ورود طنجة في الرواية، أي رواية، يمنحها عبقا خاصا، لأن هذا الاسم اكتسب حصانته منذ عقود طويلة، وبالضبط منذ بدأ عشرات أو مئات الأدباء والفنانين والممثلين والمشاهير زيارة طنجة قبل قرون وحتى نهاية عهدها الدولي، منهم من عبرها ورحل، ومنهم من اختار فيها مقامه وقبره. في تاريخ الأدب العالمي، هناك روايات كثيرة جعلت من طنجة فضاءها الكبير والأوحد. وفي أزقة طنجة الضيقة أو شوارعها الفسيحة، وفي قصورها الفخمة أو منازلها الوضيعة، جرت أحداث كثيرة تتراوح ما بين اللقاءات الحميمية أو المطاردات الجاسوسية أو غيرها من الحبكات الروائية التي لا يعدم الكاتب، أي كاتب، إيجادها في طنجة. كثيرة هي الروايات التي استخدمت اسم طنجة كعلامة أدبية مميزة. وهناك روايات لم يطأ كتابها أرض طنجة يوما، لكنهم استوحوا فضاء هذه المدينة من روايات قرؤوها أو روايات شفهية سمعوها. وهناك روايات استوطن كتابها طنجة لسنوات أو عقود طويلة، مثلما هو الحال مع الكاتب الأمريكي بول بولز، الذي اختار طنجة منفى أبديا له ولرواياته. آخر رواية صدرت وهي تحمل بين صفحاتها اسم وعبق طنجة هي «لقاء في طنجة»، للكاتب الإسباني خوسي لويس بارانكو، وهي رواية تتراوح في سردها ما بين السرد الذاتي وبين ما يشبه أدب الرحلات، وسارت في ذلك على امتداد صفحاتها المائة تقريبا، من الصفحة الأولى وحتى آخر كلمة. «لقاء في طنجة»، رواية وفية لكلمة «لقاء» وكلمة «طنجة». فاللقاء يحدث بين شخصين، وكل شخص لا علاقة له بالمدينة إلا من خلال تلك العلاقة التي طالما لعبتها المدينة، وهي الجمع بين الأضداد والمتناقضات لكونها مدينة تستقبل الجميع على مر الأزمنة. وهكذا كان اللقاء في الرواية بين رجل قادم من الشمال، لكنه شمال قريب، أي إسبانيا، وبين فتاة قادمة من الجنوب، أي من جنوب المغرب، فكان اللقاء في طنجة، وهو لقاء سلك مسلكا واحدا على امتداد فصول الرواية: حب يكاد يكون من طرف واحد، وحتى حين يبدو أنه من طرفين، فهناك دائما ذلك اللاتوازن ما بين العاشق والمعشوق، بين القادم من الشمال الذي يبدو متيما بفتاة قادمة من الجنوب، والتي تمارس دلالها على رجل لا يعرف كيف يعشق، وربما لا يعرف كيف يعيش. هل الرواية امتداد للروايات الغرائبية الإسبانية التي تريد أن تجعل من المغرب فضاء لها حتى تغوي الآخرين (الأوربيين بالخصوص بقراءتها)؟ بارانكو ينفي ذلك قائلا إن روايته لا تمت بصلة لا لأدب الرحلات ولا للأدب الغرائبي، ولا حتى للأدب الذي يريد أن يجعل من الجنس وسيلة للفت النظر. «إنها رواية مكانها مدينة في الجنوب، أي جنوب. وحتى لو كان الاسم هو طنجة فلا علاقة لهذه المدينة في العمق بمجريات الرواية». ويضيف « كان بودي دائما أن أصبح كاتبا منذ أن كان عمري 13 سنة.. كنت كاتبا في ذهني حتى من دون أن أكتب، وروايتي هاته لم تكن فقط نتيجة هذه الرغبة، أي أنني لم أمارس فيها دور الرحالة المندهش أمام فضاء غريب». وربما يكون المؤلف