عربات لحم مستشفى الأمراض العقلية العاشرة ليلا.. نقف في طابور الأدوية ، ينتهي اليوم بالمستشفى بعد حصة الأدوية المسائية، ينصرف اغلب النزلاء إلى النوم فيما ينصرف الباقي إلى الحديقة. نحيط بالمائدة الطويلة، ندخن سجائر لا تنتهي ونتبادل مخاوفنا كما يتبادل العشاق القبل، كريستين كانت الأولى في الطابور، حقنتها الممرضة في العضد بحقنة تيرسيان وهو دواء يساعد على استقرار أعراض الشيزوفرينيا التي تعاني منها، كريستي... مجازة في الفيزياء ومرضها انفجر بشكل فجائي في آخر سنة جامعية، بدأت تسمع أصواتا غريبة تدفعها إلى ضرب الآخرين وتكسير الكراسي، وحين اعتدت على أستاذ الدروس التطبيقية قالت انه كان يمسك سكينا ويتقدم نحوها، دافعت عن نفسها ورمت بمواد حارقة تجاهه وقلبت طاولات المختبر، اتصلت الجامعة بالمستشفى وبدأت كريستين إقاماتها القصيرة والمتوسطة والطويلة في المنقذ الطيب وهو اسم مستشفى الأمراض العقلية بمدينة البي، استكملت دراستها في العام الموالي وتحسنت علاقتها بالواقع رويدا رويدا، لم تعد تردد أنها ملكة انجليزية لكنها عادت قبل أسبوع وضربت سيدة في الشارع كانت قد اقتربت منها لخنقها حسب ماتحكيه كريستين محذرة إيانا من الناس في الشارع. السيدة وضعت شكوى عند البوليس وتكفلوا بإدخال ملكة انجليزية إلى مستشفى المجانين، كريستين. لا تتوقف عن الكلام والدوران حول نفسها، حين رايتها أول مرة قلت لها أنت تشبهين ملكة انجليزية -أخيرا هناك من يوافقني الرأي، أنا ملكة انجليزية من قرون مضت، يبدو أنك مجنونة مثلي، هل أنت ملكة أيضا؟- أنا سليلة عائلة مجانين أكبرهم قراصنة البحار. تخبئ كريستين وجهها الجميل بأصابعها الدقيقة وتجري في الرواق، لا تتوقف الى ان تبلغ غرفتها وتندفع إلى السرير وتغلق الباب على مخاوفها التي تنتظرها في الرواق مع تحية الصباح، يتقدم حليم وهو شاب في العشرين من عمره لا احد يعرف مما يعاني وهو نفسه لا يعرف، فقط يظل يتحدث عن جزائر لم يرها يوما وعن رغد العيش فيها، لا يفهم العربية وينصت للقران على مدار اليوم في هاتفه المحمول، دخل المستشفى أول مرة في سن السابعة عشرة حين غادر المدرسة، أمه من أتت به إلى المستشفى بعد أن تعارك مع عشيقها، شخصوا له اضطرابا ما واحتفظوا به ذاكرة للمكان ثلاث سنوات، يتناول حبات ريفوتريل وحبات ليكزوميل وهي مهدئات قوية، كل محاولاته للخروج من المستشفى باءت بالفشل فأمه تأتي، تلتقي بالطبيبة المشرفة ويتم تمديد فترة إقامته، أمه تتصل به كل ساعة ، يكلمها بأدب فيما نسمعها تزعق من الجهة الأخرى، قيل أسبوع حاول قطع شريانه، ذهبوا به للمستعجلات وعاد مع تهديد بالدخول إلى جناح مغلق وهي أخطر الاجنحة، أخذ حليم حباته مذعنا والتفت الي يطلب سيجارة، طلبته أن ينتظرني في الحديقة وامده بها. انصرف يجر قدميه في حذائه الرياضي البالي وتقدمت إلى الممرضة. لاتحاولي أن تتملصي من تناول الدواء أنا أراقبك فعلتها مرة واحدة ولا داعي لتذكيري سأذكرك كل يوم وإلا رفعنا الجرعات أخذ حبات الزيبريكسا وهو معدل للمزاج وحبات الليكزوميل وهو مهدئ وحبة السيروبليكس وهو علاج ضد الاكتئاب المزمن الذي نادرا ما اخرج منه، اتذكر انهياري الأخير وما قادني