تتعاقب الفصول وتتهاوى اللحظات ليرحل آب فاسحا المجال لعمري العتيق، وليالي ذلك الصيف، وصوت أطفال الحي الحزين، لنلثم القهوة بكفوف أحلامنا ولاشيء على ما يرام، هذا ما أقوله لنفسي عندما تتشابك أصابعي مع عقارب الوقت وتحاصرني صناديق الذكرى لحظة لحظة، لتشاركني الحنين. ولم نلتق ولن نلتقي بتعثري، بسيرتي الأولى، صناديق أقسمتْ أن تسبح في فلك العتمة وقمصان قصائد لم تستطع الاستلقاء على عيون البوح وتستريح على مقاعد الليل، لترتد البصيرة أشياء لازالتْ تعبث بقلبي، تنزف بكبرياء وتعود عاجزة تماماً من خيبة تلوى الأخرى، بشكل ما إنها تقتلني ولا تعرف كيف تمضي وكل المكاتيب مازالت يتيمة ! عبقرية الليل ومنافي عُجالة تدهسني تحت وطأة الظلام تُصاب بدائي وتودِعني في امتعاض يصنع ألف دافع للفرار، أضارع فجيعة الفكرة وأخمد براثين صحوي، متهمة أنا بعشق رفاهية المواجع لكني لستُ مجبرة على الانحناء! أتى أيلول وأنا ما زلت أستمطر غيمةً سمراء.. فيا صوته، يا ألف آه يخدش أُلفِيَتي، يا أفٍ على تجاوزٍ أتلفني وأفلت جأش مربطي، يا مسيرة تمضي دون اكتراث، يا دفاتر لا تنسى الظل بارعة في تلميع السراب، يا حطام مؤنس وقلق مخبوء داخل أزرار الارتباك. يا صمتاً حانقاً يئن من تصدع روحي، يا سعياً خائباً وفتورا يتداعى الأسى مثل زنبقة تغفو فوق مطارح الحزن، وحيدة تصارع فكرتها الأولى ودهشتها الأولى ومساءها المعبأ بالنزاع بالقلق وبالفقد، يستوحشها الضياع وتمزقها الحنايا، لا عزاء لندبتها المخزنة في رف أثقله البكاء، مثل مزهرية مكسورة تستنجد يد حانية لتضمد جرحها الغائر. شيء حاد يذبح قلبي، ويوزّع تشردي على أرصفة المساء، ويُحدِثُ نضجا حد الموت، يستمتع بانهياري ويُفقدني انتباهي المفرط، يثير خدشا عارما ويحملني إلى انطفاء طويل. ستقتلني كل تلك المرّات التي ركضت فيها نحو الصمت حين تركتُ الفرص المذهلة وقلت أن الصمت أوسع وأن الهدوء سيقودني في نهاية المطاف إلى متسع الحياة لكن لا نجاة من حتف مؤكد، شعوري الغير رتيب يقودني إلى كارثة تناسب هذا الوقت المتأخر، وقت ملائكي يجعلني مصابة بالتوّحد، أحشو ملامحي بضحكات مهزومة، أدرك الأشياء ببلاغة وأفتح بابا عند كل متاهة، وأعانق ساق سروتنا الهرمة، فأبكي وأدعو اليمامة الكفيفة. ترى لماذا يأخذنا أيلول لهناك؟ نقبّل الأحجار، وتقتلنا حكايات الطفولة… كيف لامرأة تتسابق مع الريح أن يفوتها قطار الأحلام، تركض خلف المسافات لتركن في النهاية إلى قاطرة السماء ! كيف لها أن تهذّب الانتظار وتختلق له أعذار ! إن أسوأ ما قد يحدث للمرء أن يستمتع بحياته وهي تخاصر الهاوية وتبتسم، يغريها الانهيار! أن يرى عمره يمضي دون أن يعنيه يستشعر اللطف في مخزون الخراب ويجعل من كل مأزق حجة ترفعه حيث ميلاد جديد ثم بعد كل سقوط ألف ميلاد أن يقلّص كل فرص