محقا، لأنه يعيش في المغرب منذ حوالي 20 عاما، وهذه المدة لم تترك له هامش اندهاش كبير. كاتب «لقاء في طنجة» لا يجعل المسافة كبيرة بينه وبين الشخصية الروائية. السارد هو نفسه، وربما شخص يشبهه وأعاره صوته، وربما لا هو ولا غيره، وأن الخيال هو سيد المكان والزمان. يلتقي بطل «لقاء في طنجة» في مكان عزلة ليلي مع فتاة تمارس دور فتاة الليل بامتياز وبدون أن يرف لها جفن. إنها فتاة في ريعان الشباب، وجاءت إلى طنجة من مدينة بعيدة حيث تركت أمها المسنة وابنا مريضا، وجعلت من فضاءات طنجة الليلية وسيلة لكي تجمع بعض المال لوليدها وأمها، أو هكذا تقول. أما الرجل القادم من الشمال (إسبانيا)، فإنه جاء إلى طنجة بعد خيبات حياتية متتالية في بلده، وعاش فيها ما يشبه تلك الظروف التي عاشها من سبقوه، أي مزيجا من الصعلكة واليتم والضياع، حيث إنه في كل واد يهيم وعلى كل بر دافئ يحط. منذ اللحظة الأولى لهذا اللقاء «الغرامي»، أو هكذا يبدو، يظهر أن هناك لاتوازنا مفجعا بين الطرفين. الرجل يحب مومسا تنام كل ليلة في حضن رجل جديد، والفتاة تجعل منه بقرة حلوبا وتبتز منه المزيد من المال، وحين تقضي وطرها تركب القطار وترحل بعيدا نحو مدينتها، ثم تعود مجددا بمطالب جديدة، وأحيانا بعشاق جدد ومنهم من تلتقيه في قطار العودة نحو طنجة. في كل مراحل الرواية يزعم «البطل»، أنه يعرف كل شيء... يعرف أن الفتاة لا تحبه وأنها تكذب عليه.. وأنها تتركه وحيدا كي تسرع نحو رجال آخرين. هو يعترف أيضا أنه يفعل كل شيء من أجل إرضائها، بما في ذلك اقتراض المال من غيره لكي يدفع لها، وهي تأخذ بلا حساب وتجعل منه طفلا غرا تأمره وتنهاه، إلى درجة أصبح معها يحس وكأنه مسلوب الإرادة أمامها كما لو أنه «مجنون ليلى». لا تأخذ رواية «لقاء في طنجة» مسارا حكائيا متعددا. إنه صوت واحد لشخصية واحدة حول شخصية واحدة أيضا. أي أن المسار السردي أحادي وذو وجهة واحدة، وعندما يتذبذب فإنه يفعل ذلك في الاتجاه نفسه، وهذا يمكن اعتباره نقطة ضعف بقدر ما يمكن اعتباره نقطة قوة. فالقارئ العادي لا يحتاج إلى أحداث متكاثفة وشخصيات روائية كثيرة تضعف تركيزه، لكن القارئ النشيط قد يصيبه ذلك ببعض الملل والرتابة، رغم أن الرواية تريد أن تبحث لنفسها عن جديد سردي في كل صفحة. تجري الأحداث في هذه الرواية كما تجري أحداث «الكوريدا» في حلبة الثيران. ثور واحد، وهو الضحية دائما، ومصارع واحد، وهو المنتصر دائما.. تقريبا، وهناك وجوه هامشية لمساعدي المصارع أو من المتفرجين. وفي النهاية فإن النتيجة معروفة سلفا. مثل هذه القصص لا تنتهي أبدا نهايات سعيدة. الثور يتم توزيع لحمه في المجازر. والمصارع، إن خرج سليما، فإنه يدخل حلبة صراع أخرى، والوجوه الهامشية تنتظر دورها الهامشي في كوريدا ثانية. لكن المشكلة الأساسية في هذه الرواية هي أن شخصياتها لا تعرف مصيرها. لا أحد يعرف هل هو الثور الضحية أم المصارع المنتصر دائما.. تقريبا.