«دراسات في التاريخ والحضارة اليهودية-المغربية» كل حديث عن شمعون ليفي لابد أن يستحضر النفس الوطني الذي كان يشم به الفقيد عبق الحياة، وقد كان بودي أن أكتب اليوم عن هذا النفس من خلال كتابات شمعون ليفي، والذي نجده في كل ثنايا الكتاب، لكن أعتقد بأن هذا الموضوع سيبقى مؤجلا، لأن الحضور من الجيل المعايش له وهو مطلع على جانب من شخصية الراحل، وكذلك على جانب من كتاباته... لكن بالنسبة للأجيال القادمة يفترض منا إيجاد أرضية نكون من خلالها قادرين على تمرير رسالة «المواطنة»، وهو مجهود مدعوون جميعا للانخراط فيه كل من موقعه. إن مشروعية هذه الأمنية تنبع مما نعتبره شهادة موثقة في ثنايا الكتاب، سواء عندما كتب عن «البوريوم» (بوريوم وادي المخازن- بوريوم الكور في فاسطنجة) وأوضح عمق الانتماء الوطني ليهود المغرب في السراء والضراء... أو عندما عبر عن انخراط يهود المغرب في المعارك الوطنية سواء من موقع المعارضة، أو في الجانب الآخر والذي لم يعتبره بالضرورة موالاة للحكم بقدر ما كان ولاء للوطن كان فيه «تفاعل لليهود مع كل ما يوحد مجموع الشعب، فعدد منهم كانوا من المتطوعين في «المسيرة الخضراء»، وعلى رأسهم حاخام مدينة الدارالبيضاء»... أو عندما تحدث عن «حالة الاستثناء» 1965-1972 وانخراط مناضلين يهود في المعارضة وذاقوا الويلات مثل رفاقهم المسلمين». لقد لخص هذا البعد الوطني الكامن فيهم عندما كتب بأنه «على امتداد تاريخها كانت هذه الجماعة اليهودية مغربية، يهودية بطريقة مغربية - موضوعيا وطنية - لكن وعيها بهذا الانتماء ظل ملتبسا». سيبقى أمر هذه الأمنية مؤجلا، وسأحاول في هذه الورقة التعريف بكتاب الراحل شمعون ليفي «دراسات في التاريخ والحضارة اليهودية - المغربية»، لما يمثله من جدة منهجية في التحليل، والتعامل مع قضية يهود المغرب كمكون حضاري وثقافي ضمن المجموعة المغربية التي تعايشت عبر الأحقاب في ظروف تختلف لحظاتها بين الشدة والصعوبة، وبين أخرى اعتبرت قمة في العيش المشترك بينها... لكنها ساهمت في إنجاز تجربة تاريخية تستحق القراءة المتكررة. فقد قطعت الدراسات حول اليهود بالمغرب أشواطا مهمة، يعود الفضل في ذلك إلى مجموعة من الباحثين، خاصة اليهود المغاربة الذين أعلنوا انتماءهم بدون قيد أو شرط للوطن، وهو ما أعطى مصداقية لهذا الباب البحثي في مجال المعرفة، وإذا كنا نذكر العديد من الأسماء (حاييم زعفراني، جرمان عياش...) فإن شمعون ليفي لا يقل أهمية في مجال البحث العلمي الصارم - وإن الصفة السياسية غلبت على الجانب العلمي، مما جعل كتاباته تتوارى خلف ممارسته السياسية - رغم اعتراف جميع الذين اطلعوا على أعماله بريادته في هذا المجال... إن الريادة التي نتحدث عنها هي قدرته على فتح آفاق تفكير أرحب فيما يتعلق بالتاريخ والحضارة اليهودية، وإصراره على استمراريتها وديمومتها سواء من خلال العمل الميداني عبر التوجيه التربوي، أو من خلال الرعاية التي اهتم فيها بترميم المعالم اليهودية في مختلف جهات المغرب. لم يحظ هذا الكتاب بالاهتمام اللازم نظرا لأن الكثيرين يعرفون الرجل كمناضل... ثانيا أن لغته تعتبر من السهل الممتنع، فهو عندما يضع الكلمة تكون في الموضع الأنسب، لا مجال لغيرها، وقد كان في ذلك متأثرا بدراسته اللسنية التي مكنته من استكناه عمق الكلمة والمعنى. أهمية هذا الكتاب: يهمني الآن أن أشاطركم بعضا من أفكار وقضايا هذا الكتاب الصادر سنة 2001 عن مركز طارق بن زياد (الرباط) في 245 صفحة وبتقديم من د. محمد شفيق. وهو عبارة عن مجموعة من المقالات التي قدم أغلبها في ندوات ولقاءات علمية مختلفة مابين 1978 و 1999 . في موضوع الكتاب: يضم كتاب «أبحاث في التاريخ والحضارة