ليست العربة المرسومة على صخرة بين دجلة والفرات، في عهد حضارة السومريين (3200سنة قبل الميلاد) إلا تصورا بدائيا أو استشرافا لما ستكون سيارة مرسيدس المصنوعة في ألمانيا في عهد الحضارة الغربية الحالية. فالحضارة تدفق مستمر لفعل بشري استفاد أو اقتبس أو احتك بفعل بشري آخر. وإذا كانت الحضارات مدينة لبعضها؛ وبالتالي تعترف، من خلال تمظهراتها، وفي صمت سرمدي مهيب، بجميل ذلك البعض، فإن الثقافات وهي نتاج الحضارات مدعوة للإعتراف بنفس الجميل. لقد ظلت الحضارة، في تحدياتها الكبرى لهولاكو وهتلر، أكبر كافر بالأحادية القطبية؛ لأنها وحدها المستفيد، منذ فجر التاريخ، من تعددية الروافد. ولأن الحضارات لا تستشير أبناءها - مهما كانت إرادتهم السياسية ومرجعيتهم الدينية- فقد كان مستحيلا على العرب رفض هجرة رموز الأعداد الهندية إلى ثقافتهم. وبعد أن تلونت نفس الرموز بلون العرب، فأضحت تُنسب إليهم إثر إضافة الخوارزمي لصفره العجيب، بات من المستحيل صد الحضارة الغربية للرموز العربية المتسربة عبر منطقة الأندلس الإسلامية، لأنها كانت قابلة للتطبيق أكثر من الرموز الرومانية؛ لذلك حلوا من خلالها جل الإشكالات الحسابية المستعصية حينها. وانطلاقا من نفس المنطق، لم يكن بإمكان أبناء حضارات العرب والهند وإفريقيا أن يقفوا في وجه طائرة وأسيرين وتلفاز الغرب؟.. إنه قانون الحضارة: ضيف من طبيعته، كي يستمر الرقي، أن يدخل دون أن يدق الباب. لم تكن فكرة «صدام الحضارات» دقيقة. ولعل هنتكتون خلط بين حروب المصالح، وما ينجر عنها من توسع ودمار، وما تلبس من أقنعة المبررات الدينية والسياسية، من جهة، و»صدام الحضارات» المتناقض كليا مع صيرورة الحياة وتكامل عناصرها، من جهة أخرى. فلو لم يكن ثمة تفاعل بين الحضارات، لما كان لنا اليوم أن نعرف طبا متكاملا أو هندسة متكاملة أو علم فلك شبه متكامل. فعلماء الحضارة العربية الإسلامية استفادوا من أسس الطب في حضارات الإغريق والفرس والهند. وكان من الطبيعي أن يترجم بعض أوائل العلماء المسلمين (المسيحيين والزرادتشيين أصلا) علوم أسلافهم فيتحفون بها المكتبة العربية الإسلامية، مضيفين إياها إلى المعارف العربية القديمة. تماما كما استفادت الحضارة الهندية من الطب الإغريقي، ومن ثم الطب الإسلامي العربي، وحتى الفارسي خاصة في ظل المغوليين الذين شجعوا علماء الفرس على تطبيق معارفهم الطبية في بلاد الهند. الحضارات - بحكم التعايش والأخذ والعطاء- مشغولة عن كل ما من شأنه عرقلة صيرورتها وتعاطيها وبحثها عن الكمال. وبالتالي فميكانيزماتها الداخلية غير مستعدة للصدام. لقد كانت مسيرة التليسكوب لدى علماء الحضارة الغربية طويلة. فمراقبتهم للأفلاك، واكتشافهم لحركة الكواكب ومواقع النجوم، استفادت كلها، بشكل ما، من تقاويم عثر عليها فوق توابيت وصور نجوم فرعونية تعود إلى أبعد من 1600 سنة قبل الميلاد.. فلابد أن تكون المنجزات العلمية الفلكية أيا كان السباقون إليها قد التفتت - بشكل ما- إلى حضارة فرعونية كانت