل أو بأخر بالعدالة الانتقالية وبالديمقراطية وبحق الآخرين بالخبر وبالمعرفة وغيرها، كلها عوامل تسهل مأمورية المؤرخين في المستقبل بشكل متميز نسبيا على ما أظن. بخلاف الاهتمام المؤسساتي بالتاريخ لا يخفى عن الملاحظ العادي الغياب الكبير للمادة التاريخية في وسائل الإعلام الرسمية، وحتى عندما يستحضر التاريخ في ذلك الإعلام يكون بشكل ظرفي ومناسباتي وحتى فلكلوري أحيانا، لمن يمكن إرجاع أمر الغياب هذا، هل تتحمل وسائل إعلامنا المسؤولية وحدها، أم أن المؤرخ مسؤول كذلك عن هذه الوضعية. صعب أن أقول إن المسؤولية مشتركة، لأن مثل هذا الكلام العائم لا يعطي جوابا، بالنسبة لي المسؤولية متعلقة بحسابات لدى القنوات، الآن البصري هو المهم، القنوات التلفزيونية لا تولي اهتمام كبيرا للمعرفة التاريخية، وحتى عندما تكون هناك اهتمام بهذه المعرفة فهي لا تداع إلا في وقت متأخر من الليل، المعني بالأمر هو من يجب أن ينتظر، ليس هناك تفكير في تعميم المعرفة التاريخية، لأن أي قناة تريد أن تخدم موضوعا أو قضية معينة فليس بالضرورة أن تتكلم بلغة الأرقام، كم عدد المشاهدين الذين يشاهدوا هذا البرنامج؟ بالنسبة لي يمكن أن تفرض هذا البرنامج في المرة الأولى والثانية والثالثة ريثما يتعود الناس، حتى إذا كانوا فعلا لا يهتمون بهذه البرامج، لكن حتى هذه الأرقام غير موجودة لدينا، هل لديها تعليمات رسمية تدفعها إلى عدم الاهتمام بهذه الأمور أو أن القائمين عليها لا يهمهم هذا النوع من المعرفة أو أن المحيطين بهم ومستشاريهم يهتمون بجوانب أخرى على حساب هذا الجانب، فليس التاريخ وحده الغائب في قنواتنا التلفزيونية، كلما هو ثقافي وكل ما هو معرفي علمي غائب عن هذه القنوات، لماذا؟ هل هي استراتيجية؟ هل ثقافة القائمين على هذه القنوات هي بهذا الشكل؟ لا أدري، ثم إن الأمر لا يتعلق فقط بالقنوات التلفزيونية بل حتى بالسينما، فحتى المخرجين لا يهتمون بالتاريخ، مع أنه بفضل المسلسلات التلفزيونية المصرية عامة الناس يعرفون الكثير عن تاريخ مصر، والآن يعرفون الكثير عن تاريخ سوريا وعن تاريخ تركيا، ولا يعرفون شيء عن تاريخ بلدهم، لأن مسلسلات البلدان الأخرى تهتم بالتاريخ، ولو أنه اهتمام تجاري بالدرجة الأولى، لكن هناك نسبة من التاريخ، ورغم أن المؤرخين لدينا يشاهدون درجة الإقبال على تلك المسلسلات فلا تأخذهم غيرة ولا يفكرون في إنتاج مسلسلات شبيهة على الأقل، ريثما يستطيعون تجاوزها، ليعرفوا الناس بتاريخهم، بالنسبة للمخرج أو المنتج كذلك، هم أناس لا يبحثون إلا عن أعمال سريعة يمكن أن تذر عليهم ربحا سريعا وأشياء أخرى، هذه الأعمال لابد لها من حس وطني، ليس المال فقط هو المتحكم، إذا لم يكن هناك حس وطني أعتقد أن البحث عن المال وحده لن ينتج برامج وأفلام سينمائية تاريخية في المستوى، وحتى اللقاءات التي مرت بين مجموعة من المؤرخين وبعض المخرجين أغلبها ينتهي بالفشل بعد لقاء أو لقاءين، الباحث شخص متأنٍ، يشتغل على المدى الطويل، والمخرج يبحث عن أعمال يجب أن تكون مهيأة بسرعة، وحتى إذا وقع الاتفاق الأولي يتدخل المخرج أحيانا بشكل لا عقلاني يزعج الباحث، وبالتالي جميع الاتفاقيات فشلت لحد الآن، ما زلنا لا نتوفر على المخرج الذي له حسن النية في التعامل مع التاريخ، أما الباحثين على ما أعتقد ففي المستوى، وبإمكانهم