السيد الرئيس، السادة الوزراء، السيدات والسادة المستشارين، باسم فريق التحالف الاشتراكي، أتدخل في هذه المناقشة العامة لمشروع قانون المالية لسنة 2012، وهو مشروع يندرج في سياق خاص وجد استثنائي. فنحن نناقشه في غير موعده للظروف التي يعرفها الجميع. نناقش مشروعا لم يتبق له، عمليا، سوى نصف سنة للتنفيذ، نناقشه في ظل ظروف مناخية متقلبة. فقد تمت مناقشته داخل مجلس النواب في ظل معطيات تشير إلى آفاق كارثية للموسم الفلاحي، بينما نناقشه داخل مجلسنا في ظل معطيات أفضل بالنسبة للسنة الفلاحية بعد التساقطات الأخيرة، مما يجعلنا أكثر تفاؤلا بخصوص إمكانيات تحقق الفرضيات التي بنى عليها. السيد الرئيس، بعد هذه الملاحظة الجزئية لا بد أن نضع هذا المشروع في سياقه العام والخاص. فعلى المستوى السياسي العام، هذا أول مشروع لحكومة منبثقة عن صناديق الاقتراع في إطار دستور جديد كان نتيجة لحراك اجتماعي وسياسي، تفاعل معه قائد البلاد جلالة الملك محمد السادس إيجابيا، وانطلقنا منذ 9 مارس 2011 في صناعة تجربة متميزة ورائدة في محيطنا الإقليمي والجهوي، فلسنا إذن أمام حكومة عادية وفي ظروف عادية، بل أمام حكومة رهان، ليس فقط لمكوناتها، بل لهذه التجربة التاريخية برمتها، وأمام اختبار لسلامة اختيار المغرب، وصحة نهجه في إدارة مرحلة سياسية صعبة وربما مصيرية.. لذلك فنحن نعتقد أن دعم هذه التجربة وتوفير شروط نجاحها، ليس مجرد دعم متحزب ومنطقي باعتبارنا جزء من الأغلبية، بل دعما لهذا المسار برمته، دعم لتعزيز مسار الإصلاح والديمقراطية والتحديث. ومن حيث السياق الخاص، فإننا نناقش مشروعا مزدوج الانتماء، فإذا كانت بصمات الحكومة الحالية، بنهجها الإصلاحي وتوجهها الاجتماعي، واضحة، فإننا نتفهم صعوبة التغيير الجذري لمشروع كان جاهزا، بالنظر للإكراهات الزمنية التي واجهتها الحكومة، وهو أمر ليس سلبيا في حد ذاته، لكون المنطق الذي يحكم عملية الإصلاح في بلدنا هو منطق التغيير في إطار الاستمرارية، استمرارية المكاسب وحمايتها، ومنها الحريات التي ضحت من أجلها كل القوى الحية ببلادنا، ودعم الإيجابيات المحققة، ومواصلة الأوراش الإصلاحية الكبرى، وفي نفس الوقت تغيير المقاربات والوسائل، وتجاوز الثغرات والنقائص، وهذا ما يعكسه المشروع الذي نحن بصدد مناقشته. إنه مشروع قانون مالي انتقالي، يجعل حضور مرجعية التصريح الحكومي في بنوده جزئيا، وننتظر المشروع المقبل الذي نريد أن يترجم توجهات والتزامات البرنامج الحكومي.... أيها السيدات و السادة: لسنا بحاجة إلى التأكيد أن الظرفية العامة دوليا ووطنيا تتميز بالصعوبة، وبحاجة إلى جهد مضاعف للحد من تأثيراتها السلبية. فاقتصادنا الوطني مرتبط بالاقتصاد العالمي الذي يعرف انكماشا واضحا، خاصة لدى شركائنا الأساسيين في الاتحاد الأوروبي، حيث معدل النمو المرتقب في بعض البلدان الأوروبية يراوح مكانه، أو لا يتقدم إلا بشكل طفيف في أحسن الحالات، ويسجل نسبا سلبية في بلدان أخرى، وهذا سيكون له تأثيره الأكيد على مستوى الاستثمارات الخارجية، والصادرات، ووارداتنا من العملة الصعبة سواء من طرف السياح الأجانب أو مواطنينا المقيمين ببلدان الاتحاد الأوروبي. ينضاف إلى ذالك ثقل فاتورة استيراد الطاقة، حيث تعرف أسواق النفط اتجاها نحو ارتفاع الأثمان اعتبارا للأوضاع السياسية والتوترات التي تعرفها المناطق المنتجة للنفط، وهذه العوامل الخارجية تؤثر في نسبة النمو الداخلي. ومما يعمق الصعوبات أكثر الموسم الفلاحي المتواضع، مع استحضار ثقل القطاع الفلاحي في الحياة الاقتصادية الوطنية.. يجب أن نستحضر كل هذه المعطيات ونحن نناقش مشروعا لقانون المالية يحاول مواجهة صعوبات استثنائية، دون استسلام للظروف، ودون تقشف، بل إنه مشروع لا يكتفي بتدبير الأزمة بل يوازن بين متطلبات مواجهتها عبر