لا جدال في أن القصيدة العربية مرت بمراحل متعددة ودالة، انطلاقا من نصوصها البكر، التي تفاعلت مع محيطها بشكل كلي، فجاءت صدى لإيقاعاته،إذ نقلت ما يزخر به من حيوات، تدب في قفار الصحراء العربية المترامية الأطراف، حتى عدت- بحق- ديوان العرب، و مرورا بالتحولات العميقة التي طالتها خلال مسيرتها الطويلة، والتي تجلت في التمرد على الأشكال القديمة، من خلال اجتراح قوالب جديدة تتماشى مع طبيعة العصر الذي تتنفس هواءه القصيدة ،محفزة بالمثاقفة حينا وتحولات الواقع حينا آخر، و وصولا إلى ما تعرفه القصيدة اليوم من ثورة عميقة مست ماهيتها وأسسها وأشكالها، وخصوصا انتقالها من المنطق الشفوي، الذي أسرها طويلا، إلى المنطق الكتابي، الذي يحاول الزج بها في عوالمه الأثيرة.. ولا أكاد أضيف شيئا إذا اعتبرت قصيدة النثر من أفضل تجليات هذا التحول العميق، الذي يطال القصيدة العربية. يترتب على ما تقدم أن القصيدة العربية في لحظتها الراهنة ملزمة - إن أرادت أن تعانق تاريخيتها و تلتحم بها- أن تقتحم، بلا تردد، البعد الكتابي في العملية الإبداعية الشعرية، والتخلص من هيمنة البعد الشفوي. - لكن كيف يتأتى لها ذلك ؟ - وهل كل الشعراء مؤهلون لكتابة هذا النوع من القصائد؟ وما موقع ديوان «ابتهالات في العشق» من هذا الطرح؟- تتجلى الشفاهية في القصيدة أكثر ما تتجلى في الإيقاع الخارجي، لأنه إيقاع سماعي يهدف إلى التأثير على الأذن وتشنيفها بموسيقى الكلمات، التي تكون في كثير من الأحيان مقصودة لذاتها. على عكس ذلك تلجأ القصيدة المعاصرة، وأخص بالذكر تلك التي يكتبها الشعراء الشباب إلى التمرد على الإيقاع الخارجي بما يعني التفعيلة والبحر، لتخلق لنفسها إيقاعا جديدا يتأسس على منطق الصورة الشعرية، التي تتراص جنبا إلى جنب لتفجر في ذات القارئ أحاسيس وأفكار وتأملات، تجعله يستغرق في حالة نفسية وعقلية ووجدانية معينة. وإذا كان الشاعر نورالدين بلكودري قد أهمل الإيقاع الخارجي بنوعيه، أعني التفعيلة والبحر، فقد حافظت قصائده على الإيقاع الداخلي الذي يتولد من خلال استثمار بعض التقنيات البلاغية كالجناس مثلا، غير أن توظيف الشاعر للصورة الشعرية كبديل عن الإيقاع، ظل محتشما لا يدفع بها إلى حدودها القصوى، بل ظلت في عمقها متأثرة واستمرارا للتعاطي الرومانسي معها، تذكرنا بصور الشعراء الرومانسيين، ولعل طبيعة الثيمة المهيمنة على الديوان «تيمة العشق» فرضت على الشاعر هذا النوع من التعاطي. ومن تجليات البعد الكتابي في القصيدة المعاصرة استثمارها للمعطى الكليغرافي و البعد البصري للورقة التي تحتضن القصيدة، لذا نجد كثيرا من الشعراء يلتجئون إلى كتابة قصائدهم بخط أيديهم، ليمنحوا القصيدة بعدا جماليا خاصا، كما يحرصون على توزيع القصيدة خطيا على امتداد الورقة ، يمينا وشمالا، أعلى وأسفل، وفي الزوايا، مبررين ذلك بتمرير رسالة للقارئ، مفادها أن القصيدة كتبت لتقرأ بصريا لا لتلقى شفويا، أي أنها ليست للإلقاء، الذي اعتمدت عليه كثيرا القصيدة التقليدية وسارت على نفس المنوال القصيدة الرومانسية والقصيدة الحديثة في بداياتها الأولى مع الرواد على الخصوص، ولا زال ذلك ساريا لدى الكثير من الشعراء. في ديوان «ابتهالات العشق» لنورالدين بلكودري نلمس هذا التوجه في التعاطي مع القصيدة وإن لم يكن ذلك نهجا قارا ومتبعا من طرف الشاعر في نسج كل قصائده، بل استأثرت به قصائد دون أخرى، أذكر منها قصيدة «أمير العشاق» وقصيدة «أتحداك» وقصيدة «توحد». وهروبا من شبح الغنائية الذي ران على القصيدة العربية منذ القدم، والذي يعبر عن نفسه إبداعيا بهيمنة أشجان الذات ولواعجها وإهمال الواقع، وسيادة الصوت الوحيد على القصيدة من بدايتها حتى نهايتها، ويكون في الغالب صوت الأنا، أنا الشاعر، مع ما يترتب على ذلك من بوح، وهيمنة الرؤيا الجوانية، التي تؤدي بالقصيدة إلى أن تضرب صفحا عن غنى الواقع وتفاصيله، وإغفال وجهات نظر أخرى، بلا شك تغني القصيدة في حال توفرها.. أقول هروبا من هذا الشبح المخيف الذي يعده الكثيرون نقطة ضعف القصيد العربية، يلتجئ الشعراء المعاصرون أو قلة منهم إلى بعض التقنيات التي تتيح للقصيدة التوفر على تعدد الأصوات، وخلق نوع من الدرامية، وتكريس البعد الكتابي للشعر.. ومن بين هذه التقنيات «سردنة» الشعر، باستثمار المعطى الحكائي. وإن كان المتلقي للديوان الذي بين أيدينا سيلاحظ -لا محالة- طغيان النفس الغنائي، انسجاما مع طبيعة الثيمات العاطفية المهيمنة على القصائد، فإن بعض النصوص حاولت توظيف النفس الحكائي، وإن ظل ذلك في حدوده الدنيا.