مشروع قانون المالية لسنة 2012 رغم أهميته وقوة مقتضياته .. فإنه يكتسي طابعا انتقاليا المشروع يجسد رؤية واضحة وعملية وواقعية تتضمن العديد من الجوانب الإيجابية لتدبير المرحلة الانتقالية الحالية السيد الرئيس المحترم السادة الوزراء المحترمين السيدات والسادة النواب المحترمين. أتشرف بتقديم هذا التدخل باسم فريق التقدم الديمقراطي في إطار مناقشة مشروع قانون المالية للسنة الجارية 2012، وهو أول مشروع قانون مالية نتمكن من مناقشته بمجلس النواب في إطار دستور فاتح يوليوز 2011. إن السياق الوطني الذي نناقش فيه مشروع قانون المالية لسنة 2012، يتميز بالأساس بدينامية إصلاح ذات أبعاد جوهرية همت مختلف الجوانب السياسية والمؤسساتية لوطننا العزيز. حيث دخلت بلادنا في مسلسل تغيير ديمقراطي هادئ من داخل المؤسسات، انطلق فعليا بالخطاب الملكي التاريخي، خطاب 9 مارس 2011، بعده صادق المغاربة في فاتح يوليوز من نفس السنة على دستور البلاد الجديد، وفق مراجعة شاملة شكلا ومضمونا ساهمت فيها مختلف التنظيمات الحزبية والنقابية والفعاليات الجمعوية والشبابية والثقافية والأكاديمية والحقوقية، من خلال عمل اللجنة المكلفة بالصياغة وآلية التنسيق والتتبع، وكان من الطبيعي أن يتم تنظيم انتخابات تشريعية سابقة لأوانها قصد انتخاب مجلس نواب جديد طبقا لمقتضيات الدستور الجديد. ونؤكد مرة أخرى على الأجواء الايجابية على العموم التي طبعت هذه الانتخابات والتي أجمعت الأغلبية الساحقة للتنظيمات الحزبية والنقابية ومختلف مكونات النسيج المجتمعي المغربي على نزاهتها وشفافيتها، وعشنا لحظة دستورية بامتياز من خلال تعيين رئيس الحكومة من الحزب الذي تصدر نتائج الانتخابات التشريعية، ومن خلال المراحل التي عرفها تنصيب الحكومة، وأيضا من خلال دينامية التشاور والتشارك بين مكونات الأغلبية. هو إذن جيل جديد من الإصلاحات تعيشه بلادنا لتجاوز الجيل القديم/الجديد من الاختلالات. جيل جديد من الإصلاحات يضع المواطن في صلب السياسات التنموية والخيارات الإستراتيجية المؤسساتية بما ينعكس إيجابا على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية لجماهير شعبنا، ويصون الوحدة الترابية لبلدنا من خلال مقترح الحكم الذاتي الذي تقدم به المغرب، انسجاما مع خيار الجهوية المتقدمة الذي تبنيناه بالإجماع، وهي مناسبة نحيي فيها عاليا قواتنا المسلحة الملكية على الدور الذي تقوم به في حماية وصون حدود البلاد ووحدتها الترابية تحت القيادة السامية لصاحب الجلالة الملك محمد السادس، القائد الأعلى للقوات المسلحة الملكية المغربية. وفي السياق ذاته، فإننا نحيي الحكومة التي أعطت نفسا جديدا وحيوية ودينامية للدبلوماسية من خلال الدبلوماسية الرسمية والموازية: البرلمانية والشعبية، كما نشيد بالعمل الذي تقوم به منظمات المجتمع المدني التي تنشط على الصعيد الدولي، والأدوار التي تقوم بها لدعم قضيتنا الوطنية. إن الدستور الجديد أعطى مكانة متميزة للمجتمع المدني حيث فتح الباب أمامه للمساهمة في التشريع عن طريق تقديم ملتمسات وعرائض تشريعية، وأتكلم هنا بلغة الدستور الذي تضمن إحداث هيأة دستورية هي المجلس الاستشاري للشباب والعمل الجمعوي، هدفه بالأساس تطوير الحياة الجمعوية، ودراسة وتتبع المسائل التي تهم هذه الميادين، وتقديم اقتراحات حول كل موضوع اقتصادي