رغم تعاقب الأزمان مازالت قضية التنوير بعامة في المجتمع العربي تطرح مهمات ملحة ومستمرة، عاكسة الحاجة لها رغم تسابق الفترات وتخالف الأزمات. وتنوير العقل العربي مهمة مطروحة من زمان، وموضوع مثار بين أروقة الكتاب أو مناقشات الأرباب. ومن بين دلالات ذلك كتاب الدكتور رفعت السعيد الموسوم «مصر.. التنوير عبر ثقب إبرة» الصادر عام 2000 في طبعتين، بمصر، واحدة عن دار نشر خاصة وأخرى عن منشورات شعبية عامة، وقراءته لستة مثقفين عرب افنوا حياتهم في سبيل تنوير العقل العربي وقدموا ما استطاعوا إليه من طاقات لتغيير الواقع وتجديد الفكر وتطوير الثقافة وتحريك القدرات وبناء المجالات. أشار المؤلف إلى محنة دعاة التنوير في بيانه النقدي، المقدمة، لبقائهم دوما (تحت ضغوط من حكام لا يتركون لهم سوى هامش رمزي للقول والفعل. هامش محسوب، محدد، محدود يكون وجوده رمزاً للادعاء بأن التنوير قائم، والليبرالية مستقرة، ومن متأسلمين يزعمون ويفرضون أنهم وما يقولون، القول الفصل فيما هو واجب، وما هو مقرر من السماء). ومحنة العقل العربي تظل بين فكي الرحى، أو ساعية قدر استطاعتها التعبير والإشهار بالرأي من ثقب إبرة، محسوبة ومرصودة، طريقها محدودة، وعوالمها مشدودة. ولكن هذه مهمة الداعية والمستنير والمثقف العضوي الذي يعمل لدنياه كأنه عائش أبدا ولآخرته كأنه ميت غداً. وإلا فما نفع أخي الدنيا بناظره إذا استوت عنده الأنوار بالظلم، كما قال أبو الطيب المتنبي. قال شبلي شميل: (الحقيقة ان تقال لا ان تعلم) وهذا القول مقياس عمل التنوير، فعليا كما يراه السعيد، وهو حق يراد به ارتباط حامله بواقعه ومجتمعه، ليأخذ دوره في تنوير العقل وتغيير النقل. فيعرف: (التنويري هو ذلك الذي يقول.. أو يحاول، يفعل أو يحاول، يتحدى طاغوت الظلم، وطغيان الظلامية أو يحاول.. يفعل، يقول، يفعل»... يحتمل.. ليس لأنه مندفع أو متهور وإنما لأنه يراهن على المستقبل. والفارق هنا ليس في شجاعة متوافرة أو مفتقدة، وإنما في قدر المحبة التي يحتفظ بها المثقف سواء لوطنه أو شعبه أو فكرته). قرأ الدكتور رفعت في كتابه هذا رفاعة الطهطاوي، فرح انطون، رفيق جبور، سلامة موسى، عبد الرحمن الرافعي، ومحمود أمين العالم. وما يميز الكتاب هو هذا التنوع المفيد في القراءة التاريخية لإعلام التنوير في مصر، من بلدان عربية أخرى، رفدوا مصر والثقافة العربية من طاقاتهم وقدراتهم الكثير الذي وضع مادة هذا الكتاب وكتب ودراسات عديدة أخرى. وكأن السعيد في قراءته هذه، ليست التاريخية وحسب، وإنما الهادفة إلى تعميق المعنى المنشود من توسيع قدر العنوان لمؤلفه، يتابع في فصوله اثر الزمان في تغير الحال وانبساط المآل، فمنذ استهلاله بالطهطاوي، شيخ الأجيال، وابن زمانه ومصر إبان نهضة محمد علي وخططه الكبيرة، شرح كيف لم يتخلص الثائر المجدد من الشيخ التقليدي الموظف لدى الحكومة، (فمصر التي عاشها رفاعة في أوج توهجه كانت مصر النموذج الذي بناه محمد علي في قمة صعوده.. التصنيع.. والتعليم.. وبناء الجيش.. وبناء الدولة الحديثة، مصر المشاريع العملاقة التي تلامست مع مساحة كبيرة من المصريين. في عام 1839 أصبح تعداد الجيش المصري 277,166 جنديا وبحارا. وفي عام 1837 كان عدد المصانع 29 مصنعا عدد عمالها 30,000 عامل). وغيرها من الوقائع والأرقام التي كانت تعطي لمسيرة التنوير ممكناتها وتوظف طاقاتها في مناحي الواقع والمجتمع، ورغم ذلك لم يتمكن