يشكل قانون 2011/11/13 في محاصرة تمويل الجمعيات الأهلية في إسرائيل خطوة جديدة نحو اليمين ونحو سياسات أكثر عنصرية... علماً أنه لن يكون القانون الأخير. في الثالث عشر من الشهر الجاري، أصدرت حكومة بنيامين نتنياهو قراراً هدفه، كما وصفته الصحافة الإسرائيلية الأكثر حيادية، محاصرة الجمعيات الأهلية في إسرائيل، المعارضة لسياسات الحكومة، والمحسوبة بشكل رئيسي على ما يسمى باليسار الإسرائيلي. نص القانون على تقنين حق هذه الجمعيات في الاستفادة من المساعدات التي تأتيها من حكومات ومؤسسات رسمية أجنبية، بحيث لا تزيد المساعدة السنوية للجمعية الواحدة، عن عشرين ألف شيكل، (الدولار 3,2 شيكل). علما أن الجمعيات الدينية الإسرائيلية تتلقى مساعدات من جمعيات يهودية وممولين يهود، دون أن تحسب على أنها مساعدات من جهات رسمية أجنبية، الأمر الذي يعني أن باب المساعدات لهذه الجمعيات الدينية سوف يكون مفتوحاً على مصراعيه مقابل الحصار الذي سيفرضه القانون على المؤسسات الأهلية المدرجة في لائحة المؤسسات المعارضة للسياسة الحكومية. وللتوضيح فإن القانون يطال، على سبيل المثال، حركة «السلام الآن» وهي الحركة المعروفة في إسرائيل بدعوتها للانسحاب من الضفة الفلسطينية وباقي المناطق المحتلة، والتي تكشف دورياً، المشاريع الاستيطانية الإسرائيلية وتصدر تقاريرها الدورية حول التوسع الاستيطاني، إن في المستوطنات القائمة أو في مناطق جديدة. كما يطال القانون مؤسسة «بيتسيلم» وهي مؤسسة إسرائيلية مختلطة تضم يهوداً وفلسطينيين، تكشف الانتهاكات الإسرائيلية لحقوق الإنسان، خاصة تلك الانتهاكات التي تمارس على يد قوات الاحتلال في المناطق الفلسطينية المحتلة. ووفقاً لهذين المثالين، يمكن الجزم بأن القانون هدفه خنق أصوات إسرائيلية ذات نزعة ديمقراطية، لصالح الإبقاء على الأصوات الإسرائيلية ذات التوجهات اليمينية والعنصرية والمعادية بشكل جذري للديمقراطية، والمنسجمة سياستها مع برامج الليكود، وإسرائيل بيتنا بزعامة وزير الخارجية أفيغدور ليبرمان. **** لا يمكن الفصل بين التطور الإسرائيلي الأخير، وبين انزياح إسرائيل أكثر فأكثر نحو اليمين المتطرف، وبين سيادة أفكار هذا اليمين وهيمنتها على المؤسسة الرسمية. كما لا يمكن الفصل بين هذا التطور وبين الموقف الإسرائيلي من العملية التفاوضية، وبالتالي انعكاس هذا التطور على مجمل العملية التفاوضية. ففي العام 1992 (على سبيل المثال)، قدم إلى الكنيست مشروع قانون يمنع تسجيل أي حزب في إسرائيل ينكر وجود إسرائيل كدولة «يهودية ديمقراطية» أو يحرض على العنصرية، أو يتستر على نشاطات غير مشروعة. وكان واضحاً أن هذا القانون يطال الأحزاب العربية، (في بند «يهودية إسرائيل» وفي بند «نشاطات غير مشروعة» كدعم حركة الشعب الفلسطيني في المناطق المحتلة). كما يطال الأحزاب الدينية التي لا تعترف بإسرائيل وتعتقد أن قيامها على يد الحركة الصهيونية يعتبر تدخلاً فظاً للإنسان في الإرادة الربانية. كذلك يطال هذه الأحزاب، خاصة الشرقية منها، في حال اشتكت من الامتيازات التي تعطى لليهود الغربيين على حساب اليهود الشرقيين، ويهود الإتحاد السوفييتي السابق ويهود الفلاشا. وفي 2009/12/9 قدم إلى الكنيست مشروع قانون يمنح البلديات والتجمعات السكانية في إسرائيل الحق في السماح لمن تشاء بالسكن في مناطقها، والاعتراض على من تشاء. وقد قدم هذا المشروع بعد أن اشتكى اليهود الغربيون من «جيرانهم» الشرقيين الذين يوصفون بالمتخلفين والقذرين. وفي 16/3/2010 قدم إلى الكنيست مشروع قانون يقضي بتغريم المؤسسات والمنظمات المساهمة في إحياء ذكرى النكبة الفلسطينية. ونعتقد أن أهداف هذا المشروع لا