واجتماعي وثقافي، يهم مباشرة النهوض بأوضاع الشباب والعمل الجمعوي وتنمية طاقاتهم الإبداعية، وتحفيزهم على الانخراط في الحياة الوطنية بروح المواطنة المسؤولة. وعلى الحكومة طبقا لمقتضيات الدستور أن تعمل على توفير الظروف التي تمكن من تعميم الطابع الفعلي لحرية المواطنات والمواطنين والمساواة بينهم، ومن مشاركتهم في الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية، وهو ما نلمسه من خلال تسمية وزارة بعينها بالوزارة المكلفة بالعلاقات مع البرلمان والمجتمع المدني. كما أن الجمعيات والمنظمات خصوصا تلك المهتمة بالشأن العام تساهم وفي إطار الديمقراطية التشاركية، في إعداد قرارات ومشاريع لدى المؤسسات المنتخبة والسلطات العمومية، وكذا في تفعيلها وتقييمها، وذلك بإشراك المواطنات والمواطنين عبر مقاربة تشاركية تمكن المجتمع المدني من لعب دور محوري في التنمية وتحقيق الديمقراطية التشاركية كأعلى مستوى للنموذج الديمقراطي لما يضطلع به المجتمع المدني من دور في حماية ورعاية الفئات الهشة: النساء في وضعية صعبة، الأطفال المتخلى عنهم، الأشخاص المسنون، الأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة، ومن الضروري، بالتالي، تقوية الدعم المخصص لجمعيات المجتمع المدني مع ضرورة الترشيد وتقوية قدرات الفاعلين في هذا المجال دون الإخلال بمبدأ ربط الدعم بالمحاسبة. يجب الاعتراف بهذا الدور الحيوي للجمعيات والمنظمات غير الحكومية. وبلادنا وصلت إلى ما وصلت إليه من مسلسل الإصلاح والتغيير الهادئ بفضل الانخراط الكبير للجمعيات ومساهمتها في تكوين أطر ونخب البلاد والحفاظ على أمنها واستقرارها وضمان سلمها الاجتماعي. نحيي كل الجمعيات والمنظمات الفاعلة والجادة والمسؤولة، وأكيد أن الجميع، حكومة وبرلمانا، يرفض رفضا قاطعا كل محاولات تشويه صورتها وتبخيس عملها. ولسنا في حاجة للتذكير بالمحاولات البئيسة التي سجلناها بأحد القطاعات خلال التجربة الحكومية السابقة والاستياء العميق الذي خلفته لدى كل الأوساط. نناقش اليوم مشروع قانون المالية في سياق دستوري جديد أقر مجموعة من المبادئ الأساسية من بينها: الالتزام بتوفير الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والبيئية لكافة شرائح المجتمع خصوصا الفئات المحرومة: سكان المناطق الجبلية، والقروية النائية والفئات ذات الاحتياجات الخاصة، وإقرار المساواة بين الجنسين في الولوج إلى الخدمات العمومية والموارد، وحظر ومكافحة كل أشكال التمييز، وذلك بالخصوص عبر اعتماد مقاربة النوع والمناصفة والحرية، والتأكيد على العدالة المجالية في المشاريع التنموية، والاهتمام أكثر بمغاربة العالم من أجل تتبع قضاياهم وضمان حقوقهم. وفي هذا السياق، فإننا في فريق التقدم الديمقراطي نعتبر أن المقاربة الحقوقية والمساواة بين الجنسين والحقوق الأساسية للنساء أساسا، ينبغي إدراجها كمبادئ مهيكلة لقوانين المالية، وأن تتم مقاربتها كما ورد ضمن التوجه الثاني الوارد في برنامج الحكومة، والمتعلق بدولة القانون والحقوق والحريات، وتدشين ورش تشريعي، وفتح نقاش وطني حول مختلف القضايا التي حظيت باهتمام وتتبع الرأي العام الوطني في الآونة الأخيرة، قصد ايجاد الحلول الناجعة لضمان احترام الحقوق والحريات. السيد الرئيس، إن مشروع قانون المالية الحالي يقدم خارج الآجال الدستورية