أن يسلموا مادة خام للسينمائيين تصلح أفلام بعد تحويلها إلى سيناريوهات، كما أن هناك باحثين كبار يمكن أن يكونوا ضيوفا على قنوات التلفزيون أو أن يمدوها بمادة تاريخية مهمة، على ضوئها يمكن أن تضع برامج كما يرى مسؤولوها، بالنسبة لي الغائب الأساسي هو القنوات وليس الباحث في حقل التاريخ. وجود باحثين تستعين بهم قنوات أجنبية، تتغذى كثيرا على تاريخ المغرب، بمخرجين وباحثين مغاربة، ولكن أيضا بحساباتها الخاصة، كما شاهدنا أخيرا مع قناة الجزيرة الوثائقية في برنامج عن بن بركة أو في غيره، كيف تنظرون إلى تهافت مثل هذه القنوات على تاريخ المغرب. طبعا المادة الخام موجودة وما دامت تلك القنوات تتوفر على مسؤولين يفهمون أهمية التاريخ ويرون أن بلدا ما يهمل تاريخه بهذا الشكل أو ذلك، لابد أن يوظفوا هذه المادة التاريخية حسب رؤيتهم وإستراتيجيتهم، وعندما يتصلون بمؤرخين وبمخرجين مغاربة لا يمكنهم إلا أن يقبلوا بتلك العروض، لأن القنوات الوطنية التي من الواجب أن تتصل بهم لا تفعل ذلك، عادي جدا أن يحصل مثل هذا الأمر في ظل هذه الوضعية التي يوجد عليها إعلامنا. بالانتقال إلى محور تاريخ الزمن الراهن، هذا التخصص الذي ربما يدخله الباحث في التاريخ مرغما بدافع من الحراك العربي، والذي فرض عليه أن يدلي بدلوه فيما يحدث، خصوصا أمام الحاجة الملحة للمواطن العربي والمغاربي تحديدا لمعرفة ما وقع بأمسه القريب، أنتم كيف تنظرون إلى تاريخ زمننا الراهن. الاهتمام بتاريخ الزمن الراهن جاء في إطار ضرورة بهذا الشكل أو ذلك، والأمر ليس متعلقا بالربيع العربي، بل قبل هذا التاريخ، الأمر يتعلق أساسا بمفهوم العدالة الانتقالية، في لحظة من اللحظات طرحت مسألة العدالة الانتقالية في المغرب، التي تحتاج إلى مصالحة، وهذه الأخيرة تحتاج إلى مكاشفة وإظهار المسكوت عنه فيما مضى، أغلب أصناف المعرفة اهتمت بالموضوع وكتبه عنه إلا أن المؤرخ كان هو المتأخر الأول عن هذا الاهتمام، فتعالت الأصوات أين المؤرخ على اعتبار أن دوره قد حان، ويجب أن يشتغل في هذا الموضوع، قبل هذه المرحلة لا نقول إن المؤرخ لم يكن يكتب في هذا الموضوع، هناك من كان يكتب في الراهن لكن بدون تسمية ودون اهتمام مباشر، وحتى في تاريخنا مجموعة من المؤرخين الذين نعتبر كتاباتهم مصادر لنا الآن كانوا يكتبون حول راهنهم، بالنسبة للمؤرخ العصري أو الجديد تخوفه من الكتابة في الراهن ليست تهيبا، المؤرخ لا يكتب إلا بمستندات، لا نكتب هكذا جزافا، ولما تغيب المستندات لا يمكنه أن يكتب، هذا هو العامل الأول والأساسي، لكن كما قلت لك لما أصبح الظرف يفرض تدخل المؤرخ لم يرفض التدخل، دخل المؤرخ المغامرة بشكل من الأشكال، وبدأ يهتم بهذا التاريخ، ولأن المستندات بدأ يفرج عنها نسبيا ولأنه بدأ التفكير في استغلال مصادر أخرى ليس بالضرورة أن تكون مستندات مكتوبة، كما بدأ التفكير كذلك في الرواية الشفوية وشهادة الأحياء وشهادة الأماكن، وبدأ الحديث كذلك عن مناهج أخرى للاستعانة بها في كتابة الراهن، كما بدأ التساؤل هل نكتب تاريخا للراهن؟ أم فقط نهيئ لكتابة تاريخ للراهن؟ هي تساؤلات مشروعة جدا، يمكن أن يعتبر المهتمون بالكتابة في الراهن حاليا أنهم يكتبون في تاريخ الراهن، ويمكن أن يعتبرهم آخرون مجرد باحثين يهيؤون لكتابة تاريخ للراهن، وفي جميع الحالات الأمر مفيد سواء اعتبرنا أن ما يكتب الآن هو فعلا في تاريخ الراهن أو اعتبرنا أنه مجرد تهيئ للكتابة فيه، هي أيضا خطوة مهمة ستيسِّر على الباحثين الراغبين في التخصص في هذا الباب عملهم، على الأقل سيجدون نقط الانطلاق، الآن القدامى الذين يهتمون بالكتابة في الراهن جاءوا من تخصصات أخرى، وينتمون لأجيال أخرى بحمولاتها القديمة، ربما لن يكتب التاريخ الراهن إلا الجيل الجديد، من جهة لأنه سيتمرس في التكوين على هذا النوع من التاريخ ومن جهة أخرى لأنه متخلص من الحمولات الأيديولوجية التي يحملها الجيل القديم، وبالتالي يمكن أن يكون أكثر جرأة وأكثر انفتاحا على هذا النوع من التاريخ، لأن اللذين يهتمون بالراهن في أنفسهم شيء من حتى.. بتأكيدكم أن سؤال الراهن كان مطروح عند المؤرخين القدامى كابن خلدون قد يعترض عليكم معترض بالقول إن أولائك القدامى كانوا محكومين بمنطق الإخباري وليس بمنطق المؤرخ المعاصر المحكوم بالهاجس المنهجي، بماذا تردون على مثل هذه الاعتراضات. لما نحيل على الذين كتبوا في الراهن من القدامى فنحن نحيل على الكتابات الإسلامية دائما، وهي كتابات منذ بدايتها كتبت حول راهنها، وحتى لما نقول إن المنهج المتبع فيا هو منهج الإسناد، بمعنى أن الرواية الشفوية حاضرة بقوة، إذن هؤلاء الناس وظفوا الرواية الشفوية، بمعنى أنهم يكتبون تاريخا مازال الشاهد عليه على قيد الحياة، أو على الأقل الجيل الموالي لهم مباشرة ممن سمع الرواية منهم، إذن بهذا الشكل أو ذلك هو تاريخ الراهن، لما كتب مؤرخ البلاط حول ما يجري في البلاط وفيما بعد أصبح مصدرا من مصادرنا، ماذا كان يكتب؟ ألم يكتب تاريخا راهنا؟ أما مسألة هل هو تاريخ إخباري أم لا؟ فتاريخنا كله أو جله إخباري، وحتى في دراستنا للتاريخ لا نميز إلا مؤرخين قلة مثل بن خلدون الذي نعتبره يستعمل العبرة والعقل، أما أغلب مؤرخينا فنعتبرهم إخباريين، وحتى التاريخ الإخباري كان المجتمع في حاجة له، السؤال في عمقه آت من كون المؤرخين كانوا مبتعدين عن الراهن ولا يفكرون فيه، انطلاقا من مجموعة من الأمور، من بينها متى يمكن أن يفتح هذا النوع من الوثائق، فالمدرسة التاريخية المغربية كانت دائما ترى أنه إذا لم يمر على الحدث تقريبا 50 سنة لا مجال للحديث عنه، وهي المدة التي لم تأتي اعتباطا، بل أتت من بعض القواعد التي تنظم الاطلاع على الوثائق، إذ لما يقال بأن هذا النوع من الوثائق لا يكون في يد الباحث إلا بعد مرور 30 سنة، وهذا النوع لا يتاح إلا بعد مرور 50 سنة والنوع الثالث غير مسموح بالاطلاع عليه إلا بعد مرور 100 سنة وبعضها الأخر لا يسمح بالاطلاع عليه أبدا، المؤرخ يدخل في اعتباره كل هذه الأمور ويختار مدة 50 سنة باعتبارها المدة الوسطى، ثم لا ننسى أن المدرسة المغربية العصرية مدرسة وضعية تعتمد الوثيقة، ونعرف أن المؤرخين المغاربة، وخصوصا منهم مؤرخو القرن 19 ومنهم الأستاذ جرمان عياش والأستاذ إبراهيم بوطالب وغيرهم، أولوا أهمية كبرى للوثيقة، وأن الجيل الجدد من المؤرخين تخرج على أيدي هؤلاء الأستاذة وبالتالي فقد حافظ على هذا التوجه إلى حدود الثمانينيات، فإلى حدود هذه المرحلة كان الحديث عن الحماية مرفوضا، أيام كان البعض يعتبر أن الحديث في الحماية ليس هم المؤرخ، إنما هو هم الصحافي والسوسيولوجي وغيرهم من التخصصات، فبالأحرى