اليوم أول أيام فصل الرببع و الساعة الآن تشير إلى السادسة صباحا، انتهيت للتو من العمل بعد ليلة طويلة من التسكع بين زقاق باريس باحثا عن لقمة عيش على متن سيارة الأجرة، امتهن هاته الحرفة مند زمن طويل، و بها اكتسبت خبرة اجتماعية جعلتني أرى الحياة بفلسفلة ناضجة في التعامل مع الآخر، فلسسفة شخصية تمتزج فيها الدبلوماسية تارة و القمع و الصرامة تارة أخرى، أقضي ليلتي مع زبناء من مختلف بقاع العالم و من كل الطبقات، بين البوح و الصمت و الاستماع. فوضعية الزبون داخل سيارة الأجرة و المحيط الهادى الذي يعيشه خلال الرحلة يجعل نفسيته قابلة للكلام في أي موضوع و في كل المجالات، فمنهم من يكتسب ثقة اتجاهي فتجده يبوح لك بأسرار ماضيه و مشاريع مستقبله. يركب الزيون خلف السائق إذن ليست هناك مواجهة مباشرة بالنظرات فيعتبر نفسه كأنه في زيارة خاصة لطبيب نفساني. و إن كان لي كتاب انشره، لسميته on devient psychologue à force . 2 نزل آخر زبون في الحي اللاتيني العتيق، و ما بقي فعله الآن هو أن اقصد مكان موعدي مع السائق الآخر الدي يشتغل نهار على نفس السيارة، خيوط شمس الصباح الربيعي البارد بدت في الأفق و اقتربت ساعة الدروة الروتينية، كان المدينة مبرمجة على استيقاض واحد مما يحدث اكتضتضا في حركة السير، اسوق مسرعا لكي لا اتأخر عن موعدي مع الرجل. على جهاز الراديو أغنية فرنسية قديمة للفنان Jacques dutron عنوانها il est 5 heures Paris s'éveille. يصف فيها كيف تستيقظ باريس كل صباح . ركنت السيارة و توجهت إلى مكتب التبغ قصد اقتناء سائل السيجارة الإليكترونية و بعض الطوابع البريدية. ضجيج هنا و هناك، صوت فرامل حافلات نقل، و صراخ عصارات المقاهي مختلطة بصوت أحدية الباريسيين المشات على الرصيف المرصع بالاحجار المربعة المرتبة في انتظام، حشود من البشر تخرج من تحت الأرض من محطات ميترو الانفاق و آخرون على متن سياراتهم و آخرون على درجاتهم النارية و أخرى هوائية، وجوه تتشابه رغم اختلافهم في الأجناس و لون البشرة، فهم لا يبتسمون. يهرولون في كل الاتجاهات مع احترام قانون السير بالفطرة ، كأنهم مبرمجون كالنمل في البرية. هولاء هم القوة الاقتصادية الأولى للدولة و هم من سماهم ساركوزي: la France qui se lève tôt. 3 قبل الدخول إلى نفق الميترو أتوقف دقائق قليلة استنشق فيها بخار سيجارتي الإلكترونية المنسمة بمداق النعناع الدي يختلط بروائح عطر الباريسيات الصباحيات الانيقات رغم بساطتهن في تواضع مهدب و عجرفة مصطنعة تحميهن من نظرات الجنس الآخر في مجتمع منفتح يعرف حدود اللباقة بحكم التربية و بحكم القانون . ظل رجل يقترب، يعاكس المشات متسولا بعض النقود ، يتكلم فرنسية بلكنة مغاربية فهمت منها أنه يريد فقط نقودا لاحتساء قهوة سوداء كهندامه المتسخ. يتراجع الشاب خائبا بعد أن حاول مرات مرات لكن اللامبالاة مسحته من الوجود في هدا العالم المسرع. يتكئ بظهره النحيف على الحائط قبالتي، ينظر إلي حزينا راغبا في الشفقة. اتفاده أيضا بدوري لأن معتاد على هدا المشهد الحزين. فمهاشد المأساة المتكررة تقتل الشفقة و تصبح شيا عاديا يستقبله المرئ بطريقة طبيعية، نتعود عليها تماما كصور الأطفال المقتولة و الرؤوس المقطوعة في حروب الشرق الأوسط. فجأة انتفض الشاب من حائطه و بدأ يغني اغنية اعرفها جيدا إلا و هي ???? أ للالة يلالي أ راسي و ما داز عليك و باقي ) يعيدها مرات عديدة و هو يرقص في تمالة سكران و ما بهو بسكران. اقترب له في فضول ثم اسأله : انت مغربي؟ ما سمك ؟ فأجاب بصوت مبحوح قريب لبكاء مسجون بكبرياء: سميتي المهدي . انا : اجي معايا نشربو شي قهوة ؟ المهدي : لا عطيني غير الفلوس انا نمشي نشريها لراسي . انا : واخا هاك الفلوس و لكن وأقيلا عتشري بيهم حاجا أخرى. سير الله يسر امرك أ خاي . ثم انصرف .. ادخل محطة الميترو و صورة المهدي و لمعان عينيه لم تغادر مخيلتي. و انا واقف أمام باب العربة شي ما بداخلي يقول لي عد إليه و أسأل عنه و حاول أن تفهم ما وصل به إلى هدا الوضع الأليم. فرغم تعبي الجسدي من سمر ليلة عمل ركضت على السلالم الكهربائية لاصعد خارج المحطة طالبا من الله ان اجد المهدي في مكانه، اصطدم مع الوفد من العمال الصباحيين النازلين إلى النفق حتى وصلت إلى النقطة التي التقيته فيها . كان المهدي واقفا في يده سيجارة و كأس بلاستيكي يحوي قهوة سوداء، يبتسم للراجيلين و يعاكس الفتيات باللغة الألمانية. اقتربت إليه ضاحكا . انا : السي المهدي بقات لملتك غير الزلالة و انا اضحك . المهدي : خويا انا را ولد عائلة را غير رويضة دارت .. انا : يالله اجي تفطر معايا المهدي : هانا شوف الملف لي عندي انا را كنت فالنامسا و هادو وراقيا. انا : جمع ديك الشي دابا و تبعني. اتخذنا طاولة معزولة في احد المقاهي المجاورة. ما ان جلسنا حتى انبعث الناذل الندل معنا يسأل عن طلباتنا و هو ينظر باحتقار الى المهدي بحكم هندامه و حركاته البهلاونية القريبة إلى الحماقة . تبادلت نظرات دبلوماسية معه لكي اطمئنه أن لا يوجد شيء يقلقه فالرجل معي و انا اتكفل به. للأسف الهندام يلعب دورا كبيرا في العلاقة الاجتماعية في مجتمع الاستهلاك. 4 كان من الصعب بالنسبة لي أن اتعرف على شخصية المهدي، فالرجل مضطرب جدا لدرجة أنني أسأله في مجال و هو يجيبني في مجال اخر. في البداية سألته عن أهله و اصله فقال إنه من مواليد 1983 في مدينة الدارالبيضاء ترعرع في مدينة ازمور و عائلته من اصول قرية ولاد بن سبع ضواحي مراكش حسب قوله، ثم جهش بالبكاء حين تكلم عن وفاة جدته الفلالية التي ندم ندما شديدا على استحالة حضوره جنازتها في المغرب، عندما سألته عن مستواه الدراسي قال إنه حاصل على إجازة في القانون باللغة الفرنسية في جامعة القاضي عياض و على شهادتين تقنيتين الأولى في تسيير المقاولات و الثانية التسيير الفندقي و قد عمل في مجال الفندقة في مدينة مراكش. يروي المهدي انه إلتقى بحبيبته النمساوية عبر الشبكة العنكبوتية و قد زارته في المغرب فتزوجها و من تم رحل معها إلى أوروبا و أنجبا طفلا اسمه إليان. المهدي كان يحمل في يده ملفا بلاستيكيا ازرقا يضم العديد من الأوراق الإدارية و الطبيبة من جواز سفر و بطاقة الاقامة النامساوية المنتهية صلاحيتها و عددا كبيرا من الصور له و لزوجته في وضعيات مختلفة لزوجين شابين عاديين يتحابان و السعادة تغمرهما و المستقبل الجميل أمامها. حوالت الكف عن الأسئلة فتلكمت عن نفسي قليلا لكي اكسب ثقته أكثر. في