طبعا، لعدة أسباب نتفهم الكثير منها، فتنصيب الحكومة الحالية بداية السنة الجارية جاء في توقيت بدت معه ملامح معطيات ومستجدات جديدة مؤثرة على السنة المالية، خصوصا ما يتعلق بصعوبة السنة الفلاحية. وكان بالضرورة أن تتفاعل الحكومة مع الواقع، وبالتالي أن تكيف مشروع القانون المالي مع كل هذه التغيرات. ثانيا، إعادة صياغة مشروع قانون المالية شكل فرصة للبدء في أجرأة بعض مضامين البرنامج الحكومي الذي سبق وصوت عليه مجلس النواب. وبالتالي فالمشروع الذي بين أيدينا يعكس إلى حد ما مجموعة من التوجهات التي تبنتها الحكومة الحالية، وبدت لمساتها من خلال مجموعة من الإجراءات والتدابير المقررة فيه. غير أن ضيق الوقت بين تنصيب الحكومة وتقديم مشروع قانون المالية، ثالثا، لم يمكن الحكومة الحالية من أخذ وقتها الكافي في أجرأة فعلية لبرنامجها الحكومي وتنزيله على مستوى مشروع قانون المالية الذي يعتبر مرآة عاكسة لأي برنامج. وهكذا فنحن نعتبر في فريق التقدم الديمقراطي بأن مشروع قانون المالية الحالي وعلى الرغم من أهميته وقوة مقتضياته، وبالنظر لكل ما تقدم، فإنه مشروع انتقالي. وأن قانون المالية الذي سيعكس حقيقة وفعليا البرنامج الحكومي: هو قانون المالية لسنة 2013، حيث ستأخذ الحكومة وقتها الكافي لإعداده، واختيار الآليات الكفيلة ببلورة مضامين برنامجها والوفاء بوعودها والتزاماتها. ولن يكون لها عذر آنذاك لتأخيره بطبيعة الحال. نحن ننتظر منكم كحكومة الالتزام بالآجال المقررة في الدستور فيما يتعلق بتقديم مشروع قانون المالية لسنة 2013، ونحن متيقنون بأنكم ستسهرون على احترام ذلك، بما يحفظ للقوانين والمؤسسات حرمتها وهيبتها في إطار دولة القانون. ويجب الاعتراف بأن الشروط التي تتم فيها مناقشة مشروع قانون المالية هي شروط غير مساعدة، وفي ظل ظروف صعبة للغاية. لان المناقشة تفقد الكثير من فعاليتها إذا كانت تحت ضغط الوقت وإكراه الاستعجالية. كما أن العدد الكبير والمهم من الوثائق المتعلقة بمشروع قانون المالية والمعدة من طرف وزارة الاقتصاد والمالية ومختلف القطاعات الوزارية الأخرى، تتطلب وقتا كافيا للدراسة المتمعنة والمعمقة. وتجعل الحكومة في وضع أكثر تميزا وتقدما من البرلمان، وبالتالي يجب التفكير والبحث في صيغ وطرق تسمح بإشراك البرلمان في إعداد مشروع الميزانية والمساهمة في هذه العملية بمختلف مراحلها، وعلى الأقل لضمان توازن العلاقات بينهما، لضمان إمكانية وتحقيق توازن بين السلطتين التشريعية والتنفيذية أثناء المناقشة السنوية لمشروع قانون المالية، قصد إعطاء مدلول حقيقي للديمقراطية الميزانياتية. إذن، فبكل موضوعية ومسؤولية وبدون محاباة، نتفهم الظرفية الخاصة والاستثنائية التي نمر منها، ظرفية صعبة إن على المستوى الدولي والوطني. دوليا، نلاحظ تراجعا في نسبة النمو «انخفاض في معدل النمو العالمي من %4 إلى%3.3»، وخصوصا لدى شركائنا الأساسيين في الاتحاد الأوروبي «منطقة الاتحاد الأوروبي انخفاض من%1.1 إلى %0.5-» ولم يتجاوز معدل النمو في فرنسا سنة 2012، %0.2، علما أن اسبانيا دخلت مرحلة الانكماش ولا أحد يعلم المدة التي ستستغرقها. وضعية تؤكد عدم الاستقرار المالي والاقتصادي على الصعيد الدولي، مع تنامي خطر ارتفاع أسعار المواد الطاقية. كما نسجل تشكل الدول الصاعدة الأسيوية (الصين والهند) والأمريكو-اللاتينية (البرازيل والأرجنتين) كرافعة للنمو على الصعيد الدولي. وهي وضعية ستزداد تعميقا وترسخا خلال عقود من الزمن. مما يطرح على بلادنا تحدي الانفتاح على هذه البلدان وتنويع علاقاتها التجارية، بالموازاة مع حسن علاقاتها الدبلوماسية، وتطوير تنافسية اقتصادها، وتحسين العرض الموجه إلى التصدير. أما على المستوى الداخلي، فلقد أصبح من المؤكد أن المغرب سيعرف هذه السنة موسما فلاحيا من أقسى المواسم الفلاحية التي عاشها منذ بداية الثمانينات من القرن الماضي، مما سيزيد في تأزيم الأوضاع وتفاقمها على صعيد التوازنات الخارجية الأساسية، وعجز الخزينة، وغيرها. وإذ نسجل بارتياح المبادرة التي اتخذتها الحكومة في المدة الأخيرة بتخصيص غلاف مالي يقدر ب 1.53 مليار درهم لإغاثة الماشية، فإننا نعتبر أننا مطالبون بالتعامل مع حالة الجفاف بمزيد من اليقظة والنجاعة، لتقديم كل أشكال المساعدة الممكنة لمختلف الفئات الواسعة من الفلاحين الصغار والمتوسطين المتضررين أكثر من غيرهم. ومن جانب آخر أدت الأزمة العالمية إلى انخفاض وتيرة نمو تحويلات المغاربة المقيمين في الخارج، وانخفاض مداخيل الأسفار والسياحة. في هذه الظروف الصعبة التي تتميز باستفحال عجز الخزينة، وتفاقم العجز التجاري، وعجز ميزان الأداءات، وانخفاض كبير في احتياطاتنا من العملة الصعبة، كان الجميع ينتظر من الحكومة تقديم «ميزانية تقشفية». إلا أن الحكومة، وفاءا منها بالتزاماتها أمام الشعب وأمام البرلمان، أبت إلا أن تجتهد أكثر لتقدم مشروعا لقانون المالية يروم النهوض بالأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، وحماية القدرة الشرائية للمواطنين، والحفاظ على التوازنات الماكرو-الاقتصادية. ودون الخوض في تفاصيل الأرقام، يكفي أن نذكر ببعض المعطيات الأساسية والدالة: - تحقيق نسبة نمو %4.2. - تراجع احتياطات الصرف من 188 مليار درهم سنة 2010 إلى 167 مليار درهم. - ارتفاع المدينونية من %50.3 سنة 2010 إلى %52.9. - ارتفاع معدل التدفق السنوي للقروض البنكية الممنوحة للاقتصاد الوطني إلى 65 مليار درهم. - الرفع من مستوى الاستثمار العمومي ليبلغ .188.3 مليار درهم بزيادة 21 مليار درهم مقارنة مع سنة 2011.» بزيادة 21 مليار درهم»، مع التذكير باستمرار سيطرة المؤسسات العمومية على الاستثمارات العمومية، وهو أمر ليس سلبيا كما قد يتصوره البعض، غير أن المطلوب في هذا الباب، هو إخضاع هذه المؤسسات للمراقبة والمحاسبة، وتجديد المسؤولين خصوصا منهم الذين لم يتمكنوا من تحقيق النتائج المرجوة، وتميز تدبيرهم بضعف المردودية، كما ينبغي لهذه المؤسسات العمومية، أن تساير وثيرة وإيقاع العمل الحكومي. - التحكم النسبي في المديونية العامة مع تغليب المديونية الداخلية على المديونية الخارجية. - التحكم في معدل التضخم في حدود 2.5%. - خلق ما يزيد عن 26204 منصب مالي، وهو رقم لم يتم بلوغه خلال العشر سنوات الأخيرة. - الشروع في تعميم المساعدة الطبية. - الاهتمام أكثر بالجوانب الاجتماعية كالتعليم والصحة والسكن وغيرها. - تكاليف متزايدة بسبب تكاليف: الحوار الاجتماعي؛ صندوق التماسك الاجتماعي؛ صندوق دعم تشغيل الشباب؛ تأهيل العالم القروي والمناطق الجبلية؛ دعم المبادرة الوطنية للتنمية البشرية وصندوق التنمية القروية. غير أن الذي يؤرقنا كثيرا في فريق التقدم الديمقراطي