الآن يتم الحديث عن مرحلة ما بعد الاستقلال، ربما الطفرة التي وقعت خلقت نوعا من الإشكال، لقد اشتغلت المدرسة المغربية على القرن 19 بشكل كبير وأنتجت فيه إنتاجا مهما، فيما بعد فتح بعض هؤلاء على الحماية، لكن وقبل أن ندرس الحماية بشكل دقيق انتقلنا مباشرة إلى فترة الاستقلال مع الاهتمام بالراهن، هناك من يرى أن لا مجال للكتابة في الراهن دون تصفية مرحلة الحماية دراسة وبحثا، الجواب على هذا السؤال أتى من بعض الأساتذة الذين يرون أن فترة الراهن لا تبدأ من 1956، بل تبدأ من 1912 إلى 1999، بما يعني أنه وقع نوع من التدارك، أي أن هؤلاء الباحثون يقولون من حقنا أن نشتغل في مرحلة ما بعد 1956 لكن من حقنا كذلك أن نحافظ على خط العودة إلى سنة 1912 حتى نحقق التوازن الذي يطالب به البعض. في مسألة الأرشيف هناك كتابات كثيرة، من بينها كتابات تونسية تعتمد عل كتابات فرنسية، تتحدث عن كون الفتح الكبير الذي ينتظر المؤرخ من رفع الدولة ليدها على الأرشيف لن يكون فتحا كبيرا، الدولة لن تفتح أرشيفاتها إلا بمنطق انتقائي صرف ومحدد بقوانين، فلا يتمكن الباحث من الاطلاع على المادة الأرشيفية في كليتها ليأخذ منها ما يريد، كيف تنظرون إلى المسألة. ولكن على كل حال هناك سيفرج على بعض الوثائق، عكس أن لا تتوفر لديك أي وثيقة، هنا الفرق بين أن لا تتوفر على أي وثيقة أو أن تكون لديك وثائق منتقاة، فإذا كان هناك باحثان واحد يشتغل من فراغ والأخر ينطلق من وثائق منتقاة، أعتقد أن عمل الأخيرة سيكون أفضل، على الأقل لأن التاريخ لا يكتب دفعة واحدة، الشعوب كلها تتحدث عن تجديد الكتابة التاريخية، كل جيل يكتب التاريخ بطريقته الخاصة، وهذا الصنف من المعرفة الإنسانية هو الرئيسي من بينها الذي تعاد كتابته باستمرار، بالنسبة لي قد تكون هناك وثائق منتقاة اشتغل بها الآن وفيما بعد تظهر وثائق أخرى الجيل الموالي سيعيد الاشتغال والقراءة والنظر في كل الأمور، في تونس التي تتحدث عنها، الراهن لا يطرح بالحدة نفسها كما يطرح في المغرب، لأن في المشرق العربي وفي تونس كذلك ونظرا لاهتمام الباحثين بما هو سياسي وما هو أيديولوجي بشكل كبير، الراهن دائما يكتب حوله بشكل أو بأخر سواء من طرف المؤرخين أو من غيرهم، إذا حاولنا أن نبحث في تاريخ مصر سنجد أنه مع ثورة الضباط الأحرار كتب الكثير عن المرحلة الملكية (عن الملك فاروق وعن الأحزاب السياسية وغيرها) بأهداف أيديولوجية، في إطار البحث عن الهناة وعن الفساد وغيره، كذلك يوم انتهت فترة حكم جمال عبد الناصر في عهد أنور السادات وجدنا الكثير من الكتابات عن فترة حكم عبد الناصر، ويوم انتهت فترة حكم السادات وفي عهد حسني مبارك وجدنا الكثير من الكتابات عن السادات، هذا النوع من التغيير في «النظام» يفسح المجال ويفتح الأرشيف نوعا ما أمام الباحثين ليكتبوا عن بعض المراحل التاريخية، وتونس في مرحلة زين العابدين بن علي اطلع المؤرخون فيها على أرشيف يهم مرحلة الحبيب بورقيبة، فوجدنا في لقاءاتنا وندوات أو حتى في كتاباتهم الحديث عن بورقيبة موجودا إلى حد ما، المشكل في المغرب هو أن التاريخ البعيد نسبيا، ونعني به التاريخ الوسيط والحديث، كان دائما قويا، فرض نفسه، لأن المؤرخ يجد مقدرة أكثر على المناقشة وعلى الكلام وعلى النقد، بينما بسبب ما وقع في السبعينيات