مهما تعددت أساليب الكتابة وتشعبت، فإن الدارسين يصنفونها ضمن اتجاهين كبيرين اتجاه التعبير واتجاه الخلق، ودون الدخول في تفاصيل كلا الاتجاهين وما يجمعهما وما يفرق بينهما، أفضل أن أتحدث في هذه الورقة المتواضعة عن الاتجاه التعبيري الذي قدرت أن رواية الكاتبة حبية الزوكي «غزل الحكي» تنتمي إليه، فالتعبيرية مدرسة أدبية تنتصر للذات وتعتبرها مقياسا للفعل الإبداعي، مما يعني الاهتمام بالعواطف والمشاعر، وتتجلى وظيفة الأدب في هذا الاتجاه في إثارة الانفعالات والعواطف، حتى أن الكتابة تغدو معه فيضا تلقائيا للمشاعر القوية، لذا يعمد الكاتب التعبيري إلى البوح ليؤثر في نفسية القارئ، وذلك من أجل خلق نوع من التواصل الحميمي، الذي يأسر المتلقي عبر العزف على أوتاره الحساسة، وهكذا يميل الكاتب نحو المبالغة في طرح أحاسيسه وانفعالاته، فنجده يجنح نحو التفاؤل أو يغرق في التشاؤم ، ليخلق من العالم من حوله جنة تعبيرية تشد إليها الحالمين واليائسين على حد سواء، وفي تعاطيه مع شخصياته وأفضيته وأساليبه، فيعمد الكاتب مثلا إلى انتقاء عالم الكوارث والأحزان، محاولا إسقاط رؤياه الشخصية على مكونات العمل الأدبي، وقد لمع في هذا النوع من الكتابة الكاتب الفرنسي الشهير فيكتور هيغو خاصة في روايته «البؤساء»، كما كان للأدب العربي نصيب من هذا التألق، ممثلا بكتابات جبران خليل جبران، التي خطت لنفسها طريقا تعبيريا رومانسيا، فأثمرت نصوصا تضج بالعواطف الجياشة، وقد وظفت - في سبيل تحقيق ذلك- لغة نابضة منفعلة و مؤثرة. لا أخفي أنه منذ قراءتي الأولى لرواية «غزل الحكي» لحبيبة الزوكي فرض علي الاتجاه التعبيري نفسه بقوة، وتأكد ذلك في القراءة الثانية، إذأن ملامح هذا التوجه ومكوناته بادية للعيان، فتأثرت بذلك على كل عناصر المتن الروائي، وانعكس على شخوصه وأحداثه وأفضيته وأزمنته، وانسجاما مع هذا التجاه في الكتابة هيمن مكون الحزن بقوة على النص الروائي، حتى أن المرء يستطيع الحديث عن بلاغة الحزن في هذه الرواية. ويصادفنا هذا الملمح ويفرض علينا نفسه انطلاقا من العناوين الداخلية،التي وسمت بها الكاتبة مقاطع الرواية من قبيل مات البطل عاش العلم -أبيض أسود- اغتيال الأحلام- رمادي. افتتحت الكاتبة روايتها بحديثها عن الفضاء الذي سيكون مسرحا لأحداثها وشخوصها، فبرعت في تصويره بحبر الحزن، بما ينسجم مع الاتجاه التعبير في الكتابة الذي اختارته لنفسها، فجعلت منه فضاء يئن تحت وطأة الأحزان تقول الساردة» «مازغان الأم والتاريخ تتمزق.. مازغان شاحبة الوجه وهي ترقب بقلب حزين ما وقع لأبنائها.. عيناها مبللتان تتحسران على حاضر أبنائها». وإذا كان الفضاء بمثل هذا الحزن، فلا يمكن إلا أن تنتقل عدواه إلى باقي المكونات والعناصر، فنجد الحيطان تشعر بثقل الفجيعة، تقول الساردة «فوق الحائط المصاب بالفجيعة» ونقرأ في مكان آخر من الرواية «تلك الحيطان المملوكة بهاجس الموت». هذا الحزن الذي تسيد الفضاء الذي تجري فيه أحداث الرواية طال الزمان كذلك تقول الساردة «في صباح هذا اليوم الشاحب مثل القمر» وفي مكان آخر من الرواية نقرأ «أضحت الأيام جوفاء» كما نجد في ثنايا الرواية تعبيرا من قبيل «تمر الأيام وتتكرر الأحداث حتى الموت». وانسجاما مع هذا الجو الكئيب فضاء وزمانا أصبح العالم المحيط بالشخصيات معبرا عن الآلام التي تعتصره، فالبحر مثلا غدا «محطة الأحزان» والشوارع تبكي ألما وحزنا والأشجار تحتضر. وقد نالت الشخصيات الرئيسية في الرواية نصيبها الأكبر من هذه اللوعة، ليصطلي بنارها كل ما يحيط بالرواية، ف»نور البطل أو الشخصية الرئيسية يعرفنا بنفسه فيقول «أفقي الذي كان نورانيا مرض بمرض الظلمة» وحين تتدخل الساردة لتعمق معرفتنا بشخصيته، ترسخ في أذهاننا إحساسه بالحزن والضياع وفقدان الأمل فتقول «إنه شارد البال أو ربما يعيد شريط حياته الحزينة «يبكي»، وهو رهين عالمه السوداوي تراوده باستمرار فكرة الانتحار، لأن ذاكرته كما تقول الساردة «استضافت أفكارا سوداء عميقة» حتى أن النوارس بدت له حزينة وكئيبة، إنه دائم الشكوى تقول الساردة «وقف وبلل وجهه ماء العينين ..ولا يني ينخرط في «مثل البكاء والأنين بل مثل النحيب» لأنه يشعر بأن «النيران تحرقه فلا يغدو إلا حطاما» وكم مرة نجده يعترف بمأساويته محاولا تبريرها بشتى الوسائل فلنصغ إليه وهو يقول «كيف لا يكون كل شيء في جسدي موقعا على إيقاعات السيد الحزن». وحتى الشخصية المرافقة للبطل والتي من الممكن أن تحد من غلوائه، وترفع من معنوياته وأقصد بها حبيبته كوثر، نجدها تعاني تحت وطأة الحزن والألم، فترفع عقيرتها بالشكوى، ورغم أنها تحتج على سوك البطل قائلة «ما هذا الكلام المصاب بالفجيعة؟» فإنها سرعان ما تستسلم لأجواء الأحزان التي تحيط بها تقول عنها الساردة» أحست بانهيار كل أملها وانتحار كل صمودها، قالت ذلك وهي تتذكر كل انكساراتها، فلم تجد سوى الطبيعة ملجأ لها لتبثها شكواها وهي غالبا ما تتوجه كباقي الشخصيات الحزينة بخطابهاإلى البحر والنوارس والأشجار.. ولعل ذلك من سمات الفارقة للاتجاه الرومانسي التعبيري. إذا كان كل ما تقدم يبرهن على أن الكاتبة قد اتخذت من الحزن حبرا تسطر به بلاغتها ضمن اتجاه تعبيري رومانسي، ينتصر للذات والانفعالات والعواطف،فإن الكاتبة قد عمدت أكثر من مرة للإشارة إلى هذا التوجه تصريحا أوتلميحا في روايتها، ومن ذلك قولها « إن عالم الحرف له دور إكلينيكي في امتصاص الغضب وتدجين اليأس والانهزام، «وهذا مما يشي بتصور محدد، يؤطر رؤيا الكاتبة للفعل الإبداعي عموما، وكل ما أتمناه شخصيا أن تكون. هذه الرواية قد أدت دورها التطهيري للكاتبة وللقارئ معا، حتى يمكنهما أن يلتقيا مستقبلا في عمل روائي لحبيبة الزوكي يسخر من العالم وقبحه وسماجته بدل أن يتفجع عليه.