نظم كل من حزب التقدم والاشتراكية وأسرة الفقيد خالد الناصري أمسية تأبينية لتخليد أربعينية الراحل الفقيد خالد الناصري، وذلك مساء أول أمس الاثنين 15 ماي 2023 بالمكتبة الوطنية بالرباط، شهدت حضور رفاقه وأفراد أسرته ومحبيه وزملائه وطلابه وجمهور غفير من المناضلين من مختلف المشارب والأجيال.. وتميز لقاء الوفاء هذا بكلمة قوية وعميقة للأمين العام لحزب التقدم والاشتراكية الرفيق محمد نبيل بنعبد الله، فيما يلي نصها الكامل: السيدات الفُضليات، السادة الأفاضل؛ أسرةَ فقيدنا خالد الناصري رحمة الله عليه؛ الرفيقات والرفاق؛ نلتئم، اليوم، في هذا اللقاء المؤثِّر، وجُرحُ فراقِ رفيقِنَا سي خالد لم يَنْدَمِلْ بعد. نلتئم لَعَلَّ الحزنَ يَخِف، ونحنُ نستحضر، بشكلٍ جماعي، المساراتِ الغنيةَ والحافلةَ لرجلٍ استثنائي وشخصٍ نادرٍ اختَزَنَ من الأبعاد والخصالِ والاهتماماتِ ما تَفَرَّقَ في غيره، إنساناً، ومُناضلاً، وقياديًّا، وأستاذاً، ورجلَ دولةٍ، من الطراز الأصيل. فَحياةُ فقيدِنا خالد الناصري تَنْطَوِي على مَعَانٍ عميقة وعِبَرٍ بليغة. فلقد كان، منذ بداياته الأولى، ذاكَ الشابَّ، المنتميَّ إلى عائلةٍ وطنية عريقة، والمُفْعَمَ بالذكاءٍ المُتَّقِد، والمَسكونَ بِحُبِّ هذا الوطن، والمتطلعَ إلى تَقَدُّمِه. وحينها قامَ باختياره، منذ منتصف ستينيات القرن الماضي، فالتحق بالحزب الشيوعي المغربي، الموجودِ آنذاك في السرية، وهو لا يزالُ طالباً في كلية الحقوق بالدار البيضاء. فاعتنق، بشكلٍ طبيعي، وإلى حدِّ التَّمَاهِي، طريقَ النضالَ الوطني الديموقراطي. إنه ذاك الطريقُ الذي يَمزجُ، بصورةٍ متكاملة ومتناغمة، بين القناعات الوطنية الراسخة في الدفاع المُستميت عن سيادة الوطن ووحدته ومكانته وعِزَّتِه، وبين الكفاح من أجل بناء الديمقراطية ودولة المؤسسات والحق والقانون والعدالة الاجتماعية. ولقد ظلَّ سي خالد مُخلصاً لهذا النهج، مُتفانياًّ فيه، سواءٌ في لحظاتِ الشِّدة، أو في فترات الانفراج، وأيضاً أثناء أدائه لمهامه الرسمية، وما بَدَّلَ تبديلاَ. سَنَذْكُرُ لفقيدنا الكبير أنه جَسَّدَ دوماً نموذجَ الرجلِ المُتصِفِ بأقصى درجاتِ المسؤولية، والحِكمة، والاتزان، والصرامة في الدفاع عن المبادئ، والتمسك بجدلية الوفاء والتجديد، والإنصات والانفتاح على الرأي الآخر بحثاً عن الصيغ التوافقية البنَّاءة. حتىَّ أنه كان، إلى جانب ثُلَّةٍ من الرفاق، القياديَّ الذي يُعتمَدُ عليه في مواجهة الانزلاقاتِ المتشنجة، حين كانت تُخَيِّمُ على سماءِ حزبِنا، في بعض المراحل العصيبة، وفي فترات التساؤلات الكبرى، لحظاتٌ من النُّزُوعِ نحو الاندفاع. وفي الوقت نفسه، كان الراحلُ خالد مِثالاً في الثبات والاتزان ورَبَاطَةِ الجأش، حين كانت تَهُبُّ بعضُ الرياحِ العاصفةِ على أغصان حزبنا، وعلى موقعه المستقل. فَبِكُلِّ هذه الميزات الرائعة، حَقَّ لخالد أن يَكُونَ من صَفْوَةِ الرفاق الذين شَكَّلُوا صَمَّامَ أمانٍ للحزب، واكتسبوا صفة البَوْصَلَةِ الهَادِيَةِ إلى صوابِ الطريق وسلامةِ الاختيار والقرار، مُتَحَلِّيًّا، في كل الأحوال، بروح المسؤولية، وحُسن تقدير السياقات، وواثقاً، إلى أقصى الحدود، في جدوى