على جنبات الطريق، تعرفت على عديد من الشخصيات. في أماكن سكناهم.. وفي محلات تجارتهم. وأعجبت بشخصيات محترمة، كالسيد طاطي، في الوقت الذي كان ينزل بمطرقته على السندان لتسوية قطع الحديد الصلبة، وتعرفت على السيد خنشوش الزبال، الذي كان يعيرني بالطالب المتقاعد، والمعلم لهبيل، الذي لا يقدر على حبس لعابه، والسيد عسّثو الذي كان يجر عربة دار الدباغة هو وجحشه، كما يجر ذبابة، منذ عرفته وهو يعشق «كل كلمة حبي حلوى سمعتهالي» لعبد الحليم. أما جماعة الندل، كلما دخلت عليهم المقهى، كانوا يسارعون الى مسح الطاولة، وبعضهم يرفع صوت الراديو، واحضار الصحف، والماء البارد، لأنهم كانوا يقدرون حالة الطالب، ويحترمون فراغ جيوبه من وسخ الدنيا. وسط هذا اللون من الشخصيات المحترم، ترعرعت.. دفء وصداقة حميمية، وثقافة شعبية كذلك، حتى جاء ذلك اليوم، تلقيت فيه بطاقة من صديق يسكن جنوب المغرب، يطلب مني أن أزوره. لم أكن بخيلا في مثل هذه المناسبات. جمعت دراهم معدودة من هنا وهناك، وسافرت. في القطار تعرفت على رجل ليس ككل الرجال. على وجهه تعلَّق صقيع، ومدٌّ وجزر، وجدار غليظ لم يسمح لي بأن أتسلقه بسهولة. إنتهزت الفرصة، وحملقت في أصفاد عينيه قبل أن يغادر القطار المحطة.. وكأنني إستعنت بزر، نكس أهدابه خلالها، وكشف عن بطاقته. - أنا من القصر.. فرحت.. لأنني لم أتصور ذات يوم سأجلس قرب «برَكَة القصر». تخيلت الرجل كله قصر. بذلته قصر ..شعره قصر.. كلامه قصر. حتى وسخ نعله كان من ريحان القصر. لامست بذلته، والتصقت به حتى شممت رائحة القصر، أنستني رائحة الفاسوخ، والجَّوي المكاوي، وهي أنواع من البخور الشعبية. لوحت له برأسي، ليستطرد كلامه.إنه يتكلم كلام القصر، بدل لغتي الخشنة، التي لا تعرف سوى، طاطي وخنشوش ولهبيل وكلام لقْهاوي. قال : نحن في القصر نتعطر كثيرا، ونقف كثيرا، وننام واقفين قليلا، لا نموت إلا بأمر من الطبيب، الأموات عديدة بداخل القصر، لكن لا أحد يقول : أنا ميت. أشار علي ليعرف ما بيدي، لكن تعجلت في الرد قائلا: - لا شيء يقلق، هذا كتاب لأحد السكسونيين، ربما قرأتَ عنه في شبابك، مارتن لوتر، وحججه التي تطل على المائة. - رد علي: مزقه، إنه الثائر السكسوني الراهب من العصور الوسطى، هكذا رد علي بلغة القصر. كان الكتاب، كتاب الجيب، فلم يصعب علي إعادته للجيب. سألته مترددا: كيف هي أسِرَّةُ نومكم؟ ولون طعامكم؟ أجاب: -طبعا حسب نظام القصر، لدينا درجات، كما هو الحال في فنادق هواي.. وسينغافورا. سألته: هل تلتزمون الحذر من شيء داخل القصر؟ - لا ..لا ..كل الأبواب والنوافذ مسيجة ضد الناموس والذباب والزَّرْزور. - تابعت أسئلتي المتمردة: وهل عندكم بداخل القصر حديقة وسخة مثل حديقتنا، وحولها أطفال همل يلعبون عراة، وحيوانات مسعورة مثل قططنا وكلابنا؟ تطلع الى وجهي الشاحب، وهو كله نشاط ونخوة، ليلومني بجوابه قائلا: - تتكلم وكأنك وقعت خطئاً من عالم لم يُكتشف بعد. لا يمكنك مقارنة حديقتكم بحديقتنا، إن أجنتنا تسقى بمياه معدنية، أما حيواناتنا فلا تأكل سوى الأطعمة المعلبة والمستوردة. سألته عن سنه: قال: - مثل نوح.. قلت له بحسرة: -والدي مات شاباً يافعاً، لو عاش في القصر، لما مات في عز شبابه، وكنت أنا مثلك أمشي على الأرض مرحاً، وتنطلق من جواربي رائحة القصر مثلك.