والثمانينيات ظل المؤرخ يتهيب من الكتابة في الأزمنة القريبة خوفا من أن يفهم خطأ، ونعرف أن بعض المؤرخين كتبوا عن مواضيع معينة فكانت النتيجة السجن. فيما يخص مرحلة المقاومة استردت المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير أزيد من مليوني وثيقة مغربية من الأرشيف المغربي في فرنسا لكنها اعتمدت مبدأ الانتقائية في العملية، سؤالنا بأي منطق تنصب المندوبية نفسها طرفا عالما يرشح هذه الوثيقة ويقصي الأخرى، أليس في ذلك حرمان لكم كمؤرخين محترفين من وثائق ترون أنها مهمة وترى المندوبية عكس ما ترون؟ لابد أن يعود الحديث إلى ما قبل هذا، ففيما يخص المندوبية السامية الناس منقسمون، هناك من يرى أن مهام المندوبية تهم المقاومين وملفاتهم، أي الجانب الاجتماعي لهذه الفئة التي ضحت من أجل الوطن ولا دخل للمندوبية بالأمور العلمية المتعلقة بهذه الفترة، وهذا الكلام لا يقال من باب المزايدة عليها، بل لأنها لا تتوفر على أطقم علمية متخصصة، وليس لها جهاز يمكن أن يشتغل على هذا السياق، لأن من يشتغل معها مجرد موظفين ولجوها بمباريات وظيفية للعمل على ملفات إدارية، وبالتالي ليست لهم الكفاءة العلمية حتى يقوموا بهذا النوع من العمل، وهناك من يرى أن الفراغ في الجامعة المغربية وعدم اهتمامها بهذه المرحلة من تاريخ المغرب هو الذي هيأ الفرصة للمندوبية، ففي الوقت الذي كانت الجامعة المغربية ترفض أي حديث في تاريخ المقاومة لا تعتبره كلام مؤرخين ولما وجدت المندوبية هذا الفراغ بدأت تشتغل، ولما وجدت أن ما يتعلق بالملفات بدأ ينتهي، بالتالي وجدت أن نهايتها بدأت تقترب، بحثت لنفسها عن اهتمامات تجعلها تستمر على قيد الوجود، لابد أن نتذكر أنها بدأت بملفات تتحدث عن المقاومين، عن من توفي منهم وتعطي نبذة عن حياتهم، وتحولت إلى كتابة مقالات عن المقاومين وعن تاريخ المقامة، ثم أصبحت تعقد ندوات بشراكة مع عدد من الكليات والجامعات، ثم أصبحت تصدر مجلة تهتم بالمقاومة وتنشر كل الندوات التي تعقدها المندوبية، إذن بدأت تجد لنفسها مكانا، وربما ظهر لها أن إمكانية الاستمرار في هذا العمل تساعد على استمرارها هي أيضا في الوجود كمندوبية. إذا عندنا إلى مسألة الوثائق والانتقائية فطبيعة المندوبية كمؤسسة رسمية لا يمكن إلا أن تشتغل بانتقائية، لأنه لا يهمها كتابة تاريخ بمعناه العلمي الموضوعي، رسميتها تدفعها إلى كتابة التاريخ بمعناه المدحي، أي تاريخ الأمجاد، كلما يظهر لها سلبيا أو أنه ينتقص من قيمة المقاومين تتحاشاه، هذا اختيارها، وهناك من يراه سلبيا بالكلية، وهناك من يراه على الأقل يوفر بعض الوثائق، ثم على الباحث فيما بعد البحث عن الوثائق الأخرى غير المنتقاة، التي تغطي النقص الموجود، والأكثر من هذا وذلك نحن نسمع بمليون وبمليونيْ وثيقة لكن أين هذه الوثائق؟ هل ستكون رهن إشارة الباحثين أم ستبقى حكرا على المندوبية وموظفيها؟ هذه هي الأسئلة التي وجب أن تطرح حول هذه الوثائق، لا يمكن تقييم هذه الوثائق إلا إذا شاهدناها، أما الآن صعبٌ جدا التقييم، أعتقد أنه حتى الموظفين الذين كلفوا بجمع هذه الوثائق لا تربطهم علاقة بالتاريخ، هل جمعت هذه الوثائق بتوصيات معينة؟ أم صورت وثائق متعددة ثم بدأ فرزها؟ هنا الأشياء غير معروفة نهائيا، وبالتالي لا يمكن الحكم عليها قبل الاطلاع عليها مليا.