العمل المؤسساتي، في كَنَفِ مؤسساتٍ قويةٍ، ديناميةٍ، وقادرةٍ على التَّطَوُّر باستمرار. الحضور الكريم؛ يَشهدُ الجميعُ لفقيدنا سي خالد بأنه لم يكن فقط حاضراً في واجهاتٍ متعددة، بل إنه كان دوماً في الصفوف الأمامية، عَطَاءً وتَفَانِياًّ ومُثابَرةً والتزاماً، بتألقٍ قَلَّ نَظيرُه. وأُولى الواجهات، التي لم يَتَوَانَ لحظةً واحدة في جعلها أسبقَ الأسبقيات، هي الدفاعُ عن الوطن ووحدته الترابية، وتقديمُ مصالحه العليا على كلِّ الاعتبارات. هكذا، سَيحفَظُ التاريخُ صَوْلاتٍ وجَوْلاتٍ للراحل، دفاعاً عن الوطن، في مختلف المحافل، داخل المغرب وخارجه. وتَميَّزَ في ذلك بالصلابة وقُوة الإقناع، وبصرامةِ الترافع، وعُمقِ التَّنَاوُل. وظلَّ وفياًّ لهذه المعركة إلى آخر لحظةٍ من حياته الحافلة. ثُمَّ إنَّ سي خالد كَرَّسَ جُهداً استثنائيًا في نضاله على الواجهة الديمقراطية. واستَنَدَتْ مقاربتُهُ على الدفاع، بلا هوادة، عن القواعد والممارسة الديموقراطية، وعن الحريات، وعن بناء ما كان يُسمِّيه « الدولة الديموقراطية القوية بمؤسساتها». لكن مقاربتَهُ، رحمه الله، كانت تقوم، في الوقت ذاته، على دينامية التوافق البَنَّاء، وعلى اعتبار الديمقراطية مُسلسلاً ومساراً تاريخيا يَحتمِل المَدَّ كَمَا يَحتَمِلُ الجزر، وعلى الاستحضار الثاقب لموازين القوى المجتمعية. وإلى جانب كلِّ ذلك كان الفقيدُ وحدويًّا حتى النخاع، تَرتكزُ مقاربتُهُ على ضرورة توحيد الصف الوطني الديمقراطي، كما على ضرورة وحدة اليسار. بهكذا مقاربة، وبِحُكمِ تخصصه الأكاديمي، لَعِبَ سي خالد أدواراً أساسية، وكانت له إسهاماتٌ ريادية، في صياغةِ عددٍ كبير من المذكرات الدستورية والوثائق السياسية، سواءٌ الصادرة عن حزبنا، أو كذلك تلك التي بادرت إليها الكتلةُ الديمقراطية. وعلى الواجهة الحقوقية، سَجَّلَ فقيدُنا خالد حُضوراً لافِتاً، منذ خُطواته المهنية الأولى، كأستاذٍ ملتحقٍ بسلكِ المحاماة، في نهاية الستينات وبداية السبعينات. فكان ضمن الصفوف الأولى للدفاع والترافُعِ عن المناضلين ومعتقلي الرأي من مختلف المشارب، في عددٍ من المحاكمات السياسية التي شهِدَتها بلادُنا آنذاك. وقد عمل الراحلُ على تعميق هذا المشوار من النضال الحقوقي في الميدان، إلى أن أسهم، إلى جانب عددٍ من الحقوقيين البارزين، في تأسيس المنظمة المغربية لحقوق الإنسان، والتي كان قياديا فيها خلال سنواتها الأولى، وتَقَلَّدَ رئاستها لفترة. وعَبْرَ كل مساره النضالي على واجهة حقوق الإنسان، ظل الفقيدُ وَفِياًّ لنفس المنطق التَّدَرُّجِي الذي تَرَبَّى عليه وتَشَبَّع به، أَلاَ وهو منطقُ النضال من أجل نَيْلِ المكتسبات، ثم ترصيدها، والارتكاز على تراكماتها من أجل تحقيق المزيد منها، لصالح الوطن والشعب. كما تَمَيَّزَ نضالُهُ على هذه الجبهة بشمولية مُقاربته لمسألة حقوق الإنسان، في مفهومها الكوني، وفي مختلف أبعادها، وجميع أجيالها. ولم يكن غريباً، بالنظر إلى كلِّ الزَّخَم النضالي والعُمقِ المعرفي الذي راكَمَهُمَا الفقيدُ خالد، أن يُمثِّلَ بلادَنا في لجنة البندقية، وأن يكون رئيساً للجنة العربية الدائمة لحقوق الإنسان. ولأنَّ الرجلَ كان شُعلةً من