البقاء من أجل الظفر بتذكرة الرحيل .. فأرى ثُقباً يجتاحُ صدري، بكبُر كلّ يوم وتتسَرّب منه حياتي أمامي ولا أستطيع فِعلُ شيئاً، أعيشُ خائِبة، عاجزة عن تبرير خَيبتي، فمُشكلتي لا تكمُن بأنني أعيش حياة لا تُعجبني بل لأنني المسؤولة عن هذه الحياة، فقدتُ قُدرتي على أن أعيش ضحِيّة الظروف، أريد للعالم أن يَكُف عن الحضور، أن تضمَر ملامِح الأشياء، الألوان والروائح والمَهام التي ينبغي فِعلُها، لَيتَها ترفُق بي وتنقرِض لبعض الوقت، فأنا عاجزة عن مُواكَبة الحياة وعن تبرير وجودي في هذا العالم، انقراض نبيل، كثيرٌ من البياض والسطور الفارِغة، أريدُ لملَمة نفسي من جديد واستيعاب مرارة عالمي الكئيب الذي فيه أعيش، أبحثُ عن شيء حقيقي أنغَمِسُ فيه حتى أطرافي، وأنسَى في خِضَمّهِ بأنني أنا، أرغبُ في أن أنسَلِخ مِنّي وأركضُ خارجي، وأمضي مَضِيًّا حاداً كنَصلٍ، دقيقاً كشَعرة ومستقيماً كصِراط الله، من دون تراخٍ ولا تلويحات وداع، مُجرّد أعيُن تَتلَصّص من وراء رُموشِها تتساءل مذهولة: هل ذَهبَت فِعلًا؟» أنت لا تعرف معنى أن يَيأس الإنسان من وجودِه، أن يشعُر بأنهُ فائض في هذه الحياة، أن لا يملك أي خَيار وأن يبتلع غصّاته بصمت ويعجز عن قول /لا»، أنا يا صديقي أتكَوّر مثل نُطفَة نَسِيَت أن تنمو كما الأشياء المنسِيّة أبداً، التافهة جداً، كما الأصفار أبديّة الاستدارة، تدور حول نفسها تبحث عن قيمة دون جدوَى، أنطفِئ بأعيُن تلتقط دوماً الوجوه وتُلقي بها في الذاكرة دائماً، الجميع من حولي يضحكون لابتسامتي الدائمة وأنا وحدي أبكي في داخلي وأرى بُكائي هو انتصاري الوحيد لأنهم لا يعلمون عنه شيئاً، كل شيء بداخلي يتَكَوّر كحُزني في دمعة تماماً، لا أدري يا صديقي لماذا علينا أن ندفع ثمن اختيار خاطئ حياتنا كلها، لماذا لا يتقٌبّلون أننا أخطَأنا وأننا دفَعنا نِصف أعمارنا كعُقوبة لنا، لماذا لا يحتضنوننا عند حاجتنا لهم، لماذا يخشونَ من ألسِنة الناس ويُجبروننا على أن نتحَمّل ونصبر؟؟ أخبِرهُم يا صديقي أنّ طاقة التحَمّل لدَينا نفذَت وأننا ألقَينا أنفسنا في الهاوية، أخبِرهُم أننا شهِدنا موتنا مرات عدة قبل انتهاء أجَلُنا للأمانة…. تدرك بعد فترة أن عجزك عن الإزهار ليس لعلة فيك… وإنما لعقم الأرض التي زرعت نفسك بها وتدرك أن الوعود ليست سوى كتابات شفافة على صفحات الهواء… وأن بعض الأيادي كالماء تعجز عن إمساكها لكنها تبللك ! وتدرك أن الناس مثاليون عندما يحاسبون وأنانيون عندما يتعاملون.. وتدرك أن هدوءك أتى بعد عاصفة في روحك، وأن صمتك ما هو إلا تعبير عن ضجيج لم تسعه قوالب الألفاظ والعبارات.. وتدرك أنه بالرغم من اتساع الكون؛ إلا أنك تمضي معظم أوقاتك في رأسك! وتدرك الفرق بين التقدم في العمر، والتقدم في الحياة وأن استنشاق الهواء يضمن لك العيش لا الحياة