الحلقة 22 يعتبر إدمون دوتي (1867-1926) من أبرز الكتاب الأجانب الذين اشتغلوا بالتعريف بالمغرب في إطار مهام استطلاعية واستعمارية معلومة. أصدر إدمون دوتي كتابه «مراكش» في سنة 1905، فكان واسطة بين مؤلفاته السبعة,. وهو كتاب ذو ملمح رحلي، جاء يرسم مسار مؤلفه الذي قاده من الدارالبيضاء إلى أبواب مراكش، مروراً بالجديدة وآسفي ودكالة وبلاد الرحامنة وبلاد الشاوية. وقد جاء الكتاب في فصول ثلاثة واشتمل على مجموعة كبيرة من الصور التي يعود معظمها إلى المؤلف نفسه، وجاء حاملاً طابع أكاديمية الرسوم والآداب الجميلة. إنه كتاب يصور جانباً كبيراً من عادات وتقاليد المغاربة في ذلك الزمان وجانباً كبيراً من معاشهم، ويجعل حاجة كبيرة إلى ترجمته للقارئ المغربي المعاصر. ربما أنحى المتعصبون من المسلمين حين الجفاف باللائمة على المسيحيين متى كان لهم وجود بينهم الأصل في طقوس إناير فبم نفسر هذه المعتقدات وهذه الطقوس؟ أغلب الظن أنها تدخل في احتفال قديم بالمنقلب السنوي. فهذا أمر لا يرقى إليه الشك في الاحتفالات التي نقيمها [نحن الأوروبيين] بمناسبة رأس السنة، وفيه يتغنى الرجال بنشيد عيد الميلاد. وإن في العادة الشائعة على إشعال النار في ليلة رأس السنة، والشبيهة بالنيران التي توقد في الاحتفال بعيد القديس يوحنا، وهما طقسان تماثليان يريدون بهما، بمعنى من المعاني، أن يشجعوا الشمس على أن تعود لاستئناف حركتها بعد الغروب، في هذه العادة برهان واضح على هذه الحقيقة. وإذا ثبت لدينا أن طقوس إناير على صلة بالانقلاب السنوي فلربما ذهبنا إلى الاعتقاد بأن طقوس الحداد التي تطبع اليوم الأول تكون دلالة على الحزن الذي يرافق الانحدار الشديد الذي تصير إليه الشمس، وأن المباهج التي تكون بعد ذلك دلالة على الفرحة بعودتها لاستئناف رحلة الصعود. ولا يبعد أن تكون الاحتفالات التي يبالغون بها في هذه المناسبات طقساً سحرياً تماثلياً، يرومون به أن يمدوا هذا الكوكب بقوة جديدة. ويجوز لنا كذلك بأكثر من ذلك أن نجد لإناير نسباً إلى الاحتفالات التي كانت تقام بمناسبة تجديد النيران أو إضرامها من جديد، وقد كان لها شيوع عند كثير من الأقوام البدائية. مثلما أننا لا نستبعد أن يكون في الطقوس المرافقة لإناير بقية من الطقوس الرومانية، بالنظر إلى النقص الشديد الذي يعتور معلوماتنا في هذا الموضوع، وبودنا لو تقوم اجتهادات جديدة في الموضوع. وإذا كان المنقلب الشتوي يتميز لدى أهالي شمال إفريقيا بإقامتهم لاحتفالات تعود بأصولها إلى الأزمنة الغابرة، فإنهم يقيمون للمنقلب الصيفي كذلك نوعاً من الاحتفال يطابق من كل الوجوه الاحتفال الذي يقيمه الأوروبيون لعيد القديس يوحنا، مثلما يطابق احتفالهم بالمنقلب الشتوي احتفالَ الأوروبيين برأس السنة الميلادية. ومن المعلوم أن أقواماً كثيرين يحتفلون بهاتين المناسبتين بإضرام النيران. وإذا كنت لا ترى للاحتفالات بالمنقلب الشتوي وجوداً في بلدان المغرب، فإنك لا تزال