الحيوية والعطاء، فإنه اقتحمَ عوالِمَ الصحافة من بابها الواسع. فكان ذا قلَمٍ سَيَّال، باللغتين العربية والفرنسية. وكانت كتاباتُهُ الصُّحُفِية جميلةَ المَبْنَى، عميقةَ المعنى. وتَمَيَّزتْ تحاليلهُ بالجرأةِ المسؤولَةِ، وبالاتزان الذكي، وبالإصرار على فتح الآفاق. ولقد قام بكلِّ ذلك منذ السنوات الأولى لجريدة البيان، والتي لم يكن فيها كاتباً صحفيا فقط، بل على غرار رفيقنا سي علي، كان كاتبا، ومحللاً، ومُراجِعاً، وطابِعاً، وناشراً. وحين اشتَدَّ عُودُ «البيان» واحتضَنت جيلاً جديداً من الصحفيين، لم يَتَخَلَّ فقيدُنا عن رسالته النضالية/الإعلامية، وظلَّ، لعقودٍ، يُساهمُ بمقالاتِ رأيٍ ثاقبةٍ في محطاتٍ دقيقةٍ وحاسمةٍ من حياتنا الوطنية. الحضور الكريم؛ لَعلَّ أحَدَ أسرارِ تألُّقِ الراحل سي خالد الناصري، على واجهاتٍ متعددة، أنه اهتدى إلى سبيلِ التوفيقِ بين التزاماتِ النضال اليومي الشَّاق، وبين القدرة على الاجتهاد الفكري والعلمي. فَبَرَزَ ذلك منذ التحاقه بالتدريس الجامعي في السبعينيات. ومع مرور الوقتِ اكتسبَ، عن استحقاق، مكانةً أكاديمية مرموقةً، وتَخَرَّجَت على يديه أجيالٌ من الباحثين والأطر تتحدثُ اليوم عن كفاءته الأكاديمية والبيداغوجية، في مجالات العلوم السياسية والقانونية والإدارية والدستورية. وهي الكفاءةُ التي قادَتهُ إلى أنْ ينالَ ثقةَ جلالة الملك الحسن الثاني، طيب الله ثراه، حينما كَلَّفَهُ، في سنة 1997، بإحداثِ والإشرافِ على المعهد العالي للإدارة، بغرض تكوين كبار الأطر العليا للإدارة ببلادنا. فَتَحَمَّلَ هذه المسؤولية الجسيمة، على غرار ما سَيَلِيهَا من مسؤولياتٍ رسمية، حكومية وديبلوماسية، بكل ما يلزم من وطنيةٍ عالية، وإخلاص صادق، وتفان مَشْهُود، في خدمة الصالح العام. وعلى امتداد كلِّ هذا المسار النضالي الثَّرِيِّ، وفي كلِّ المهام التي اضطلعَ بها، بَصَمَ الرجلُ تاريخ الوطن والحزب ببصماتٍ لن تُمحى. وظلَّ رائعَ الأخلاق، نظيفَ اليد، عفيفَ النَّفسِ، طيِّبَ القلبِ، حَسَنَ المَعشَر، عاشقاً للفن والطرب المغربي والشرقي الأصيل، مُحباًّ للناس، وللخير والحق والعدل، سَنداً لأصدقائه ورفاقه في الشدة واليُسر.وجَسَّدَ، بشكلٍ راقٍ، نِعْمَ الأبِ، والصديق، والأخ، والرفيق. وإلى جانب كلِّ التزاماته وواجباته ومسؤولياته المُضْنِيَّة، التي يَنْهَدُّ الجبلُ تحت ثِقلِها، حَافَظَ رفيقُنا سي خالد، على قاعدةِ الاعتناءِ الحَنُونِ بأسرته الصغيرة وعائلته، وظلَّ مُهتماًّ بكل شاردة وواردة، في علاقته بزوجته الفاضلة زينب، التي واكَبَتْ خُطُواتِهِ الأولى في الحزب وكانت خيرَ سَنَدٍ له طوالَ حياته؛ وشقيقه صلاح الدين؛ وشقيقته نزهة؛ وأخته مريم؛ وبابنيْهِ عثمان وهشام اللذين بَادَلاَهُ حُباًّ بِحُبّ، ووفاءً بوفاء، وكان لهما وقوفُ الحُضْنِ الدافئ إلى جانب والدهما في أيام مرَضِه. (الله يْغْطِّيكم بْرضاهْ). سَتظَلُّ ذِكراكَ، يا فقيدَنَا، خالدةً فينا وبيننا، جيلاً بعد جيل. وسنظل، ما حَيِينَا، أوفياءَ لتضحياتك وعطاءاتك وصمودِكَ، ولِقيَمك الوطنية والديمقراطية والتقدمية. وستظل أخلاقُك نبراساً لنا. (الله يرحمك يا رفيقي العزيز وصديقي الكبير سيدي خالد).