تعتبر أن الأرض مستطيلة يتوسطها نهر النيل النابع من نهر عظيم تسبح حوله النجوم والآلهة. أو إلى حضارة فارسية وضعت جداول حسابية تبين مواقع النجوم.. أو إلى حضارة بابلية تنبأت بالخسوف والكسوف واضعة تقاويمها شبه الدقيقة. أو إلى حضارات كلدانية وكنعانية وعبرانية وضعت تقاويمها الخاصة من خلال مراقبة حركة الشمس ومواقع النجوم. بل لابد أن يكون الكل التفت إلى الكل حسب الترتيب الزمني. فالحضارة الصينية تصورت أن الكون بيضة والأرض صفارها وقبة السماء بياضها. كما تصور الهنود القدامى أن الأرض قوقعة. فيما تمكنت الحضارة الإسلامية العربية من وضع مراصد للنجوم في عهد الدولة الفاطمية، وحاول علماؤها وضع نظرية تحل معضلة حركة الأفلاك والنجوم والكواكب، لكن تسليمهم بمركزية الأرض شكل المنطلق الخاطئ كجل الحضارات. وقد وضعت حضارات أخرى تصورات أكثر بدائية كان لها دورها في الدفع إلى التفكير في الكون. فاعتقدت الحضارة الزنجية بإفريقيا أن الشمس تسقط كل ليلة في الأفق الغربي، فتسبح إلى العالم السفلي، ثم تدفعها الفيلة لتضيء الأرض مجددا من الأفق الشرقي. واعتبرت قبائل الصحراء الكبرى من بربر وعرب أن السماء قبة منصوبة فوق الأرض، وأن الشمس تطلع صباحا من الشرق لتسقط مساء في المحيط الأطلسي غربا. ثم تبدأ مع ساعات الليل سفر العودة سالكة طريقا يمر تحت الأرض عبر «ماء نوح» لتطلع في الصباح من الشرق. أما الغيوم فمخلوقات تسافر من المحيط باتجاه الشرق لتشرب من نهر النيل وتعود فتسقي الأرض. واعتقد الهنود الحمر أن على أميراتهم أن يسهرن على ضوء المشاعل، ليأتيهن طائر الكونكورد فيأخذ تلك المشاعل ويضيء بها الشمس من جديد. وحتى السومريون اعتقدوا أن الأرض هضبة تعلوها القبة السماوية. واعتقد البابليون أن المحيطات تشكل أعمدة تستند عليها السماء والأرض. كما كان لحضارة المايا في المكسيك واغواتيمالا الحاليتين وحضارة الأنكا في البيرو الحالية تصورات مشابهة. كل تلك التصورات والتخمينات كانت مقدمة لما شهدته الحضارة الغربية من ثورة في تفسير علاقات الكون والقوانين المتحكمة في حركته. تلك الثورة التي أزاحت كل الرؤى الأسطورية للفضاء من خلال نظريات نيكولاس كوبيرنيك ومن ثم جوهان كبلير وكاليلي ونيوتن. وإذا كان الإنترنيت وهو نتاج الحضارة الغربية قد عمل، مدعوما بثورة الاتصالات، على خلق حضارة «القرية الكونية الواحدة» المتصلة، فإن الرموز الحضارية القديمة تشي في مجملها ب»قرية كونية» غير متصلة كانت البشرية، في مختلف الحضارات، تعيشها واقعا دون أن تعي ذلك. مما يدل على تناغم كبير وتشابه فوق التصور للمخيال العام للبشرية. فالحضارة الهندية، في مضمار حيرة أبناء كل الحضارات بخصوص هذا الكوكب «المعلق»، حسبت أن الأرض تحملها أربعة أفيال عملاقة تقف على ظهر سلحفاة. فيما اعتبرت شعوب روسيا أن الأرض محمولة من طرف ثلاث حيتان ضخمة. وفي نفس نمط التفكير، اعتبرت شعوب الحضارة الغربية أن الأرض محمولة على قرني مخلوق يدعى «أطلس»، وهو شبيه ب»ثور» العرب المشارقة