هاته المرة إلى المستشفى، كان ذلك يوم الثالث من يوليوز، كنت قد هيأت كل شيء للذهاب في عطلة إلى الفوندي عند مزارعين اصدقاء، أسعد بالإقامة ضمنهم شهرا كاملا، أعمال الفلاحة والعناية بالبهائم هو انسب عمل لي، تختفي بالمعول مخاوفي وتتقوى عضلاتي وأتوقف عن التدخين وهو ما يريح معدتي المقرحة منذ زمن. يوم الثالث من يوليوز، استيقظت متعبة، شاردة الذهن، لم أنم لليلة كاملة بسبب توقفي عن تناول المهدئ بعد أن خرجت من اكتئابي وعدت إلى أنشطتي الاعتيادية منذ شهور، كنت اعرف أن التوقف عن الدواء بشكل فجائي يعرضني لخطر كبير، لكني تعبت من كم الأدوية التي أتناولها منذ سن الثامنة عشرة. استيقظت صغيرتي وتحادثنا عن غالا الرقص الذي شاركت فيه ليلة الثاني من يوليوز وكانت فيه رائعة، فقدت خلاله الوعي بعد أن استبدت بي حالة من التوجس من خطر قريب لا اعرف مصدره حضر الإسعاف ولم اخبر الطبيب بتوقفي عن تناول الدواء وتركني انصرف لإتمام عرض ابنتي. هذا التوجس المرضي صاحبني منذ طفولتي، أيام الصحون الطائرة وليست الصحون التي تنزل من السماء، بل هي صحون ترتفع من المائدة بعناية أبي الموقر لتستقر على رؤوسنا، وفي هاته المهمة كان يتناوب بمواظبة مع العم وهو شخص كريه بطبعه، كان أبي مثقفا رفيعا درس في السوربون ورجلا حقيرا في البيت، وفي رأسي جرح غائر من صحن حساء ساخن استقر على رأسي ذات فطور رمضاني. لم يكن المثقف قد دخن سيجارته الأولى بعد وكل هذا بسبب بقية خمسين درهما تكلفت العمة ماما صاحبة العدسات بالاحتفاظ بها بدل تسليمها لي لإعادتها لأبي بعد أن كلفني بأن أشتري لها تذكرة حافلة من ميسور إلى ميدلت،هناك حيث نرتاح منها قليلا إلى أن تعود وتعود المتاعب. في طفولتي بالواحة، لم لكن افهم ما يحدث بالبيت ولماذا الزعيق وسر الصحون الطائرة، فيما بعد فهمت أن أبي كان كل يوم على أهبة تطليق أمي طلقة أخيرة بعد أن طلقها مرتين، أمي تخاف أن تعود بنا الى بيت أبيها الغليظ لهذا، ندرت للرحمان صمتا طيلة عمرها وانزوت في كآبة تامة، وكنت أبكي بطلاقة كلما رأيتها، أعد الصحون المتبقية واحمد الله أننا لن نأكل في القصعة الخزفية فنحن أبناء مفتش تعليم ولنا قدرنا أمام الآخرين، أما أمام أبي فكنا بغالا وناقصي عبقرية وجمال وكنت اشعر بالذنب لماذا لم أكن أجمل ولماذا لم يفهم أخي نظرية الزاوية القائمة وهو في سن الرابعة وسلخه المثقف سلخة لازالت كل العائلة تذكرهاكنت انزوي باكرا في فراشي الخشن واطلب من الله بدعاء حار، أن يستيقظ أبي دون مزاج عكر لكن الله لم يكن يسمعني، لهذا كرهته باكرا وأحببت أبي وهكذا هي القطط تحب خناقها. التوجس المرضي جعلني منعزلة تماما عن العالم الخارجي ولا امتلك أية وسيلة للتواصل الناجح، وصرت أطبق فلسفة الصحون الطائرة فأكسر كل ما حولي، ما أن أؤسس شيئا ما حتى اكسره على رأسي، أجلس على قمة عالمي مقلوبا مكسورا وأشعر بلذة غريبة، هي لذة الطفلة المطيعة لوالديها في تنفيذ أمر بالفشل. يأسي من أية علامة حب من أمي جعلني أسعى إلي أن يكرهني الآخرون بدل أن يحبوني ماعدا تلامذتي وطفلتاي والرغبة في الأمومة هي الرغبة الوحيدة التي امتلكتها منذ طفولتي، لهذا حملت دون زواج في سن الثامنة