رفاعة من خرق الحدود وتحاشي غضب الحاكم وغضب عصابة ازهره. ومن أفكاره التي نقلها المؤلف: (التعليم يجب ان يكون عاما لجميع الناس يتمتع به الأغنياء والفقراء على السواء، فهو ضروري لسائر الناس يحتاج إليه كل إنسان احتياجه إلى الخبز والماء). ومواقفه عن المرأة مشهود له فيها جرأته وعلو نظرته، مدافعا عن حقها في التعليم والعمل والاختيار، وعن الحرية قال: (هي الوسيلة العظمى في إسعاد أهالي الممالك، فإذا كانت مبنية على قوانين حسنة عدلية كانت واسطة عظمى في راحة الأهالي، وإسعادهم في بلادهم).. (والحرية قرينة المساواة فكلاهما ملازم العدل والإحسان). أما فرح انطون، الكاتب الصحفي، اللبناني الذي انتقل إلى مصر ليبدأ سبيله ويؤدي دوره من أرضها لاعتقاده أنها هي المركز لدائرة العالم العربي، «ومنه تنتشر الخدمة الوطنية الأدبية انتشار الأشعة إلى جميع الجهات». فقد أدار الحوارات وأسس لمنابر السجال في أكثر من مطبوع، وسجل انبهاراته بفكر ابن رشد والاشتراكية وحقوق الإنسان، حيث نشر ترجمة وثيقة حقوق الإنسان الفرنسية مؤكدا.. «حقوق الإنسان لا يجوز ان يدوسها إنسان». كما خاض معارك من اجل مجانية التعليم والزاميته، مؤكدا ضرورة التعليم لنهضة الوطن ونشر المعرفة والفضيلة، ومدافعا عن حقوق المرأة وحريتها، والعمال وحقوقهم ومطالبهم العادلة. وعندما اشتعلت نيران ثورة أكتوبر/ تشرين الأول بقيادة البلاشفة الروس دافع عنها دفاعا صريحا وصادقا، على صفحات صحيفته «الأهالي» التي حولها إلى منبر اشتراكي حتى وفاته. وأنتقل المؤلف إلى مثقف لبناني آخر أسهم في بناء منظمات الحركة الشيوعية في مصر، بعد ان ترك عمله الدبلوماسي متفرغا إلى الصحافة ونشر الفكر الاشتراكي، إلا وهو رفيق حبيب جبور، الذي سجلت له مدونات التاريخ المصري صفحات ناصعة في النضال من اجل تنوير العقل وبناء الوطن، وقد تآمرت على حياته المخابرات البريطانية للتخلص منه، كما روى ابنه، وهو الذي ولد في زحلة اللبنانية وناضل في القاهرة المصرية ودفن في يافا الفلسطينية. ثم سطر السعيد صفحات عن أول الموسوعيين المصريين وآخرهم، الكاتب والمربي سلامة موسى، الذي كان مثقفا موسوعيا اشتراكيا فرعونيا بكل ما أنجزه من مشاريع ثقافية في بحار المعرفة الإنسانية وفي خدمة ساحة الوطن، والعقل المصري. أصدر أول كتاب له عام 1910 وكان في الثالثة والعشرين من عمره، ردد فيه مزيجا مثيرا للدهشة من أفكار نيتشه وماركس. ووقع على بيان تأسيس الحزب الاشتراكي المصري عام 1921، وهو أول من اشتق لفظ «الثقافة» من الجذر اللغوي «ثقف» وعرف به في اللغة العربية. وتوزعت اهتماماته بين الفكر والسياسة والصحافة والأدب والعمل العام. وحياة عبد الرحمن الرافعي مثيرة في نموذجيتها السياسية الوطنية المصرية، وصراعاتها في سبيل مصر والتنوير فيها. وهو القائل: «فهمت الوطنية على أنها إخلاص للوطن، وسعي متواصل لتحقيق أهدافه، واستمساك بحقوقه، وتغليب لمصالحه العليا على مصالح الإنسان الشخصية...». ووجد السعيد في حياة الرافعي العملية نموذجا للمثقف السياسي الذي يعمل أيضا داخل ثقب الإبرة هذا، رغم أشواك طريقه. وعن المفكر محمود أمين العالم ختم المؤلف رجال التنوير في مصر، قبل خاتمته التي رآها مازالت البداية. ووصف العالم بالمفكر الذي ناضل داخل غابة السياسة. فهو فيلسوف وأديب وسياسي. اعتنق الماركسية بقناعة المفكر، ولم ينظر لها باعتبارها وافدة. «والماركسية ليست