كان للمكان أثره في دواخلي وعلى الذاكرة دائماً، ومن هنا كان انصبابي في الصورة الفوتوغرافية على المكان وخصوصاً الأبنية التراثية، وكانت المعارض الفوتوغرافية التي شاركت بها تعتمد على ذاكرة المكان وروح الإنسان التي تركها عبر الزمان والتاريخ في ثنايا المكان، ولعل هذا ما دفعني لعشق اللوحات المرتبطة بالمكان كثيراً، حتى أنني غادرت رام الله إلى مدينة الزرقاء في الأردن لحضور معرض عن المكان. وحين أتيح لي أن أرى لوحة بعنوان (مجموعة إنسان) للفنانة ريما الزعبي، شدتني بقوة، ففي اللوحة تمازج المكان التراثي مع الإنسان، ذاكرة المكان التي تروي حكاية الإنسان، فاللوحة اعتمدت مشهدا حيّا تراثيا، واستخدمت فيها الأسلوب التكعيبي في بناء المشهد العام، وتمازجت فيها الأبنية مع الوجوه، فأصبح الوجه البشري وكأنه بوابات العبور ونوافذه، ووجوه تروي الحكاية، ولا تكف عن الهمس بلغة العيون، أو ما يمكن أن نسمعه من همسات الأجداد في المكان. اللوحة لم تغفل الأدراج، وهي عادة مرتبطة بالأمكنة التراثية، فنجد الدرج على يمين ويسار اللوحة، وكأنهما يشيران للامتداد القادم والتواصل بين الماضي والحاضر والمستقبل، وفي أسفل منتصف اللوحة نجد سلماً برمزية واضحة لفكرة المستقبل، فهو يصعد حتى يصل إلى بوابة صغيرة، لونها يمزج الأخضر مع الألوان المحيطة به وخصوصاً القاعدة التي تمزج الوردي مع الأبيض في إشارة واضحة للمستقبل. الأخضر من خلال أشجار النخيل لم يفارق اللوحة، فكان النخيل أفق اللوحة، وجميعنا يدرك قدسية هذه الشجرة في التاريخ العربي والإسلامي، أما ألوان اللوحة فتناسبت بمزجها ونسيجها مع الموضوع المطروق في اللوحة، فكانت تدرجات اللون البني وهي المرتبطة بألوان الأرض هي الغالبة، بينما كان أفق اللوحة حيث السماء يمزج اللون الأزرق الداكن مع الأزرق الفاتح، ونرى في يسار أعلى اللوحة بالنسبة إلى المشاهد، أن اللون الأزرق في السماء كان يأخذ لوناً أقل بدكنته من باقي السماء، بحيث ظهر وكأنه نافذة الحلم بالأجمل في المستقبل، وهنا لا بد من الانتباه لنقطتين؛ الأولى: أن هذه المساحة جاءت فوق وجهين لامرأتين امتزجتا بشكلهما العام والألوان من خلال اللوحة وكأنهما بناءان في المنطقة، والثانية: أنه خلف الوجوه عدة أشجار نخيل أخذت طابع التواصل التراتبي بالحجم من الأصغر في اليسار حتى الأكبر، فهل قصدت الفنانة بهذه الرمزية أن أمل المستقبل قائم على ثلاثة ركائز؛ تراثنا الذي يجب أن نحافظ عليه، والمرأة التي تنجب الأجيال القادمة، والأرض من خلال الزراعة والاعتماد على الذات؟ في هذه اللوحة نجد أن بؤرة اللوحة ترتكز على وجه لامرأة غاضبة يمتزج مع البناء وهي تفتح شفتيها وكأنها تصرخ بقوة، وفي أعلى منتصف اللوحة نجد دائرة بإطار عريض يمتزج لونه مع ألوان اللوحة والأبنية، وفي أسفل الإطار وجه لامرأة يظهر منه عيون واسعة، فهل كانت هذه الدائرة عند الفنانة هي طاقة الأمل للغد القادم؟ كمعظم اللوحات التي شاهدتها للفنانة فقد كان الأسلوب الحلزوني المعتمِد على بؤرة في قلب اللوحة هو أسلوبها الفني، وهذا الأسلوب يتميز بقدرته على شد المشاهد إلى وسط اللوحة وقلبها، ثم ينتقل كموجات الدوامة المائية للأطراف، فتصله الفكرة من خلال توسع الدوائر حتى الوصول إلى دائرة معينة تترك سؤالاً في روح المشاهد: وماذا بعد؟ ومن هنا نستطيع أن نقول إن اللوحة تحمل في ثناياها رسائل وأفكاراً عبرت عنها ريشة الفنانة باللون، واعتمدت الرمزية كثيراً في اللوحة، لكن الرمزية الواضحة وليست المشوشة، فكانت رمزيتها باللون وتدريجاته، والوجوه وامتزاجها مع البناء من ناحية والتعبير فيها، وحجم العيون وسِعتها، والنخيل، والأدراج، واستخدام الألوان الحارة والباردة، إضافة إلى التركيز على المرأة، كلها رموز ذات دلالات ومعاني، تجسد لدى المشاهد الفكرة التي حملها العنوان للوحة «مجموعة إنسان»، فكانت المجموعة تروي حكاية الإنسان مع المكان عبر الزمان، من خلال اللون وإبداع الريشة، وروح متألقة لفنانة أجزم القول إنها فنانة متألقة.