تحتاج لشرح. وفي 2010/5/26 قدم إلى الكنيست مشروع قانون بإلغاء مواطنة من يقوم بأعمال إرهابية وتجسس. والربط بين الحق بالمواطنة والولاء للدولة باعتبارها دولة «يهودية ديمقراطية». اللافت للنظر أن هذا القانون اقترح رداً على تحركات الفلسطينيين داخل إسرائيل مع يهود آخرين لصالح فك الحصار عن القطاع. كما اقترح في سياق اتهام بعض النواب الفلسطينيين في الكنيست أنهم جواسيس للدول العربية المجاورة بسبب مواقفهم التي تدين العدوان الإسرائيلي على المناطق الفلسطينية المحتلة وعلى لبنان. ويمكن أن نسرد دفعة أخرى من القوانين أو مشاريع القوانين في مقدمها «قانون العودة» الذي يعطي الحق لأي يهودي في العالم، أن «يعود» إلى إسرائيل وأن ينال، فور أن تطأ قدماه أرض المطار، الجنسية الإسرائيلية. **** مثل هذه القوانين أثارت وتثير في إسرائيل عواصف من الاحتجاجات الحادة. تشترك فيها فئات عدة تنتمي إلى إتجاهات سياسية مختلفة في إسرائيل. في مقدمة المحتجين الفلسطينيون من حملة الجنسية الإسرائيلية حيث بات واضحاً أن معظم هذه القوانين إن لم يكن كلها يستهدف محاصرتهم وفرض سياسة التمييز العنصري ضدهم. ولا تخفي إسرائيل رأيها في هؤلاء، بحيث اعتبرهم مؤتمر هرتسيليا في العام 2001 خطراً داخلياً على أمن إسرائيل كما اعتبرهم قنبلة ديمغرافية مرشحة للانفجار قريباً، فضلاً عن كونهم «طابوراً خامساً» للدول العربية والمقاومتين الفلسطينية واللبنانية. يأتي بعد ذلك اليهود المتدينون، الذين لا يحسبون في عداد اليهود الصهاينة، بل ينظر إليهم باعتبارهم متشددين، من شأن آرائهم إن هي سادت، أن تغير وجه إسرائيل، كذلك اعتبرهم مؤتمر هرتسيليا المذكور آنفاً، خطراً على إسرائيل، وعلى ذات السوية للفلسطينيين الإسرائيليين، ولا يحتسبون في عداد الميزان الديمغرافي للبلاد. بل يشكلون عنصر استهلاك لأموال الدولة دون أن يقدموا لها ما يعوض خدماتها لهم. هؤلاء يعتبرون أيضا أن القوانين المذكورة أعلاه تطالهم وتستهدفهم. الأمر الذي يعني انقساماً بين اليهود له طابعه السياسي والثقافي والاجتماعي الحاد، ما يؤكد في السباق زيف الإدعائات الصهيونية بأن اليهود يشكلون أمة وقومية. ويقف في صف المعترضين على هذه القوانين العلمانيون في إسرائيل، والداعون إلى فصل الدين عن السياسة، ويرون في هذه القوانين أرضية لتعزيز نفوذ القوى والأحزاب الدينية. ويستندون في موقفهم هذا إلى تعاظم قوة الأحزاب الدينية (شاس) والأحزاب التي تربط بين الدولة واليهودية، كإسرائيل بيتنا والليكود وغيرهم. ويعترض على بعض هذه القوانين أخيراً، وليس آخراً، اليهود المواطنون في دول أخرى. فالحديث عن إسرائيل «دولة يهودية»، وعن «الأمة اليهودية» وعن «القومية اليهودية» يرى فيه هؤلاء طعنا من قبل إسرائيل بمدى وفائهم لمواطنيتهم الأصلية ولبلادهم وللشعوب التي ينتمون إليها. كما توفر هذه التعريفات والقوانين فرصة للكثيرين ليشكوا في مدى إخلاص اليهودي (غير الإسرائيلي) لوطنه وشعبه وأمته (كاليهودي الفرنسي مثلاً) وليتهموا اليهود بالولاء المزدوج، وبتغليب الانتماء إلى اليهودية (أي الولاء لإسرائيل دولة اليهود) على الولاء لبلادهم وحكوماتهم الأصلية. وهو ما يعزز في السياق ما يسمى بنزعات اللاسامية، أي معاداة اليهود، بسبب اشكالية موقعهم، كما تثيره سياسة إسرائيل وقوانينها. لذلك اعتبر بعض هؤلاء اليهود من غير الإسرائيليين إن إسرائيل تشكل في الواقع العدو الرئيس لهم لما تلحقها سياستها من ضرر بمصالحهم. أخيرا لابد من القول إن قانون 2011/11/13 لن يكون الأخير في إنزياح إسرائيل نحو اليمين، ونحو المزيد من العنصرية والنزعة العدوانية، المتأصلة، أساساً في بنيتها الفكرية.