الاول كان يستمع بهدوء حتى غلب عليه طابعه المستهتر فبدأ يعاكس كل من مر أمامنا. و بهدوء و صبر عرفت بعد دالك انه كان في السجن لمدة ثلاثة أشهر بسبب ضربه لزوجته و ان المحكمة الجنائية للنامسا أصدرت في حقه حكم مغادرة البلد و ان لا يحق له العيش في أوروبا ما عادى في بعض الدول من بينها فرنسا. كان كلما يتكلم عن حادثة ضربه لزوجته إلا و بكى بكاءا قاهرا من شدة الندم لاسيما و حسب ما قال لي انها كانت انسانة رائعة و يضيف: كانت لا تشرب الخمر و لا تدخن و كانت ترفض إدمانه للخمر و مرافقته لبعض اصدقاء السوء من العرب هناك في النامسا. لا أريد أن احكم على المهدي مرتين يكفيه حكم المحكة الرسمية أما أنا فاستمع فقط و أحاول أن أجد له مخرجا بأي طريقة لكي يقف الرجل على ساقيه. و عن مسألة اني استقبله في بيتي فالامر مستحيل فلدي مسؤوليات و مشاكل من نوع أخر لا اتحمل بعدها مشكل اضافيا خاصة و ان المهدي ليس واضحا معي تماما و مضطرب نفسيا شيئا ما . على العموم حسب ما قال فهو يقطن في فندق تدعمه الدولة الفرنسية و أظن أنه متابع من طرف فريق من المساعدين الاجتماعيين و لكن لا يحضر المواعيد المخصصة معهم بعد أن سرقه سحر قساوة الغربة في شوارع باريس بين قنينة و قنينة نادما على سخونة رأس البارحة التي عادت عليه بالبرودة اليوم. حاولت أن أفهمه أنه يعيش اكتئابا خطيرا و يجب عليه التوقف على شرب الخمر لكي يستوعب ما جرى له و ما يعيشه من ظروف حاليا. و تكلمنا معا عن الاندماج في المجتمع يجب أن يشتغل و لو بدون عقد عمل فقط لكي يخرج من تلك القوقعة التي دمرته . فالماضي لا يمكن لأحد أن يغيره ce qui est fait est fait . ادن يجب أن ننظر للغد برؤية أفضل كلها أمل. و انا اتكلم معه أحسست أنني أطلت الحديث طويلا و كان المهدي في الاستماع بطريقة محترمة راقية تارة و تارة كأنه يستمع لفقيه مسجد و هو يحرك رأسه في خشوع . طلب سيجارة أخرى فاعطيته نقودا لكي يشتري علية سجائر و انا لزمت مكاني انتظر عودته .في طريقه حمل معه بقايا (croissant) و بدأ يفرق على الحمام تحت شجرة مجاورة للمقهى . جلست أراقبه من بعيد يتكلم بصوت مرتفع مع الحمام التي نزلت من اعلى الشجرة بحثا عن صدقة المهدي و قد نزل معهما غراب أيضا، فقال له المهدي حتى نتا المنحوس جيتي ثم يضحك. ثم يغازل بالأمانية انسة مرت أمامه . عاد بعدها بعلبة السجائر. و جلس يدخن في هدوء مصطنع كان بداخله بركان ينتظر. طلبت منه اخد صور لبعض أوراقه الإدارية. فطلب مني مراسلة زوجته النامساوية التي اعتدى عليها ضربا و اسمها كلوديا و أعطاني حسابها على موقع التواصل الاجتماعي Facebook ثم أعطاني حسابه الشخصي على نفس الموقع لإتفاجئ بصور الشاب الماثل أمامي كيف كان و كيف أصبح. أقسم لكم أنني عندما رأيته بكيت و هو من حاول تهدئتي. فدوار انت يا زمن و عجلتك لا ترحم. لعبت دور الطبيب النفسي مع المهدي لكي أريحه و لكني في الواقع اريح نفسي مجددا الحوار مع الروح . 5 صديقي المهدي مرت ثلاث ساعات على لقائنا، و قد فتحت لي قلبك و فتحت لك قلبي، يجمعنا وطن واحد، دين واحد و تفاهات مقتربة نوعا ما. فالفرق بيننا سجل عدلي و دراهم قليلة . انا :هل تقرأ كتبا أم لا ؟ المهدي : نعم لقد قرأت كثيرا للعروي واش هكرتيني ولا شنو ؟ أنا حاشا لله ان أقلل من شخصك يا رجل، و يجب أن تتخلص من مسألة فقدان الثقة بالنفس و الا ستظل كما أنت عليه الآن إلى أخر يوم في حياتك و لك في المتشردين العجزة من العرب و المغاربة خير مثال. إياك و إياك حينما يصبح التشرد إختيار. المهدي : ايوا هاد شي لي قدر عليا الله، و لكن ان شاء الله يكون خير . انا : أكره التحدث عن الرضا بالقدر في الحالات السلبية. يتهيأ لي عندما أقول ( هاد الشي مكتوب عليا بحال لي خصني من دير والو حتى طيح شي معجزة. را المعجزات تسالاو مع الأنبياء) . أما عن مسألة استعمال جملة أن شاء الله فقد تغير معناها تماما مع بنو يعروب نظرا لعدم وفيهم بمواعيدهم و وعودهم، يعني حينما يقول لك أحدهم أن شاء الله كما لو قال لك ( را فالشك) صديقي : أصعب إحساس يواجهك في هاته الحياة عندما تحسّ أنّك غريب، انّك صادق والصّدق عيب، أنك حالم والحلم عار. انك طيّبٌ والطّيبة سذاجة. أنّك محب والمحبّة دروشة. بنظر الآخرين. انتفض يا رجل فأنت شاب لا زال الخير أمامه و كم من عجوز يتمنى لو عادت به الأيام إلى الوراء حتى يصلح ما فعلت به تفاهاته. انا : هل فكرت ان تعود إلى بلدك ؟ المهدي : لا يمكن أن أعود خائبا. انا : خائبا ؟ ثم اضحك. خائبا مقارنة مع من؟ أخوتك؟ عائلتك؟ جيرانك؟ لما نسقط في المقارنة و نتمسك بالحبل المجرور رغم أنه يقودنا للهاوية؟ صديقي المهدي انها الساعة الحادية عشر و النصف صباحا . لم أنم مند عشرين ساعة، و لم أعد استوعب ما اسمعه و ما أقوله. و حان وقت فراقنا. اعطيني رقم هاتفك. المهدي : ليش لدي هاتف. انا : حسنا سأعطيك رقم هاتفي و رقم شخص من السفارة المغربية بباريس اتصل به من طرفي. و رقم جمعية مغربية رئيسها يحب اخد سيلفيات مع البرلمانيين و حفلات الرقص المغربي، اتصل به هو أيضا ربما تصبح مشهورا معه و يأتيك خير من حيث لا تحتسب و لله في خلقه شؤون .ربما و انت تتسكع في شوارع العاصمة و تلتقي بالملك صدفة و الصدقة خير من ألف إن شاء الله. المهدي : يا ربي نتلاقا بيه نبوسلو يدو انا : لا تلتقيتيه بوسو كامل ماشي غير يدو( اضحك) أقف فجأة من مكاني لاني لم أعد اقاوم تعبي . المهدي : صافي مشيتي أ خويا لحبيب انا : إسمي لبيب ليس لحبيب. حسنا سأودعك على أساس لقائك في القريب. لك رقم هاتفي كلمني في اي وقت أحببت و سأكون في خدمتك. اقترب إليه يقاوم الدمع في كبرياء، تخفيه ابتسامة حب رجلين. ثم ابتعد . انا الان في القطار الجهوي اقصد بيتي و يا حزن من لا بيت له. احسن بكرة صلبة تقف عند حنجرتي، ابحث عن ما اختم به هاته القصة الجميلة، فخطر في بالي نص سجلته في هاتفي من الانترنيت و قد نسيته كاتبه : يقول : عند الفراق.. اجعل لعينيك الكلام فسيقرأ من أحبّك سوادها.. واجعل وداعك لوحةً من المشاعر يستميت الفنّانون لرسمها ولا يستطيعون. فهذا آخر ما سيسجّله الزّمن في رصيدكما. وبعد الفراق.. لا تنتظر بزوغ القمر لتشكوا له ألم البُعاد.. لأنّه سيغيب ليرمي ما حمله، ويعود لنا قمراً جديداً. ولا تقف أمام البحر لتهيج أمواجه، وتزيد على مائه من دموعك؛ لأنّه سيرمي بهمّك في قاعٍ ليس له قرار، ويعود لنا بحراً هادئاً من جديد. وهذه هي سنّة الكون. يومٌ يحملك ويومٌ تحمله..