اليهودية المغربية» 16 مقالا، تختلف بين التي لا يتجاوز عدد صفحاتها أصابع اليد وأخرى أكبر بكثير... وعلى العموم يمكن أن نقسمه إلى ثلاث مستويات لم تراع التعاقب الزمني الذي أنجزت فيه بقدر ما اهتمت بوحدة الموضوع. المستوى الأول: إذا شئنا أن نعتبره تعريفيا بالجماعة اليهودية وهويتها وإشكالاتها، ويتضمن المقالات الأولى من الكتاب منها: Un autre aspect de la culture marocaine : la composante juive -Le judaïsme marocain Entre l'intégration et la diaspora (de L'Independence à nos jours) -Le judaïsme marocain ; une référence pour la coexistence judéo-arabe -les juifs marocains et la libération nationale. -Eclairages historiographiques. وهي موجهة إلى الجماعة اليهودية بالمغرب نفسها، ويهود العالم، إضافة إلى عموم المغاربة، كلهم على قدم المساواة. من خلال هذه الأبحاث كان شمعون ليفي يحارب كل الكليشيات التي نسجت حول يهود المغرب سواء عبر ما مارسته الصهيونية أو ما مارسه الاستعمار، أعطى صورة إيجابية عن يهود المغرب كفاعل ثقافي وحضاري في السيرورة التاريخية للبلاد.. أو في عيشه المشترك. المستوى الثاني: التاريخي في هذا الجانب مقالات أخرى ومنها: La communauté juive dans le contexte de l'histoire du Maroc ; du 17eme siècle à nos jours Maimonide et l'histoire du judaïsme marocain (les juifs à l'époque almohades Messianisme ; Mehdi et crise almohade- Hara et Mellah ; les mots l'histoire l'institution- سأختار ثلاث قضايا أثارها بحدة وهي: 1 يهود العصر الموحدي، حيث إنه لم ينف واقعة اضطهاد اليهود، ولم يحاول تبريرها في هذا الاتجاه أو ذاك بقدر ما عمل على إعادة النظر في الأسس التي بنى عليها مجموعة من أشباه الباحثين أحكامهم (خاصة قينة/بكائية ابن عزري التي اعتبر أنها - بالضرورة - لا يمكن أن تكون مستندا تاريخيا، بل يجب أن تأخذ مكانها الطبيعي ضمن لغة الشعر وما يفترضه من خيال واستعارات، أي التأثير الذي يحدثه النص في المتلقي) واعتبر أن هناك نصيين تاريخيين يمكنهما إماطة جزء من اللثام عن التعاطي الموحدي مع اليهود، ويعود في ذلك إلى كتاب المعجب المنسوب لعبد الواحد المراكشي، ثم إلى القفطي... إضافة إلى ابن ميمون في كتابه دلالة الحائرين... لقد خرج بخلاصتين: الأولى: وهي أن الصورة التي لدينا عن يهود هذه الفترة فيها مغالاة كبيرة لأنها تبحث عن نصف الكأس الفارغة، والحقائق تقول بأننا «... نتوفر على وثائق تاريخية تعود للفترة الأخيرة من حكم الموحدين، وهي تشير إلى اليهود، وتبرز بأن الحروب الصليبية لم تؤثر على التجارة مع المسيحيين مابين 1212-1248، حيث وقعت عشرون اتفاقية مع تجار مرسيليا في علاقة إعمال مع يهود سبته، وهران، تلمسان. إذا يبدو أن اليهود استعادوا في عهد الخلفاء الموحدين المتأخرين موقعهم، وحتى في المراسلات الرسمية مع دول المدن الايطالية...»، ودعم ذلك بسؤال إنكاري: إذا كان الموحدون قد اضطهدوا اليهود فمن أين أتى يهود أوائل/بداية العصر المريني الذي وصل فيه بعضهم إلى أعلى المناصب السياسية (حاجب السلطان...) الثانية: وهي المتعلقة بابن ميمون (الأثير إلى قلب شمعون ليفي) والذي نزحت عائلته من الأندلس إلى فاس، وهي دلالة على أن الوضع العام في عهد الموحدين لم يكن بالوحشية والقساوة التي تم تصريفها في كثير من الكتابات. وقد خلص عبر أبحاثه إلى إطار مغاير واعتبر بأن «هذا هو الإطار العام الذي يجب من خلاله قراءة الوضعية التي عايشتها الجماعات غير المسلمة سواء في المغرب أو الأندلس» 2 القضية الثانية وهي تصورنا للملاح (الحي الخاص باليهود في المغرب)، حيث تكون لدينا انطباع سيء عن الحياة فيه، واعتبر مجالا للمعاناة... وهو ما ضخمته الإسطغرافيا الاستعمارية، في تحالفها مع الدعاية الصهيونية. يطرح السؤال البسيط، سؤال كل بداية، لماذا أصلا هذه المؤسسة؟ وهل كانت فعلا بالصورة التي رأيناها بها؟ ألم تكن للملاح أدوار أخرى كالحماية... إذا كان الأمر كذلك فهذا يعني الرغبة في استمراريتهم وليس اضطهادهم. بالنسبة لملاح فاس قرب القصر، ففيه غايتان حاجة القصر لخدماتهم، واستفادتهم من وضعية التجميع لأهداف عملية وخاصة الدينية. القضية الثالثة وهي المسؤولية التاريخية والأخلاقية للاستعمار الفرنسي والصهيونية عن هجرة يهود المغرب، ففي بحث طويل، تابع وضعهم منذ القرن 17، وحمل الاستعمار ما أسماه ب déstabilisation du groupe ، أما الصهيونية فقد استغلت الجرائم النازية، والصراع العربي الإسرائيلي، وتواطؤات داخلية، إضافة إلي سوء التقدير لدى بعض النخب السياسية الوطنية، لتنجز حلمها بتهجير اليهود المغاربة. من خلال هذه النماذج نلاحظ كيف تمكن الفقيد من تغير زاوية الرؤية – التقليدية – لتتغير النتائج، وتنتفي أحكام القيمة المسبقة التي كان أشباه الباحثين يلجأون إليها لتثبيتها. المستوى الثالث: قضايا أدبية ولغوية ونجد ضمن مقالاته Legends et tradition écrite dans le Tarik Wade Dr3a De quelques hébraïques dans le parler arabe des juifs de Fès Judéo-espagnole et judéo- arabe marocain : le sort des morphèmes de pluriel et d'emprunts au terme de quatre siècles de plurilinguisme De certaines étymologies hispaniques en judéo-arabe marocain... يعتبر أن الثقافة الشعبية المغربية متعددة، ومنها البعد اليهودي، المندمج في السياق الثقافي والديني العام من تاريخ المغرب، حيث لحظات التسامح والتعايش كانتا سمتين بارزتين، وفي هذا المجال – الذي هو تخصصه العلمي بامتياز – أبرز ريادته واجتهاداته، بمنطق علمي يعتمد الفرضية ومناقشتها في مختلف أبعادها اللسنية، الصوتية، الفينومنولوجية وحتى الأركيولوجية، متتبعا مسارات تطور الكلمة العبرية والقشتالية إلى العربية، أو العربية إلى العبرية والتداخل الذي حصل في تطور الكلمة، تركيبها ومعناها (لقد كان مقال «الحارة والملاح: الكلمات، التاريخ والمؤسسة» خير مجسد لهذا المنهج حيث انتقل بنا من تصورات استعمارية إلى فضاء التاريخ لينهي المقال بدراسة تركيب الكلمات ودلالتها...) وهو في هذا النقاش يتابع تشكل الهوية اليهودية المغربية التي اعتبرت اللغة مصدرا أساسيا. في هذا المستوى أيضا القليلون منا كانوا يعرفون عن le parle/المنطوق العبري في شمال المغرب والمتميز بخصوصياته (الحكيتيا)، لتوضيح تأثير الهجرة في تشكل الهوية الجماعية المغربية. إن حديثة عن هذا التأثير ليس للتنقيص بقدر ما كان رغبة في إظهار الحيوية والرحابة والقبول الذي كانت تمنحه اليهودية لمختلف أشكال المثاقفة، دون إحساس بأنها ستكون عرضة للمسخ. لقد قسم الكلام اليهودي إلى ثلاث أنواع/ أشكال، الأمازيغي بالأطلس، الحكيتيا بالشمال، الدارجة المغربية، أما العبرية فهي لغة عالمة لغة البيعة والإنتاج الأدبي الديني والعقود (المقدسة)، لكنها أيضا لغة استمرارية الهوية اليهودية ومنها كان لابد أن تكون في كل البيوت، ويهتم بها في التواصل... وانه وبهذه العودة إلى أصول الكلمات اعتراف وإقرار بحيوية الكلمة كمكون أساسي في الثقافة، وإقرار بالفضاء المتوسطي ككيان متداخل.... De quelques hébraïsmes en arabes marocain et leurs voies de passage في المنهج: إننا لن نتحدث عن المنهج كأداة كتابة وصياغات منمقة، بقدر ما سنهتم به كإلية تفكير، تعكس مواقف فكرية متحررة من كل