تدابير مكلفة مثل مواجهة آثار الجفاف النسبي، وتقوية السوق الداخلية في مواجهة تقلص الأسواق الخارجية، وفي نفس الوقت الاستجابة، ولو جزئيا، لمطالب ملحة، وذلك عبر تدابير اجتماعية نلمس فيها الأولويات الاجتماعية لهذه الحكومة. السيد الرئيس، إن مواجهة هذه الظرفية بقدر ما هي بحاجة إلى قانون مالي إرادي وبحث عن موارد وترشيد للنفقات، بقدر ما يحتاج كذلك إلى جو سياسي سليم، واشتغال حكومي بالأولويات، وتدبير تشاركي للملفات المطروحة. وفي هذا الإطار فإننا نلح على أهمية الانسجام بين مكونات الأغلبية، سواء على مستوى الحكومة أو على مستوى البرلمان. فالانسجام والتشارك في اتخاذ القرار وفي التنفيذ يشكلان شرطا أساسيا لإنجاح هذه التجربة.. لقد عرف العمل الحكومي مؤخرا بعض التضارب في المواقف من بعض القضايا، مما خلق انطباعا بضعف الانسجام الحكومي. وبقدر ما نعتقد أنه من الطبيعي أن تظهر بعض الاختلافات في التقدير وفي الأولويات، لأننا أمام حكومة تحالف وليس حكومة حزب واحد، فإننا نعتقد أن الاحتكام لميثاق الأغلبية، الذي يجمعنا جميعا، والانطلاق من روحه ومقتضياته، يمكن أن يجنب الحكومة، مستقبلا، وضعا مثل الذي عشناه مؤخرا.. إننا نريد أن تتصرف الحكومة كمؤسسة وليس كقطاعات مستقلة، ونريد أن نتعامل، كأغلبية مع مواقف حكومية موحدة، تلزم كل أعضائها وتلزمنا نحن كأغلبية بالدفاع عنها، والسبيل إلى ذلك واضح: التشاور والتشارك والتوافق، ليس فقط داخل الحكومة، بل داخل الأغلبية برمتها، حكومة وبرلمانا... الحكومة قوية بمكوناتها، وببرنامجها الطموح، وبدعمها الشعبي الأكيد، وستكون أقوى، دون شك، بانسجامها وبسلوكها، كمؤسسة، وتكامل قطاعاتها... ونود أن نسجل التعامل الإيجابي للحكومة مع المؤسسة التشريعية، من خلال قبولها لعدد هام من التعديلات التي تقدم بها إخواننا النواب من الأغلبية والمعارضة على مشروع قانون المالية، وهو تعامل ينسجم مع ما جاء في التصريح الحكومي عند التنصيب من مقاربة تشاركية في تدبير الشأن العام، وهي المقاربة التي نريدها أن تتعزز عند شروع الحكومة في تحضير مشروع قانون المالية للسنة المقبلة، عبر إشراك البرلمان بغرفتيه في عملية التحضير، وهو ما يتطلب إقرار قانون تنظيمي جديد للمالية يدرج إشراك البرلمان، قبليا، وبحكم القانون، في تحضيره ومتابعة تنفيذه. أيها السيدات و السادة... رغم الظرفية الصعبة، ورغم الأزمة المالية العالمية، ورغم الظروف المناخية الغير مناسبة لموسم فلاحي جيد، فإن معطيات مشروع قانون المالية غير متقشفة وإيجابية على العموم، حيث سجلنا تحقيق أرقام قياسية، في ظل هذه الظروف، ومنها تحقيق رقم قياسي بالنسبة للاستثمار (أزيد من 188 مليار درهم) وبالنسبة لمناصب الشغل في الوظيفة العمومية (أزيد من 26 ألف منصب)، وتدابير اجتماعية معبرة عن انشغال الحكومة الجدي بالمسألة الاجتماعية، ونذكر بالخصوص دخول مرحلة تنفيذ نظام المساعدة الطبية (RAMED) كإنجاز تاريخي حقيقي ومكسب للعدالة الاجتماعية ببلادنا، وإنشاء صندوق للتماسك الاجتماعي ضمن مشروع الحكومة للتقليص من الفقر والهشاشة وتوفير الحد الأدنى من الحياة الكريمة للمواطن المغربي، وهو الصندوق الذي نأمل أن تجد له الحكومة مصادر تمويل قارة خلال السنة المقبلة، ونذكر أيضا الاستمرار في دعم مواد أساسية عبر صندوق المقاصة رغم صعوبات التمويل، والانشغال بجد بأزمة السكن عبر عروض جديدة ومشروع تقليص العجز السكني ب 50%، إضافة إلى دعم تشغيل الشباب عبر مواصلة البرامج القائمة بنفس جديد ومقاربة أكثر إنتاجية، وبلورة سياسة تعليمية تدعم مشروع التعميم وتوفر الجودة ورد الاعتبار للمدرسة العمومية، ومواصلة المشاريع الكبرى المهيكلة، ورد الاعتبار للمسألة الثقافية.. إنها بعض الجوانب التي تؤكد تجاوب الحكومة مع القضايا الأكثر إلحاحية ومع