بلاغة الإقناع والإمتاع المسرحي صدر مؤخرا ضمن منشورات دار التوحيدي بالرباط، مؤلف مسرحي بعنوان «مدينة النصوص» للأديب عبد الرحيم مؤذن. وتتوزع الكتاب النصوص المسرحية الآتية: الأعمى والمقعد، مقاولة الحجر، ابن بطوطة وتابعه جزي، مدينة النصوص، حديث العميان في هذا الزمان. ككل مؤلفات عبد الرحيم مؤذن المحكومة بالجدية، ليس فقط في طرحها لسخونة الموقف والتيمة؛ ولكن أيضا في الصياغة الفنية التي تنطوي على مراس مع الكلمة والمتخيل غير بعيد عن الواقع ودهاليزه. أقول ككل مؤلفاته السردية، يأتي هذا العمل نديا وزاخرا إلى حد الاشتباك بين الواقع والمرجع والكتابة. وهي ثلاثية توجد لها الصيغ الجمالية الملائمة في هذه النصوص المسرحية. وأنت تتصفح «مدينة النصوص»، ينتابك إحساس بأنك أمام كاتب يسوق الأشياء ويعجنها، لتغدو لينة الملمح الفني. وما أثارني حقا في هذا العمل هو أن الكاتب يتناول بعض التيمات كالحجر والعري.. بشكل يكاد يحيط بكل موضوعة من عدة زوايا (الواقع، التاريخ، المخيال الشعبي...). وهو ما يدل أولا عن ترسانة الكاتب حول كل تيمة؛ بل وحسه الجمالي الرفيع الذي يدرك الحدود بين الخطابات. فينتقل بينها كخيط نار يلين ويذوب حدة المرجع في تصوير فني مشهدي يتوالد في صراع درامي يؤسس لذروته التي لا تثبت حلا ولا نهاية باردة؛ بل إشكالا من زاوية نظر مسرحية. أستحضر في هذه الأضمومة هنا نصه المسرحي المعنون ب «مقاولة الحجر» الذي حول معه الحجر إلى صوت ملحمي يجادل من خلاله الأحداث والمواقف، التصورات والترسبات.. إلى أن تحول الحجر إلى سؤال، له صلة قوية بالعمق الإنساني الجريح المنتصر دوما للحرية والامتداد. فتحول الحجر إلى آخر بلوري وشفاف بين الجراح الإنسانية. ورد في نص «مقاولة الحجر» ص 27: المقاول 2: حجر من البلاستيك ، ثمنه قليل وأجره كثير. المقاول 3: ولكي نثبت لكم وطنيتنا التي لا تحتاج إلى إثبات سنصدره لهؤلاء الأطفال أيضا.. وليقذفوا به من يريدون.. من حق الأطفال أن يلعبوا أيضا.. أليس كذلك؟ المقاول 1: لا يتبادر إلى ذهنكم ما فعله السابقون... أقصد الأسلحة الفاسدة والأدوية الفاسدة... فنحن نعمل في الوضوح وبوضوح (يرفع المقاول حجرا آخر باليد) ..حجر صحيح لا علاقة له بالفساد والمفسدين .» الكاتب يمسرح الحجر بالأفكار؛ وليس بالأفعال والأحداث. وبالتالي -في تقديري- فالأداء المنتظر، لا بد له من مقدرة ذهنية للتجسيد والإيحاء والتلميح. لأن نص الكاتب عبد الرحيم مؤذن إشاري في تكوينه، يبني سيمياء حوارية للحجر الأصل على ضوء الفعل الإنساني. فتبدو لك المسرحية في التمثل البصري تتحرك بخطى مضبوطة بين الواقع والمتخيل. وهو ما يدل على أن كتابات الأديب عبد الرحيم مؤذن غنية بالنقد، من خلال مواقف هزلية، تفرك المأساة المترسبة في الذاكرة والعمق الإنساني الجريح . كما أن حوارات المسرحية على تهيكلها، حوارات ترقى بالنص إلى التناظر الذي يتلاعب بالشيء الواحد ويقلبه من عدة جوانب، ليثير الأسئلة؛ في تأسيس لقلق موغل في الفكر والثقافة الإنسانية. كتابة الأديب عبد الرحيم مؤذن المسرحية في ارتباط قوي بالواقع والمرجع. وبالتالي فهي تستحضر في تأليفها الجمهور الذي يخبئ وراءه مجتمعا وواقعا. لأن إشارات النصوص الجمالية تذهب نقدا للاختلال الذي يتعدد ويمتد إلى علائق الفنون بالأصل كما في نص «مدينة النصوص» من خلال سخرية مبطنة لها تجلياتها الحركية والصوتية ...تقول مسرحية «مدينة النصوص» في مشهدها الخامس: الشاعر: سأطالب النقاد بإضافة (مشيرا إلى القاص) القارىء الدناميت. القاص: اشرح لنا ما سبق دون زيادة أو نقصان.. الشاعر: افتح أذنيك جيدا... أعلى مراحل فقدان الذاكرة، اشتعالها بالبياض (يفرد كفه اليمنى أمام القاص، ويحركها عدة مرات ملتمسا منه الصبر) ..اشتعالها بالبياض، انمحاء كل الصور، فيعم السواد...» من المؤمل أن تجد هذه النصوص المسرحية الإطار المناسب لتظهر في أداء يتفاعل مع معطيات التأليف بترو؛ ليمنح لهذا الكون اللغوي الجميل والعميق امتداداته وأبعاده. ولي اليقين أن التجسيد المسرحي لهذا العمل، سيمنح لمسة تأثيثية إضافية للمسرح المغربي والعربي في راهنيته المفجوعة أمام هول التحولات.