القيود التي تفسح المجال لخلق التوازن الضروري بين ملكة العقل، وتفتح الخيال في طرح الافتراضات والتجاوب معها، وقد مكنه ذلك من : تجاوز الأحكام المطلقة، واعتماد النسبية في القراءة، والاهتمام بتتبع السياقات تعلق الأمر بالوقائع والأحداث التاريخية، أو بالتطور اللغوي، فقد لاحظ بأن «كثيرا من المؤرخين، الرواة والصحفيين، يعطون صورة «متشائمة» عن الجماعة اليهودية بالمغرب، مركزين على وضع «الذمي»، وعلى بؤس الملاح، أي على وضعية يقارنوها، بتواطىء أو عن غير قصد، مع وضعية الطوائف اليهودية في الغرب، وناذرا ما قاموا بالمقارنة في سياق التطور الاقتصادي والاجتماعي لتاريخ المغرب» ... النفس العلمي من خلال الإحالات المعتمدة، والتي ساهمت معرفته باللغات في إغنائها... - السجال ومحاولة الإقناع والدفاع عن رؤاه، بوضوح قد يكون ملتبسا أو صعبا، لكن عمقه وصدقه يجعلك تتفهم الفكرة ولو اختلفت معه. - الشجاعة والجرأة في التعاطي مع المواضيع الشائكة، تعلق الأمر بموقفه من الصهيونية أو بقضايا لا تقل أهمية، وتكلفتها باهظة. لا يمكن أن نختم هذه الورقة دون التنويه إلى قضيتين مركزيتين وربما محوريتين في تقدير الراحل شمعون ليفي، وتمثلان خلفية ثاوية في مشروعه الثقافي وهما: إنه في مختلف قراءاته يدعو إلى متابعة «السياق/contexte الخاص» للجماعة اليهودية، و»السياق العام» للتطور السوسيو اقتصادي بالمغرب وتداعياته على المستوى الثقافي. إذ نعتبر بأن كلمة «سياق» التي نجدها في مختلف محاور درس شمعون ليفي، تمثل ركيزة أساسية في منظومته الفكرية. لقد رفض كل عناصر المقارنة بين وضع يهود أوربا ووضعهم في المغرب، وأدخل ذلك في خانة الإيدولوجيا. المفهوم الثاني – وهو مرتبط بالأول- هو مفهوم الدينامية، ففي مختلف أبحاثه كان يصر على تطور الكلمة والمفهوم، الوقائع والأحداث، الذهنيات والأفكار، الثقافة والحضارة... لا يركن إلى الجمود، ولا يتعاطى مع السكون، الكل متحرك، الكل يسير نحو التعايش والسلام. هي قضية، مركزية أخرى إذا، ولهذا كان قلقه الفكري، خوفا من أن نستكين ونوقف التطور. هي رؤية تستمد شرعيتها من مسار الشخص، من تجربته السياسية، من مخاض يهودية مغربية تشكلت عبر قرون. الخلاصة: إذا كان من الصعب الإحاطة بالزخم الكبير الذي تحبل به هذه المقالات، والتي نعتبر أنها تشكل وحدة متكاملة، تلخص أهم أفكار شمعون في جبهة حربه الثقافية... فإنها واجهة أخرى، متوازية مع الجبهات الأخرى التي ناضل فيها. ومن هنا كان ذلك التلازم المتوافق بين منهجه الفكري، ونضاله السياسي، وأطروحاته العلمية التي يعتبر هذا المجموع خير معبر عنها. إضافة إلى الإسهام في إرساء قواعد مدرسة بحث في «يهود المغرب» من منظور مغربي وبمفاهيم جديدة، وليس أقلها «اليهودية المغربية» والذي نعتبره لصيقا بشمعون ليفي قارئا له، وباحثا فيه، ومنظرا له. كما لا يمكن الحديث عن متن شمعون ليفي دون الإشارة إلى أطروحته العلمية... والتي حاز بها شهادة دكتوراه الدولة. إن هذه القراءة لن تكتمل إلا بالموازاة مع مختلف الكتابات التي نشرها في وثائق وجرائد حزبه، أو التي أعدها لفائدته، حتى تتشكل الرؤية المتكاملة لما نعتبره «الدرس الغني» لشمعون ليفي. قد نقول ضاع المغرب، ضاع طلبته وأحبته، ضاع المتحف... في الراحل، وخير عزاء لنا جميعا هو مجموع الدروس والتوجيهات والمقالات... التي تركها إرثا جماعيا لنا. *باحث في التاريخ البيضاء: 16 فبراير 2012 هوامش 1-Simon Levy : Essais d'histoire et de civilisation judéo-Marocaines ; rabat ; 2001 ; p : 23 2-Ibid. ; p118 3-Ibid. ;p :51 4-Ibid ;p : 162 5-Ibid. ; p : 155 6-Ibid. ; p : 126 7-Ibid ; p 189 8-Ibid. ; p : 95