مطالب المجتمع وقضاياه، كما تؤكد اندراج هذا المشروع ضمن تنفيذ برنامج الحكومة رغم المدة القصيرة التي كانت متاحة للحكومة لبلورة كل برامجها ضمن المشروع الحالي... السيد الرئيس إننا أمام مشروع يحافظ على التوازنات الاقتصادية الكبرى، وهذا في حد ذاته إنجاز هام في ظل ظروف الأزمة، والتي سوف لن تنعكس، بناء على معطيات المشروع، على معدل التضخم الذي سيبقى متحكما فيه في حدود 2,5 % ، وهو أمر جد إيجابي بالنظر لانعكاسات ارتفاع معدل التضخم على المعيش اليومي للمواطن. كما أن تحقيق نتيجة إيجابية بالنسبة لمعدل النمو( 4,2 %)، ورغم أنه معدل ضعيف ولا يستجيب لطموحاتنا وحاجيات المجتمع خاصة في مجال التشغيل، فإنه مؤشر إيجابي إذا ما استحضرنا المحيط الإقليمي والدولي والذي تراوح فيه نسبة النمو مكانها في عدد من البلدان وتحقيق نسبة سلبية في بلدان أخرى.. ونسجل بشكل خاص الرفع من مستوى الاستثمار العمومي الذي سيصل إلى 188.3 مليار درهم، بزيادة 21 مليار درهم مقارنة مع السنة الماضية، لكن لابد أن نثير صعوبات إنجاز هذا الرقم وتنفيذ الاستثمارات المبرمجة... فعادة لا يتم إنجاز سوى حوالي 60 % من الاستثمارات المدرجة في الميزانية، لاعتبارات مسطرية، أو تهاون القطاعات المعنية، أو نقص الكفاءة في بعض هذه القطاعات. ونعتقد أن مشكلة التنفيذ ستتفاقم هذه السنة إذا ما اعتبرنا أن الشروع في تنفيذ قانون المالية لن يتم سوى في بداية النصف الثاني من هذه السنة، نظرا لتأخر المصادقة عليه، مما يفرض اتخاذ تدابير استثنائية، وتسريع وثيرة التنفيذ للحفاظ على الأقل على النسبة المعتادة، مع التفكير بجد في معالجة جذرية لمشكلة ضعف إنجاز الاستثمارات المقررة، وما يترتب عن ذلك من عدم تحقيق نسب النمو المتوقعة. ومن ضمن ما نقترحه بهذا الخصوص إيجاد آلية لتتبع التنفيذ، بشكل دوري داخل البرلمان بغرفتيه، وهو ما يمكن تضمينه في القانون التنظيمي للمالية، والذي نؤكد مرة أخرى على ضرورة إقراره في أقرب الآجال.. وبخصوص الجانب الجبائي، فإن المشروع لا يقدم جديدا ملموسا، وننتظر من الحكومة أن تأتينا بإصلاح جبائي شامل وقار عوض تدابير جبائية جزئية كل سنة، تجعل عددا من المستثمرين، خاصة الأجانب، يترددون في الإقدام على الاستثمار في ظل نظام جبائي غير قار ويتغير من سنة لأخرى. وسيكون من الضروري مراجعة نظام الإعفاءات بربطها بالإنتاجية، سواء على المستوى الاقتصادي أو الاجتماعي، فعدد من الإعفاءات المعمول بها حاليا يمكن إدراجها ضمن اقتصاد الريع، الذي على الحكومة العمل بجد للقضاء عليه، أو على الأقل التخفيف من حدة تأثيره على الاقتصاد الوطني، سواء تعلق الأمر بالرخص بمختلف أشكالها، أو بنظام الصفقات الذي يحضر فيه الريع بشكل غير مباشر، أو باقي الامتيازات الغير مشروعة، علما أن الشعار المركزي لهذه الحكومة هو محاربة الفساد واقتصاد الريع ومراقبة صرف المال العام، وإرساء حكامة اقتصادية قادرة على تنمية موارد الدولة وحسن تدبيرها، ليستفيد منها المواطن المغربي بشكل ملموس في حياته اليومية... السيد الرئيس إن شعبنا يعلق أمالا كبيرة على هذه الحكومة التي تملك برنامجا طموحا، وحسا اجتماعيا أكيدا، وكفاءات سياسية مقتدرة، وإرادة سياسية في الإصلاح، إصلاح يريده جلالة الملك ويريده الشعب، في إطار وضع دستوري جديد و متقدم، ووضع سياسي أفضل... وأملنا أن تتمكن الحكومة، بأولوياتها الواضحة ، وبانسجامها الضروري، وبأدائها الميداني، بالأفعال وليس فقط بالأقوال، من تحقيق طموحات شعبنا في العيش الكريم، وفي الحرية، وفي التمتع بالحقوق التي يضمنها الدستور والمواثيق الدولية. واقتناعا منا بأننا نتقاسم مع الحكومة هذه الآمال والطموحات، وبأن مشروع قانون المالية يندرج ضمن المشروع الإصلاحي فإننا نعلن دعمنا له وتصويتنا لصالحه. شكرا والسلام عليكم