عشرة وتشبثت بطفلتي، فيما عدا طفلتاي لا أستطيع الارتباط بأي شخص، وحتى حين يكاتبني الجميع أراسلهم بهذيانات كي يبتعدوا خوفا على رؤوسهم من صحون طائرة، كنت قد عدت للكتابة رويدا بعد انقطاع خمس سنوات بعد جائزة عربية لم أفهم لماذا منحوها لي، لكني أنا المخطئة، فقد راسلتهم بالمخطوط في إحدى لحظات صفائي الذهني النادرة. كنت قد عدت للحياة تقريبا وكونت فرقة مسرح حين عاد الخوف المرضي يحدق بي، شككت في الجميع واستشعرت مؤامرة من رفائيل وهو يحبني حبا لا مثيل له ويحرص علي من الهواء الطائر، صرحت له أنني لا أحبه وأني أرفض خطبته وانتهى الأمر. في الثالث من يوليوز، أصرت صغيرتي أن نذهب للمنتزه ونتناول طعام الغذاء هناك، رغم التعب لم ارفض، هيأت كل شي وارتديت لباسي الرياضي وانطلقنا الى ابعد منتزه مشيا علي الاقدام، المنتزه فارغ من أي مخلوق، لكني اسمع أصوات أطفال يلعبون وكلاب خطيرة تقترب من الصغيرة، ضممتها إلي وأنا أنتظر تلك الكلاب الضخمة، الكلاب نفسها التي التهمت صيف 76 رضيع رابحة في الواحة. أطلقت سراح الصغيرة وتسلحت بعصا غليظة وذهبت لإشعال النار من اجل شواء الدجاج الذي أحضرته للغذاء، وأنا أشعل النار، سمعت صوتا ملحا قادما من نهر التارن، كان الصوت يقترب ويناديني باسمي الخاص. تعالي لتنامي في النهر كما فعلت لور. لور نامت في قعر النهر منذ سنة، كنت آخر من التقاها من نزلاء مستشفي النهار. لور تحررت من كل شيء، لاشك انتهت هواجسها هناك، في العالم الأخر لا وجود للخوف. تبعت الصوت، نزلت المنحدر المترب، أزلت حذائي الرياضي وملأت جيوبي أحجارا، هكذا ينزل جسدي بسرعة إلى عالم السكينة، لحقت بي الصغيرة وأنا ادخل النهر، التفتت إليها وقلت.- انتبهي لنفسك بعدي حينها قالت ببساطة ماما بي رغبة في الغواط، أين أفعلها؟الغواط ؟ لم أفكر في الأمر، لا أعرف مكان المراحيض هنا، افعليها وراء الشجرة هناك. اقتربت منها، شممت رائحة غائطها وانفجرت بداخلي ذكريات الواحة حين تبتل الأرض بالمطر الأول فتنضح الأرض برائحة هي مزيج من غواط الأهالي ورائحة التراب المشتاق للماء. أخذت ورقة شجر ملساء ومسحت عجيزة الصغيرة وأفرغت جيوبي من الأحجار وفكرت. مبارك خراء ابنتي، لم اعد اسمع غير صوتها، توارى الصوت القادم من النهر حيث الباب الخفي للموت.عدنا الى مكاننا في المنتزه وبدل ان ارتاح قلت: لنذهب في جولة. قرب البحيرة سقط صحن طائر على رأسي، فالتجأت لسيدة كانت مع كلبها وطلبت الإسعاف. حين حضروا طلبت نقلي الى مستشفي الامراض العقلية، في غرفة بالمستعجلات لعبت الغميضة مع فيروز، اختبات تحت السرير وفي الدولاب وفي كل مرة كانت تجدني، حضرت شرطة القاصرين بعد ساعة وحملوها الى وجهة لا اعرفها ولم أرها منذ تلك اللحظة حتى الآن. في طابور الأدوية كان التوجس يخنقني لكنني اطمأننت، فمعي أشخاص لاشك تنزل عليهم صحون طائرة مثلي من وقت لآخر، أخذت كأس ماء إضافي بعد الدواء وأفسحت الطريق لكاتي. انصرفت للحديقة لاحقة بحليم، وأنا أنظر لطابور المرضى أصدقائي يقودهم خيط سري نحو قدر غريب، نحو خروج أخير من دائرة المجتمع والآخرين والدخول في قدر نحن فيه فقط عربات لحم يجرها خوف قديم. * كاتبة مغربية مقيمة بفرنسا