التجاذبات الكلامية التي أعقبت مؤتمر حزب يساري عريق في الأيام القليلة الأخيرة، وتبادل الاتهام حول وجود جهات خارجية ساهمت في توجيه تصويت المؤتمرين لاختيار زعيم الحزب أمر مثير للخوف فعلا. وما حصل في تجمع انتخابي أخير لحزب وطني عريق آخر شهد بدوره مؤخرا تغيير قيادته الوطنية، وتبادل الضرب بالكراسي بين مسؤوليه وشبان مناوئين للحزب في المنطقة، هو أيضا أمر يثير كثير قلق. الصورتان تفرضان طرح سؤال جوهري، حول من يريد الإساءة لصورة العمل الحزبي في بلادنا، ومن يريد تمريغ هذه الصورة في الوحل. لا نتبنى هنا أي تفسير لما يروج عن الواقعتين، ولا نعطي الحق لرواية على حساب أخرى، ولا نعتبر الكلام «قليان سم» لأحد، وإنما نطرح السؤال على مناضلات ومناضلي الحزبين الوطنيين الكبيرين، وفي نفس الوقت على «الجهات الخارجية»، حقيقية كانت أو متوهمة. إن الأحزاب الجدية وذات المصداقية والتاريخ وصاحبة القرار المستقل، هي التي كانت دائما صمام أمان للمغرب ولمساره الديمقراطي والتنموي، ومن ثم، فإن أي ضرب لقوتها، ولاستقرارها التنظيمي الداخلي سيكون بمثابة لعب بالنار، وضد مصلحة البلاد ومستقبلها، حيث أن الدينامية الديمقراطية المغربية ستكون فاعلة ومنتجة وقوية مادامت الأحزاب الحقيقية في هذه البلاد قوية وذات متانة تنظيمية وإشعاع مجتمعي. وإن ما يجري اليوم في الجوار الإقليمي يؤكد صحة هذا الدرس، حيث أن رحيل القذافي مثلا كشف عن قتله للسياسة في البلاد، ولم تستطع الانتفاضة الشعبية أن تنتج بديلا مؤسساتيا وديمقراطيا مستقرا وواضحا لحد الآن، وذلك بسبب غياب الأحزاب المنظمة وذات الامتداد وسط الناس، كما أن المآلات التي تسير نحوها تجارب دول ما سمي ب «الربيع الديمقراطي» في المنطقة العربية، تفيد ذات المعطى، وبالتالي، فإن التميز المغربي يوجد هنا بالذات، وهذا ما تجب صيانته وتعزيزه لتمتين مسلسل الإصلاح في بلادنا. المسؤولية في هذا الإطار لا تتحملها وحدها «الجهات الخارجية»، التي عادة ما تتحرك من وراء ستار، وإنما هي تقع أيضا على أعضاء التنظيم الحزبي المعني بالأمر، وعلى المشاركات والمشاركين في مؤتمراته ومختلف دينامياته الداخلية والتنظيمية، فهم المعنيون، قبل غيرهم، بتفادي سقوط تنظيمهم في الشعبوية الفجة مثلا، وفي جعل الصورة منغمسة في اللامعنى... في كل أزمان السياسة والصراع في هذا البلد الطيب كان الحديث يدور بين الفينة والأخرى عن «جهات خارجية»، ولكن كان المناضلون الحقيقيون هم الواقفون لحراسة المعبد وحماية وضوح الصورة وبهاء الخطاب، وهؤلاء لاشك موجودون اليوم أيضا، وهم مدعوون للإصرار على... النقاء. لقد فشلت عقلية التحكم والهيمنة قبل شهور فقط في بسط غموضها على الحياة السياسية والحزبية في البلاد، ومن المؤكد أنها تحاول اليوم التحرك بصفات وأشكال جديدة ومغايرة، ولكن من مسؤولية مناضلات ومناضلي الأحزاب الحقيقية تقوية جبهة المواجهة والرفض، وتعزيز دينامية الإصرار على حماية التعددية الحزبية والسياسية في بلادنا، واحترام استقلالية الأحزاب ووحدتها الداخلية. الأحزاب الوطنية الحقيقية هي ملك للمغرب والمغاربة، ولهذا، فالإساءة إليها وتمزيق بنياتها يضرب النموذج الديمقراطي في أهم ما يميزه، وهذا لعب بالنار...