في سياق ثقافي متسم بأزمة تعيشها دور النشر والتوزيع، وعدم قدرة العديد من الكتاب على إصدار مؤلفاتهم، إضافة إلى أزمة القراءة التي يعتبرها المهتمون مستفحلة، لم يجد العديد من الكتاب والأدباء بدا من تغيير الوجهة ميممين شطر الشبكة العنكبوتية التي تفتح لروادها مجالا خصبا يحتضنهم ويبرز أعمالهم، مكرسين بذلك ما بات يعرف بالأدب الرقمي. قضية هجرة الإبداع إلى مواقع التواصل الاجتماعي كانت في صلب ندوة نظمت، في إطار فعاليات الدورة الثامنة عشر للمعرض الدولي للنشر والكتاب بالدار البيضاء، حاول المتدخلون خلالها التعليق على التحولات المتسارعة التي يشهدها العالم، والطفرات التي تعرفها تقنيات الإعلام والاتصال، وتأثيرها على موقع الأدب وأجناسه وهجرة أسماء أدبية عديدة إلى مواقع التواصل الاجتماعي. الباحث سعيد يقطين يعزي هذه الهجرة إلى سببين اثنين رئيسين، أولهما يتمثل في سعي الكتاب، والشباب منهم على الخصوص، إلى تعويض عدم إمكان احتلال مواقع في المنابر التقليدية من قبيل المجلات الأدبية والملاحق الثقافية للصحف والتي لم تعد تضفي على من ينشر فيها كتاباته ذلك الألق المعهود. أما السبب الثاني لهذا الإقبال المكثف على النشر الرقمي للإبداعات الأدبية، فيتمثل، حسب صاحب «النص المترابط ومستقبل الثقافة العربية.. نحو كتابة عربية رقمية»، في القدرة الترويجية الهائلة التي توفرها المنتديات والمدونات وصفحات مواقع التواصل الاجتماعية، بحيث أصبح بالإمكان بلوغ قراء ومتصفحين كان من الصعب الولوج إليهم باستخدام الكتاب الورقي الذي أضحى بمثابة «إكراه» حقيقي للمؤلفين. ويدعو الأستاذ يقطين إلى خلق جيل متشبع بالثقافة الأدبية، ومطلع على التجارب الأدبية المعاصرة ومنفتح على الثقافات العالمية بغية تحصين المشهد الثقافي، مطلقا نداء للأدباء والمثقفين «للتدخل في استثمار الوسائط المعلوماتية وعدم تركها لرجال المال»، وهو التدخل الذي من دونه «لا يمكن أن نلج تجربة إبداعية جديدة». بدورها، تؤكد الروائية والناقدة الأدبية زهور كرام، أن الوسائط المعلوماتية أفادت الأدب بشكل كبير باعتبارها تساعد في تجاوز صعوبة توزيع الكتب الورقية، ونقلها إلى أبعد مدى? كما أن الكاتب الذي كان يتعين أن ينتظر كل مراحل إنتاج كتابه من طبع وتوزيع في انتظار معرفة رد فعل القارئ، قد أصبح بفضل الشبكة العنكبوتية يتفاعل بشكل فوري مع المتصفحين ومعرفة صدى أفكاره لدى الآخر وفق إيقاع سريع جدا. هذا الإيقاع السريع الذي ينضاف إلى إمكانية الولوج إلى آلاف الكتب الإلكترونية في العالم الرقمي يحقق، حسب كرام، وقعا إيجابيا مزدوجا إذ إنه «يولد الأمل لدى الكاتب وينمي رغبته في الإبداع»، ويساهم في «الحد من أزمة القراءة»، علاوة على خدمته لهدف التواصل الحضاري بين الشرق والغرب. الشاعر المغربي محمد عريج، الحاصل مؤخرا على الرتبة الثانية في جائزة البردة التي تنظمها وزارة الثقافة والشباب وتنمية المجتمع الإماراتية، قال في تصريح لوكالة المغرب العربي للأنباء، إن المواقع الإلكترونية التي تعنى بالأدب أصبحت النافذة الأساسية التي يطل منها المبدعون على قرائهم خصوصا الذين تمنعهم ظروفهم من الوصول ورقيا إلى القارئ. ولاحظ عريج، الذي يتوفر على صفحة على موقع فيسبوك، ووجد للتو سبيلا لنشر أول ديوان له بعد فوزه بالمرتبة الثالثة لجائزة الإبداع العربي في دورتها لموسم 