هو كثرة الصناديق الخصوصية للخزينة، مما يفرض علينا اليوم، التوجه نحو تقليصها، لأنه لا يعقل أن نخلق صندوقا أو وكالة للتعامل مع أي مشكل، ثم إن الحكامة الجيدة، تفرض علينا التقليل من هذه الصناديق احتراما للمبادئ التي تقوم عليها الميزانية العامة للدولة والمتمثلة في الشمولية والوحدة وعدم التخصيص والشفافية. على العموم، فإننا في فريق التقدم الديمقراطي نعتقد أن بإمكان الحكومة أن تسير بعيدا في الإصلاحات لو كان لديها متسع من الوقت لإعداد هذه الإصلاحات حتى تتمكن من تقديم مشروع قانون مالية أكثر طموحا، دون أن ننقص من أهمية المشروع المعروض بين أيدينا للمناقشة والمصادقة. واسمحوا لنا أن نستغل الفرصة لنحيي مكونات المعارضة بمجلس النواب على مساهمتها الفعالة في النقاش والاقتراح بروح إيجابية ومسؤولية عالية، وفي كثير من الأحيان بكل تفهم وموضوعية نسجلها ونثمنها. اسمحوا لنا أيضا أن نحيي بحرارة كل مكونات الأغلبية بمجلس النواب، وكل النائبات والنواب الذين لم يدخروا جهدا للحضور والمساهمة في النقاش. حيث لاحظ الجميع بأن تدخلات السيدات والسادة نواب الأغلبية لم تكتسيها المحاباة. بل كانت في غالبيتها مثمرة منتجة بالتركيز على المضامين القوية، دون أن تخلوا من روح الانتقاد، والذي كان لاذعا في بعض الأوقات أكثر من المعارضة نفسها. وهذا دليل على أن مجلس النواب الحالي يسعى إلى تكريس دوره الحقيقي والقيام بمهمته الرقابية والتشريعية كما ينص على ذلك الدستور بصرف النظر عن موقع الأغلبية أوالمعارضة. نحيي أيضا مكونات الأغلبية بمجلس النواب، لأنها أبانت من جديد، وأعطت الدليل على صحتها وقوة تماسكها وتلاحمها المسؤول، وإحكام وفعالية عملها التنسيقي، رغم ما ينشر ويشاع للتأثير سلبا عليها، والدفع بأسباب الشرخ والتفرقة بين مكوناتها. لقد بادرت آلية تنسيق الأغلبية على مستوى مجلس النواب، والتي تم تشكيلها تنفيذا لما ورد وتم الإعلان عنه في ميثاق الأغلبية قبيل تشكيل الحكومة، «بادرت هذه الألية» إلى تجميع وتوحيد التعديلات المتعلقة بمشروع قانون المالية 2012، و تم تقديم 48 تعديلا مجتمعة من طرف مكونات الأغلبية. تجاوبت إيجابا الحكومة مع الكثير منها. ومن بين التعديلات التي تقدمنا بها: - تحفيز وتشجيع المقاولات والصغرى والمتوسطة، إعفاء المعاشات من الضريبة على الدخل؛ - تحفيز القطاع الخاص العامل في مجال التعليم والتكوين؛ - دعم الفاعلين في قطاع النقل العمومي؛ - إعفاء الجوائز الأدبية من الضريبة على الدخل. هذه بعض التعديلات التي تقدمنا بها، قبلت الحكومة بعضها وعدلت بعضها، ورفضت بطبيعة الحال بعضها: وكم هي قوية تلك الإشارة، و متميز ذلك الموقف، الحكومة ترفض تعديلات لمكونات الأغلبية تقدمت بها هذه الأخيرة مجتمعة، كما تقبل تعديلات تقدمت بها المعارضة (38 تعديلا تمت الموافقة عليه الإجماع). هذا هو العمل البرلماني الحقيقي، وهذا هو الفصل المؤسساتي، هذه هو مبدأ فصل السلط مجسدا بين السلطة التشريعية والتنفيذية. موقف يعطي الدليل من جديد على أن مغرب اليوم دخل مرحلة بناء مؤسساتي جديد. قوامه استقلالية السلط عن بعضها البعض. وحكامة مؤسساتية ناجعة. السيد الرئيس المحترم، لقد قررنا في فريق التقدم الديمقراطي أن نتفاعل إيجابا مع مشروع قانون المالية. نعم قررنا دعمه ومساندته. ليس فقط لأننا ننتمي للأغلبية ونشكل أحد