فكرا دخيلا علينا، أو مجرد زي عصري مستورد للتباهي أو المزايدة الثورية، أنها في الحقيقة امتداد خلاق لأشرف ما في تراثنا العربي الإسلامي من قيم علمية تجد إرهاصاتها الفكرية الأولى عند ابن خلدون وابن القيم وجابر ابن حيان وابن رشد وعشرات غيرهم، كما تجد إرهاصاتها الأولى في كثير من الحركات التقدمية الجماهيرية في تاريخ امتنا العربية، والماركسية كذلك هي خلاصة فكرية لنضال البشرية كلها من اجل الحرية والرخاء والسعادة»، كما كتب عنها. وفي صراع محمود أمين العالم السياسي نموذج آخر للسياسة الوطنية في مصر، في مثالياتها وتحولاتها ودفاعها عن العقل المصري، والثقافة العربية، وتطورها بمشاركة واضحة للمفكر العالم فيها من خلال نشاطه الواسع في مختلف مجالاتها. وخاض المفكر العالم في مسائل الفلسفة والأدب من محرابه الماركسي، متشبثا بالصدفة التي ساقته إليه، ومنطلقا منها إلى عوالم جديدة بتفسيرات فلسفية مستمدة من تحولات حياته وفكره وعمق نظرته إلى الحياة التي يعيش، باحثا في صياغات متوازنة، كما يسميها السعيد، خاصة في فترة صراع الشيوعيين مع صعود نجم جمال عبد الناصر وتيار القومية العربية. وفي خضم هذا الواقع الجديد، كتب العالم بالتعاون مع رفيقه عبد العظيم أنيس موقفا متوازنا، بتكليف من قيادة الحزب الشيوعي، مؤكدا: ان القومية العربية هي حصيلة تاريخ مشترك لجماعة من الناس عاشوا وتآلفوا وناضلوا معا مئات السنين. والقومية العربية لها لغتها الواحدة التي تحمل تراثها وخلاصة خبراتها التاريخية. والقومية العربية تشترك في رقعة واحدة من الأرض مهما اختلفت وتعددت مظاهرها الجغرافية. والقومية العربية لا تشترك في حياة اقتصادية واحدة، لكن هذه المشكلة ليست عائقا أمام وجود القومية العربية لأنه من الواضح ان هذه الحقيقة مرتبطة تماما بان دولا استعمارية سيطرت على مقدرات وإمكانيات وثروات أجزاء من الوطن العربي... ولقد كانت السوق العربية المشتركة موجودة في الماضي قبل الاحتلال الغربي بشكل أو بآخر.... وأكدا الموقف الفكري: ان القومية العربية في جوهرها حركة شعبية نضالية معادية للاستعمار. فالاستعمار هو الذي أقام الحدود والحواجز في وجه هذه القومية... وهي بالضرورة حركة تقدمية من الناحية الاجتماعية. ورغم كل ذلك أنغمر العالم في طريق السياسة المملوء بالأشواك أكثر من الورود، وحين الصدام بالقضية الأساسية، الديمقراطية، دخل من اجلها أبواب السجن سنوات والمنفى سنوات والخلافات الداخلية سنوات اخرى، ولكنها كلها أعطته خبرات جديدة مواصلا شباب الفيلسوف في تجربة الثورة المتجددة والفعل الثوري المتجدد، كما سجل المؤلف. تساءل الدكتور رفعت السعيد في أوراقه الأخيرة: والآن هل يمكن، بل هل نتجاسر؟، وأتصور ان هذا هو المحور الرئيس في الكتاب، فبعد التعريف بتجارب متعددة من صفحات التاريخ خاصة، والحاضر بشكل ملح، ما هو المطلوب راهنا؟ ماهي المهمة والمسؤولية؟ وأين ضوء الطريق؟ لماذا تأخرنا؟ والى متى نبقى بهذه الحال؟ هذه الأسئلة وأجوبتها قدمها المؤرخ والباحث والمفكر السياسي السعيد في إلقاء حجره في بحيرة الواقع العربي الراكدة. وأنطلق من محنة حزيران 1967 وما تطلبت من فتح العقول لمعرفة الطريق، والمستقبل. ووجد في مقال منشور ضوء، لا يمنعه من إعادة فقرات منه بعد تعريفه للكاتب بازهري ليبرالي النزعة هو الشيخ محمود الشرقاوي، ورآه مقالا حادا كمشرط جراح عنوانه «محنة الفكر التقدمي في مصر» تحدث فيه عن كتب - هي الأكثر مبيعا في سوق الكتاب المصري وربما العربي وعلى مدى سنوات طويلة - وهي كتب تشكل بعضا مهما من المناخ الفكري والعقلي - أو بالدقة اللاعقلي - الذي يهيمن علينا وينتج الكثير مما نقول أو نفعل أو نفكر. وقرأ لنا محمود الشرقاوي من هذه الكتب قائلا: (أي شقاء فكري وروحي يجده دعاة التقدمية الفكرية في عالمنا العربي عندما يرون في بعض الكتب التي يطالعها الناس ويتناقلون ما فيها إن (نوحا) عليه السلام بنى سفينته من عظام حيوان يبلغ طوله مسافة ما بين السماء والأرض، ويبلغ عرضه مسيرة عام كامل. وأي شقاء للروح والعقل أكثر من ان يقرأ دعاة التقدمية في الفكر الديني ما يقرأه الناس في عالمنا العربي كله فيجدون في كتاب من كتب تفسير القرآن الكريم حديثا منسوبا لحذيفه مرفوعا للنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «ان ياجوج وماجوج امة، وكل امة أربعمائة امة، لا يموت الرجل منهم حتى ينظر إلى ألف ذكر من صلبه كلهم قد حمل السلاح وهم من ولد آدم(...). ومضى الشيخ الشرقاوي متسائلا: وأي تعاسة يحسها دعاة التقدمية في الفكر الديني وفي الحياة اكبر من ان يجد القراء العرب في أيديهم وفي وفرة كاسحة كتبا تقول عن «الشيخ» ان نعليه تطيران وتضربان رأس الفاسق حتى يتلف.. وان تابع الشيخ يمشي على الهواء والشمس تسلم عليه، و(...) ثم أختتم الشيخ الشرقاوي قائلا: ان هؤلاء الذين يقرأون هذا اللون من الثقافة ويحرصون عليه سيقوم في عقولهم منه سد منيع يحول بينهم وبين الفكر التقدمي.. سيكون من هؤلاء القوم جيش الظلام الذي يطمس ضوء الفكر التقدمي). وأضاف المؤلف ان هذه الكتب مازالت تصدر بكثرة وبدعم لأسعارها مما يثير الريبة في نسج خيوط جيش الظلام الذي يحول دون التطلع نحو المستقبل. وعلق أيضا على الأسلوب اللولبي، الذي نعت به الطهطاوي، وامتد حتى الوقت الراهن، أسلوب التبرير وإبعاد عمل العقل والدوران حول الشيء دون نقده وتفكيكه وتخطي حواجز الخرافة والأسطورة، وعدم فحصها وإطلاق الحرية والعقل مقابلها. وفي الختام دعا إلى المحاولة للاندفاع بالعقل نحو آفاق رحبة لا يقيده فيها سوى العقل نفسه. فهل هذا تجاسر؟ جدد الدكتور رفعت السعيد في كتابه هذا الحاجة الماسة إلى النظر في معوقات ومنطلقات النهوض الحضاري واحترام العقل العربي، والبحث في أسباب عرقلة الحداثة العربية الأولى، وتقوقع الفكر والثقافة العربية في مواقع بعيدة عن العصر والزمان بمراحل تثير الحيرة والاستفهام المقلق، خاصة وان مقوماتها وحوافزها وطاقاتها متوفرة وكامنة. فالقضايا التي كافح هؤلاء القوم في سبيلها متنوعة وعديدة، وكلها حيوية تصب في صميم نهضة الأمة وتقدم شعوبها وما زالت الشغل الشاغل للجماعة العربية، التي لابد ان تتواصل كيما تحقق المنشود منها. ان قضايا التعليم، العمل والتصنيع، الديمقراطية والمشاركة الشعبية في الحكم، احترام العلم والعقل والرأي الآخر هي قضايا مهمة وملحة ومازالت تبحث عن موقعها الفعلي والفاعل في المجتمع العربي، ويظل السؤال المهم بعد كل ما حصل ويحصل للعقل العربي، أين دور المثقف؟ أين دور القوى الفاعلة في المجتمع والتغيير؟ وأين طلائع التنوير حتى ولو عبر ثقب إبرة، فطريق التغيير لا يتم ولا يؤثر دون تنوير العقل وتثوير النقل وتفجير الإبداع والابتكار والتنافس مع الآخر والتطلع إلى عالم إنساني أكثر حضارة وعدلا واكبر اتساعا وأملا في تقدم الإنسان.