2011-2012، أنه بدأت تتكون بعض المجتمعات الصغرى داخل هذه المواقع، مما يساعد في انتشار بعض الأسماء وسط المهتمين، مبرزا في هذا الإطار التفاعل الذي يبديه العديد من أصدقائه ومتتبعيه مع ما ينشره على صفحته على هذا الموقع الإلكتروني، مما يمكنه من «معرفة الانطباعات الأولية للقراء في وقت وجيز». واستعرض الشاعر التونسي صلاح بنعياد، من جانبه، خدمة أخرى تقدمها الوسائط المعلوماتية للأدب في بلاده، تتمثل، كما هو الشأن بالنسبة لموقع فيسبوك، في تحرير الشأن الثقافي من سيطرة «النظام الاستبدادي السابق»، ودحض الصورة التي كان تروج عن مرتاديه من كونهم مجرد «شباب طائش، ذي سراويل منحدرة ورؤوس فارغة». وحسب بنعياد، فإن فيسبوك نجح، على الخصوص، في إعادة الاعتبار للأدب الساخر «الذي أوشك على الانقراض»، وهو ما يبرز من خلال العديد من الصفحات التي أتاحت الفرصة لعدة مواهب ساخرة أن تلمع في تونس، وخاصة خلال أيام الثورة على نظام الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي وبعدها. وأبرز بنعياد الذي يصنف العبارات المقتضبة (استاتو) التي ينشرها عدد من الكتاب والشعراء المعاصرون على جدرانهم بالفيسبوك ضمن ما يسميه «أدب البروفايل»، تجربة كاتب تونسي اختار أن يكتب روايته بطريقة تفاعلية مع أصدقائه/قراءه على صفحته بموقع التواصل الاجتماعي. وتقوم فكرة الرواية على أن يعرض المؤلف على المتصفحين مقاطع يرغب في تضمينها راويته، فإذا حظي المقطع المنشور بإعجاب عدد مهم من المتصفحين احتفظ به، وإلا سيقصيه من النص النهائي لروايته. بدوره، يؤكد الباحث أحمد شراك المزايا العديدة التي حققها الكاتب بهجرته إلى العالم الرقمي، ويشير في هذا السياق إلى التخلص من عنصر الرقابة القبلية التي عادة ما يفرضها الناشر الورقي على الكتب، ودور «المأوى» الذي تجسده المدونات والمنتديات الإلكترونية للأدباء الشباب، قبل أن يخلص إلى أن «الكاتب لا يفقد في شبكات التواصل الاجتماعي إلا شقاءه». وإذا كان الكتاب والأدباء يطلون بأنفسهم على نافذة الفيسبوك ويتفاعلون مع قارئي مؤلفاتهم بشكل مباشر، فإن متصفح هذا الموقع يجد صفحات لكتاب آخرين أنشأها المعجبون بهم الذين ينشرون مقاطع من روائعهم، ويحينونها بشكل يومي أو أسبوعي. ويخلص المتتبع لهذه الصفحات أنها لم تترك عصرا من العصور إلا واهتمت بأدبائه وشعرائه، بدءا بالعصر الجاهلي، ومرورا بالعصر الإسلامي والأموي والعباسي، والعصر الأندلسي، وانتهاء بالعصر الحديث. ولعل عدد المعجبين بهذه الصفحات، والذي يتزايد يوما عن يوم، يبرز إلى أي حد يمكن أن يقتحم الأدب على الأجيال الجديدة الفضاءات التي يرتادونها، ويتيح لهم التعرف إلى شخصيات أدبية رفيعة من قبيل مصطفى صادق الرافعي، ونزار قباني، والطيب صالح، ومحمود درويش، وغيرهم. كما يبرز الفسحة الشاسعة التي تهديها الشبكة الإلكترونية للأدباء الرقميين باعتبارها بحرا يفضي براكبه إلى عوالم لم يكن بالغها إلا بشق الأنفس. ولعله من قبيل الصدفة أن تكون إحدى آخر العبارات المنشورة مؤخرا على صفحة الأديب الراحل عبد الرحمان منيف على الفيسبوك، مجسدة بشكل من الأشكال لوظيفة البحر هذه، وهي تقذف في روع الكتاب الذين ضاقت بهم دور النشر والتوزيع ولم يجدوا سبيلا لنشر كتبهم ورقيا أن «الوطن ليس التراب أو المكان الذي يولد فيه الإنسان، وإنما المكان الذي يستطيع فيه أن يتحرك».