مكوناتها! بل لأن هذا المشروع ، ووفق قناعاتنا، وبكل موضوعية، يجسد رؤية واضحة وعملية وواقعية تتضمن العديد من الجوانب الإيجابية لتدبير المرحلة الانتقالية الحالية. من أجل تثمين هذه الجوانب الايجابية التي أتى بها مشروع قانون المالية، نعتبر من الضروري الإقدام خلال الأسابيع والشهور المقبلة، على اتخاذ بعض الإجراءات المصاحبة في بعض المجالات الواردة في البرنامج الحكومي. ويتعلق الأمر أولا بمجال «الحكامة المالية»، وهو ما يستوجب مراجعة وإصلاح القانون التنظيمي للمالية الذي أصبح متجاوزا منذ المصادقة على الدستور الجديد. فالقانون التنظيمي للمالية المطلوب ينبغي أن يضمن المزيد من المشاركة البرلمانية خلال مراحل الإعداد والمصادقة والتنفيذ لضمان الديمقراطية الميزانياتية، وتدبير قائم على النتائج بالإضافة إلى البعد الجهوي في أفق الجهوية المتقدمة. في نظرنا، يجب أن يتأسس هذا القانون التنظيمي على المبادئ التالية: - التسيير على أساس النتائج: تحويل الاعتمادات لقطاع معين ينبغي أن يكون مبنيا على التزام هذا القطاع بتحقيق مجموعة من الأهداف المحددة للسياسة العمومية، أهداف تقاس عن طريق مؤشرات قابلة للقياس والتقويم. - الجهوية: يجب على البرلمان أن يقوم بتقييم ومناقشة المجهود المتعلق بالميزانيات الجهوية تمهيدا للجهوية المتقدمة وتفعيلها. - مقاربة النوع: لقد أصبح من الضروري توجيه السياسات العمومية والاعتمادات المخولة حسب فئة معينة من الساكنة وخاصة المعرضة منها للهشاشة والتمييز الاجتماعي: النساء، الشباب والأشخاص في وضعية صعبة أو هشة والمسنين والأطفال المتخلى عنهم وضحايا العنف والإهمال والاستغلال بكل أشكاله أو الأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة، والتي نثمن بالمناسبة ما أنجزته الحكومة السابقة ونحيي حكومة الأغلبية على اعتماد مبدأ الاستمرار في الكثير من الأوراش في إطار حكامة جيدة تقوم على رؤية بناءة وحكيمة وقابلة للقياس. - تجاوز الإطار السنوي: التسيير القصير الأمد أبان على محدوديته وبالتالي ينبغي أن تكون نقاشات الميزانية مرتبطة باستراتيجيات التنمية والتخطيط. وينبغي على الحكومة والبرلمان وبشكل تشاركي أن يعملا على أن تتم مناقشة مشروع قانون مالية 2013 وفق القانون التنظيمي الجديد. 2- إضافة إلى وجود عدة قضايا هامة تسائلنا جميعا، ولا يمكن أن نجد لها أجوبة مقنعة إلا في إطار تصور متوسط الأمد (من 3 إلى 5 سنوات)، وعلى الحكومة أن تقوم بتقديم مجموعة من عناصر التأطير ممتدة على مدى عدة سنوات (بصرف النظر على الظرفية) من قبيل: - العودة إلى التوازن المتعلق بالميزانية (3 بالمائة) في إطار حكامة جيدة تقوم على رؤية بناءة وحكيمة وقابلة للقياس. - التحكم في كتلة الأجور: لتفادي انعكاسات سيادة منطق التضخم، كما أن الحلول المتخذة بطريقة استعجالية أبانت على محدوديتها (مثال المغادرة الطوعية سنة 2005). - إصلاح صندوق المقاصة وفق تصور وإستراتيجية شمولية بدل البحث عن حل لكل حالة على حدة. - التحكم في مصاريف التسيير بالنسبة للدولة: ينبغي تجنب الحلول العامة المطبقة على كل الإدارات (بعض الإدارات وخاصة اللامتمركزة تعيش في حالة «نكبة» بينما المصالح المركزية وبعض المؤسسات العمومية تعيش نوعا من الرفاهية). 