ترى لها استمراراً عندنا [نحن الأوروبيين] في الخشبة التي نضرم فيها النار في أعياد الميلاد. وأما النيران التي تضرم حين المنقلب الصيفي ونرى لها وجوداً عند العديد من الشعوب الأوروبية فلا نعدم لها وجوداً في المغرب، وهي تعتبر الطقس الرئيس المميز ليوم العنصرة. و»العنصرة» تقع عند المسلمين في يوم 24 يونيو، مثلما أن «مولد عيسى» يقع في يوم 24 دجنبر من السنة اليوليوسية. العنصرة والرحامنة يأخذون في يوم «العنصرة» قمحاً يدرسونه في ذلك اليوم نفسه، ثم يطبخونه في الماء ويجعلون معه من الشحم ويضيفون إليه ملحاً ثم يحملونه إلى ساحة الدرس. ويشعلون ناراً يجعلون وقودها من روث الغنم لأنه كثير الدخان. ثم يسقون أكوام القمح بالماء، وبعد ذلك يشرع الجميع في تناول القمح الذي جرى إعداده على هذه الصورة. ويؤثر أهل الرحامنة أن يوقدوا النار على مقربة من الحقول والبساتين بحيث يصل الدخان إلى أوراق الأشجار. والذي يبدو أن في دكالة يكون الشرفاء هم خاصة من يقوم بإشعال تلك النار، ثم يجعلون شيئاً من الرماد المتخلف عن تلك النار على جباه الأطفال. وما أكثر ما تسمعهم يقولون [لصاحب] البستان تكون ثماره ضعيفة : «على خاطر ما عنصرتوشي»أي أنك لم تشعل فيه نار العنصرة. كما أنهم يردوون مثلاً آخر يقول : «العام بيان من الخريفة والعنصرة تسبق». ومعناه أن «السنة [الفلاحية] تلوح علائمها من الخريف» (الذي يسبقها) ومن العنصرة (التي تأتي قبل الخريف)، ويقال هذا المثل في أن نتائج الأمور تعرف من بداياتها. ومن أمثلتها أن الخِطبة التي يكون مبتدؤها بالجدالات تكون علامة على فشل الزواج بعدها. ذلك بأنهم لا يزالون على اعتقاد أنه إذا كان يوم العنصر يوماً كان دليلاً على أن المومس الفلاحي المقبل سيكون جيداً. ومن الواضح أن لهذا الاعتقاد صلة بتلك العادة [عند المسيحيين] في اصطناع سحائب من الدخان في يوم 24 يونيو. ولطقوس النار صلة وثيقة بطقوس الماء، على نحو ما وقفنا عليه في تصويرنا لهذه العادة الرحامنة. ومن الشواهد الدالة على هذه الحقيقة أننا نرى أهل الجديدة وأزمور يذهبون في يوم العنصرة للاستحمام في مياه البحر، بل إن منهم من يتكلف المجيء إلى البحر من الأماكن القصية. ولا تزال تراهم يأتون بمجامر إلى ساحل البحر ليحرقوا فيها البخور. ونرى كذلك في تطوان كيف يمر جبالة الذين في هذه الناحية في يوم العنصرة من كل سنة في طريقهم إلى ساحل البحر؛ فيقضون هنالك يومهم كله ويسبحون في البحر جميعاً ومن دون استثناء، وفي المساء يعودون للنوم في تطوان. ويذكر شينيي أنه رأى في سلا شباناً يصنعون طوفاً من القصب والقش ودفعوا به فوق ماء النهر وأضرموا فيه النار ثم جعلوا يسبحون من حوله ويتمازحون». ولكم نود لو نعرف هل ما زالت هذه العادة جارية عندهم. وذكر سليمان أن من عادة الأهالي في ذلك اليوم أن يحرقوا بومة. وأما في مراكش فلا تراهم يضرمون النيران في العنصرة، بل يقذفون بعضهم بالماء داخل البيوت وفي الشوارع