الحامل لها على قرنيه، تماما كما تصور «بيظان» الصحراء الكبرى أن ثورا فظيعا يدعى «البهموت» لم يزل يحمل الكوكب الأرضي على قرنيه. الحضارة ظلت، منذ اكتشاف النار، تتداخل وتتشابك في رحلة طويلة وتلاقح تراكمي لا يتوقف. لذلك تمكنت قصة «كليلة ودمنه» من الانتقال بسلاسة من الحضارة الهندية، لتقيم ردحا من الزمن في الحضارة الفارسية، قبل أن تستقر مكرمة في الحضارة العربية. شأنها شأن قصة «السندباد». فيما تسرب نمط مقامات الهمذاني من الحضارة العربية إلى الحضارة الفارسية. ولابد أن حضارات السومريين والبابليين والآشوريين استفادت من حضارة العيلاميين التي خلفت لهم نظما تجارية ومزهريات عليها أشكال هندسية رائعة. وقد استفادت الحضارة الرومانية من الحضارة الإغريقية في مناح كثيرة من بينها الفن المعماري، وإن استحدث الرومانيون وإخوتهم البيزنطيون أنواعا جديدة من التطريز المعماري وفنون الخط وصناعة الأسلحة ونسج الحرير وسبك الزجاج الملون. كما يبدو من المستساغ أن تكون الحضارة الفرعونية أخذت عن الحضارة الأمازيغية بعض فنون الزراعة، وإن أثر الفراعنة والبابليون في علوم الإغريق، رغم أن هؤلاء من خلال طاليس وبيثاغور واقليدس هم آباء الرياضيات المطبقة بالبرهان. فيما ساهمت الحضارة الغربية بالمحركات البخارية التي أشعلت فتيل الثورة الصناعية، بالإضافة إلى موجة من الاكتشافات الهامة في الرياضيات (احتمالات باسكال) والفيزياء والكيمياء والميكانيكا. ليست عجلة «ميشلين» الفرنسي، إلا تطويرا، واع أو غير واع، لعجلة ابتكرها السومريون قبل 5200 سنة واستخدموها في الزراعة بعد تركيبها في عربات تجرها الحيوانات. وكانت تلك العجلة تسير جنبا إلى جنب مع نحت التماثيل وصناعة الفخار وأول كتابة عرفت ب»المسمارية». وإذا كان سقراط ورفاقه اليونانيون الإغريق آباء للفلسفة بغير شك، فإن شكوكا علمية تحوم حول أبوة مواطنهم أبقراط لعلم الطب، فالمومياوات الفرعونية المحنطة، وبعض الرسوم الخالدة، تظهر أن المصريين القدامى كانوا يمارسون الطب قبل اليونانيين؛ وإن ظل الاقتباس والاقتباس المضاد، بحكم انعدام الحدود الحضارية، هو القانون الأكثر سيادية. ولنا في هذا الصدد أن نتساءل عن مدى تأثير الفيلسوف الصيني كونفشيوس في تحريض المفكرين الغربيين على التمرد على السلطة اللاهوتية. وهل قرأ العبقريان اكليمان آدير ووليام ابوينغ فقرة ولو واحدة عن تجربة عباس بن فرناس في الطيران؟ وما مدى تأثير «كليله ودمنة»، الهندية-الفارسية-العربية، على كتاب غربيين من أمثال لافونتين؟ وما مدى تأثير الرياضيين والجغرافيين المسلمين والعرب في ما اكتشفت الحضارة الغربية من جبر وهندسة وخرائط؟ وماذا استفادت النهضة الأوربية من اختراع الحضارة الصينية للورق؟ وكيف تأثر الكاتب العربي نجيب محفوظ ببلزاك وإميل زولا؟ وكيف تأثرت قصة «زنوبيا» لمحمد فريد بالاتجاهات القومية والواقعية الأوربية؟ ولعل المقطوعات الشعرية المعروفة ب»رباعيات الخيام» شكلت إحدى أروع ما أنتج في الأدب العربي، وهي فارسية الأصل واللغة. كما أن الشعر الغنائي العربي ترك بصمة على شعر المديح الفارسي، فيما أثر الأدب العربي الأندلسي في الأدب الإسباني. ولعل روائيي جل الحضارات نظروا، عبر الاحتكاك والتماس والتوريث، إلى رواية «الحمار الذهبي» للكاتب الأمازيغي لوكيوس آبوليوس في القرن الثاني للميلاد. إنها المعاني السامية لعناق الحضارات، حين تكون الحدود أكذوبة ويكون الاحتكاك وسيلة لتطوير الذات. إن المتتبع لدلالات الرموز الحضارية لدى الشعوب، من مختلف الأصول، يدرك مدى تقارب المخيال الجمعي للبشرية مهما تنوعت مشاربها الدينية والعرقية؛ ف»جحاالمغفل الأبله المضحك في ثقافة العرب، هو نفسه «جيها» لدى أوائل الروسيين، وهو نفسه «كتيبرمه» في ثقافة قبائل الزنوج الولف بموريتانيا والسينغال، وهو نفسه «نصر الدين خوجه» في ثقافة الأتراك، وهو نفسه «ملت نصر الدين» لدى الإيرانيين، وهو نفسه «غابروفو» لدى البلغارييين، وهو نفسه «آرتين» لدى الأرمنيين، وهو نفسه «آرو» لدى اليوغسلافيين. ومع تمسك شعوب الصحراء الكبرى، خاصة البيضان، بشخص «جحا»، فإن لديهم امرأة تدعى «تيبه» تلعب نفس الدور الأسطوري للشخوص السابقة وما شابهها، شأنها في ذلك شأن «أنديكري جوم مول» لدى قبائل الفولان الزنوج. ولعل ما أضحى يمثله «روميو وجيليت» لدى الحضارة الغربية المسيحية، كان بمثابة ما مثله «قيس وليلى» في الحضارة العربية الإسلامية. وإن ل»ديلول» صاحب الحكم الكبيرة لدى قبائل البيضان في شمال غرب إفريقيا شبيه لدى قبائل الولف الزنوج يدعى «اندام كوساس»، كما أن له شبيه مماثل لدى قبائل الفولان الزنوج يدعى «دمبيل». وكذلك فإن أسطورة طائر «العنقاء» في الحضارة العربية تشبه أسطورة «سيمرغ» في الحضارة الفارسية وأسطورة «أكي فاري سابا» لدى قبائل الفولان الزنوج المنتشرين حول نهر السينغال. مع العلم أن لهؤلاء مخلوقا أسطوريا فظيعا يدعى «انغولوا» يحمل نفس خصائص «الغول» لدى العرب. إننا اليوم بحاجة ماسة إلى استيعاب وتقدير المعاني السامية لبعض التداخلات الحضارية. فصليب القديس جورج (+) وصليب القديس آندري (-) لم يبرحا منذ عدة قرون أفخاذ إبل بعض القبائل العربية في الخليج وفي موريتانيا. ورغم أن مياسم الإبل العربية تحمل الكثير من الرموز الدالة على تلاقح حضاري قديم بين العرب والمنغوليين والتبت، حسب دراسة ليعقوب آرتين باشا إلا أن البعد الديني في صليبي القديسين المسيحيين يظل الأكثر دلالة. لأن أي مسلم لم يشمئز قط من الوشمين المذكورين. نفس الشيء بالنسبة للأسماء ذات الدلالة اليهودية والباقية في أسر موريتانية مسلمة دون أي حرج (كإسرائيل وبنيامين وإسحاق.. وتلمود.. إن مبدأ قبول الآخر يتجلى بدون لبس في مثل هذه الإعارات الرائعة. فالحضارات تستضيف وتحتضن وترحب برموز كل الحضارات الأخرى ما لم تكن مفروضة. إنه الاعتراف المتبادل والتبادل السلمي. إنه عناق أبدي كان بالأمس حاضرا بقوة ذاتية، أما اليوم فهو حاضر بقوته الذاتية القديمة مدعومة بقوة العولمة والشاشة والياه.