3- وفيما يتعلق بالجانب الضريبي، فقد أصبح من الضروري إجراء إصلاح جبائي شامل، إذ لا يمكن أن نستمر في معالجة القضايا الجبائية عن طريق إصلاحات طفيفة كل سنة، بل ينبغي أن يتم ذلك، كما أشار إليه البرنامج الحكومي، في إطار إصلاح حكومي شامل للجبايات، وفي إطار تشاوري مما يستدعي منا التفكير في نقاش مستعجل مبني على المبادئ الأساسية التالية: - سن سياسة جبائية أكثر عدالة بشكل يجعل كل مواطنة ومواطن يساهم حسب مدخوله وثروته لتوفير الموارد العمومية الكافية، بالارتكاز على مبدأ التضامن المواطن بين الفئات الميسورة والفئات المعوزة. - العمل على توسيع الوعاء الضريبي وجعل أداء الضرائب واجبا وطنيا خصوصا لدى الفئات الميسورة ومحاربة الغش والتهرب الضريبي.. - إنعاش الاستثمار المنتج ومحاربة الريع والمضاربة بكل أشكالها؛ - الارتكاز على مبدأ التضامن المواطن؛ - تقييم سياسة النفقات الجبائية، في هذا الصدد، نرى في فريق التقدم الديمقراطي، أن العهد الجديد الذي نعيشه، يفرض على الحكومة أن تنكب على تقييم موضوعي للإعفاءات التي تقدمها الدولة خصوصا للقطاع العقاري والسياحي والفلاحي وغيرها التي تقدر بحوالي 32 مليار درهم، والتأكد من مدى نجاعة هذه المقاربة، ومن مدى مردودتها وانعكاساتها على الاقتصاد الوطني، وعلى الأوضاع الاجتماعية للمواطنات والمواطنين، إذ تجد بعض الإعفاءات مبرراتها في ضرورة إنعاش بعض القطاعات وتشجيع الشغل في حين يكون البعض الأخر من هذه القطاعات ليس لها أي مبرر ويصبح بشكل أو بآخر نوعا من اقتصاد الريع. كما يتعلق الأمر بتحسين العلاقة بين الإدارة والمواطنين، من خلال الشروع حالا في تطبيق الإصلاح الإداري كما هو وارد في البرنامج الحكومي. ومن شأن هذا الإصلاح أن يعبأ المواطن ويخلق جوا جديدا تسوده الثقة، ويلمس من خلاله المواطن التغيير في حياته اليومية. ويتعلق الأمر ثالثا بتبني خطة منهجية لمحاربة الفساد الاقتصادي والمالي ووضع حد لمختلف أشكال الريع، حتى نتمكن، على المدى المتوسط، من بناء اقتصاد قائم على المنافسة الشريفة، ومجتمع يستعيد فيه العمل والمجهود قيمتهما. وهذا يقتضي تفعيل وأجرأة آليات الحكامة التي ينص عليها الدستور الجديد، والالتزام بما تم الاتفاق عليه في إطار البرنامج الحكومي، والعمل بشكل متضامن ومتماسك بين كل مكونات الأغلبية. أما فيما يتعلق بتقارير المجلس الأعلى للحسابات، وتماشيا مع المقتضيات الجديدة للدستور، وما ورد ضمن البرنامج الحكومي فيما يتعلق بالحكامة الرشيدة وتخليق الحياة العامة ومحاربة الفساد والرشوة، نرى أنه من الضروري استثمار هذه التقارير والتفاعل معها قضائيا، وتحريك آليات المتابعة في حق المتورطين في التسبب في الاختلالات المتعلقة بسوء تدبير المالي العام. الرهانات كبيرة إذن، والتحديات قائمة من دون شك، والأوراش لازالت مفتوحة، بل إن الجديد منها سيفتح استجابة لانتظارات المواطنات والمواطنين، ووفاء لالتزامات الحكومة كما تقدمت بها في البرنامج الحكومي. سنكون دائما منخرطين في هذه الأوراش، أوراش الإصلاح والتنمية، من موقعنا طبعا كنواب برلمانيين. وسندعم دائما كل الخطوات الجريئة والشجاعة التي ستقوم بها الحكومة في سبيل تطبيق برنامجها تطبيقا حقيقيا، وتنزيل الدستور تنزيلا ديمقراطيا. وفقنا الله جميعا لما فيه خير لشعبنا ولبلدنا. «إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يوتيكم خيرا». صدق الله العظيم. وشكرا.