بملء سطول حتى ليغمر الماء ثيابهم كلها، كما وأنهم يرمون بالماء على المساجد والأضرحة، وكثيراً ما تراهم يغطّسون أشخاصاً في «السقايات» وموارد الماء؛ ويتعطل الجميع في ذلك اليوم عن العمل. مشاعل عيد القديس يوحنا لا تشكل مختلف هذه الطقوس غير مجموع تتخلله الكثير من الثغرات وأوجه النقص، ولا يساورنا شك في أن البحوث والتحقيقات اللاحقة ستأتي بما يكمل ويتمم الكثير من جوانب النقص التي تعتور هذه اللوحة. غير أننا نتعرف بسهولة كبيرة في هذه اللوحة، مع تلك النواقص فيها، على السمات الأساسية لاحتفال قد تناولته الكثير من الدراسات خلال السنوات الأخيرة. فقد جاء مانهارت، وجاء فريزر خاصة، بما يؤكد أن المشاعل التي توقد في عيد القديس يوحنا ذات الانتشار الواسع في أوروبا، هي طقوس تدخل في السحر التماثلي يُراد بها منح القوة للشمس والإفادة من خيرات الأشعة الشمسية في المومس الفلاحية التي يتهيأون لها والإفادة من ضيائها ودفئها، وما يكون لها بالتالي من فوائد على صحة الإنسان والحيوان والنبات. وهم يقومون بهذه الاحتفالات خاصة حين المنقلب السنوي، لأنه يكون نقطة حرجة في ثورة الشمس وأنها بحاجة إلى دعم في بداية رحلتها التنازلية. معنى العنصرة وتنتشر هذه الاحتفالات بالمنقلب السنوي كذلك وبوجه خاص عند الأقوام البعيدة عن خط الاستواء. ثم إننا نعتقد أن البدائيين كانوا بهذه الاحتفالات يبتغون أن يطهروا الهواء من التأثيرات السيئة وأن يقضوا على الأرواح الشريرة أو يطردوها. وإذا كانوا يقفزون فوق النيران فلكي يُنفذوا إلى الجسم بصورة مباشرة الحرارة التي في النار والأوار الذي في أشعة الشمس، وكذلك يفعلون بغاية التطهر من الأرواح الشريرة التي يمكن أن تعلق بسطح الجسم. فهم يطردون، كما قلنا، الدخان عن جوانب النباتات لكي يمدوها بالقوة والنشاط الكامنين في تلك النيران السحرية، ويمكن أن ينقلوا تلك القوة وذلك النشاط إلى الأطفال بحك أجسادهم برماد تلك النيران. ومن المعلوم أن الدخان ناقل ناجع، حسب معتقدات البدائيين، لفضائل الشيء المنبعث منه حين الاحتراق. ولذلك نرى الكثير من الأهالي [في الجزائر] يحرقون التمائم التي يكتبها لهم «الطُّلبة» ويتنشقون دخانها لأنها معدودة عندهم من العلاجات الفعالة. وأما المغاربة فربما كان لهم في الدخان المنبعث من النيران التي يوقدونها، أو ربما كان لها عند أسلافهم البعيدين في أقل تقدير، فضيلة أخرى. ولو رجعنا إلى المثل الذي ذكرناه من قبلُ فمن الممكن أن يذهب بنا الاعتقاد إلى أنهم يفكرون وهم يكوّنون سحائب اصطناعية في أنها ستصير في المستقبل سحباً حقيقية محملة بالأمطار، وتلك هي القضية العظمى على الدوام عند الفلاحين في شمال إفريقيا. وأما من جهة أخرى فإن عادة أهالي سلا في إحراق الطيور في يوم العنصرة تعتبر من البقايا الباقية من القرابين التي كانت جارية في العصور القديمة ولا تزال تلمس لها بقايا في الفلكلور الأوروبي، بمناسبة إشعال هذا النوع من النيران؛ فهم بهذا الفعل يدمرون بالنار روح النباتات المحسوبة على السنة التي قبلُ من أجل خلق روح أخرى، وقد كانوا يمثلون لهذه الروح تارة بإنسان وتارة أخرى بحيوان. وفي الأخير فإن في الإمكان أن نُدخل العنصرة في الحفل السنوي الذي يقيمه الكثير من البدائيين لإخماد نيرانهم والاحتفال بإشعال أخرى، وكذلك كان يجري الأمر في النيران التي كانوا يوقدونها للإلاهات الفستاليات في روما. غير أن ما يلفت الانتباه بشدة أن هذا الاحتفال قد كان الغالب فيه عند البدائيين أنهم يقيمونه للاحتفال ببواكر غلال الأرض؛ أكانت أرزاً أو قمحاً أو غيرهما من الغلال. ونحن نرى أن الطقس الذي جئنا على تصويره عند الرحامنة يشبه هذا الحفل من كل الوجوه. وأما طقوس الماء من رش وتعويم فإنها تعتبر من الطقوس التقليدية في الفلكلور الأوروبي، وقد جرت العادة عند الأوروبيين على الإقبال على هذه الطقوس في عيد القديس يوحنا، ومن المعلوم أن الكنيسة تخلد في ذلك اليوم عيد يوحنا المعمدان. ثم إن من الطبيعي لهذه الطقوس، التي لا تعدو على وجه الإجمال أن تكون رقى لجلب المطر، أن يقبل عليها الناس في الوقت الذي يكونون يهتمون لأن يؤمنوا للموسم الفلاحي الطاقة التي تمده بها أشعة الشمس. وفي هذا السياق تدخل العادات التي ذكرناها، والتي ليست تلك الذي تحدث عنها شينيي بأقلها غرابة. ونحن نرى أن هذه الطقوس في المغرب كما في غيره كثير من البلدان تكون وثيقة الصلة بطقوس النار. الشعالة إن الشعوب البعيدة عن خط الاستواء أكثر ما توقد النيران في وقت التحول السنوي، وتكون رقصات الراقصين والقفز غير المنظم من المحيطين، كما في «الرقصات الدائرية» في العصور الوسطى، يتغيون بها، من ضمن ما يتغيون، أن يسندوا كوكب النهار في سرعته. لكننا نشاهد احتفالات مشابهة في فترات أخرى من السنة، ولا يعشر عينا أن نهتدي لها إلى تفسير بعكس ما يقع لنا مع النيران حين التحول السنوي. كذلك يوقدون النيران في عيد الصوم الكبير وفي عيد الفصح، في الأول من مايو، ولهذه المناسبات جميعاً نسب قريب أو بعيد إلى احتفالات زراعية قديمة. وكذلك نرى الناس في المغرب يوقدون النار المعبرة عن الفرح في غير يوم العنصرة أيضاً؛ أريد بقولي النيران التي يوقدونها في عيد عاشوراء، المعروف عند العامة باسم «عاشور»، وكذلك يسمونه «عيشور» في بعض المناطق، كما في الجديدة. ورأينا في الرحامنة أنهم يوقدون النار ويرقصون من حولها، ويفعلون الشيء نفسه في مراكش، وفي ناحية الصويرة وناحية الجديدة؛ أي أنها ممارسة تكاد تكون عامة في الحوز كله. فالأطفال يجعلون أياماً قبل العيد يقفون في زوايا الشوارع وقد وضعوا أمامهم على الأرض مربعاً من القماش، ويجعلون ينادون على المارة : «اعطيني الشعالة»، أي اعطيني شيئاً لأصنع الشعالة. وأما في الرباطوسلا فلا تراهم يوقدون النيران في غير العنصرة، ولربما كان كذلك شأنهم في شمال المغرب، وإن كانت تعوزنا المعلومات في هذا الباب. ومن الواضع أن النيران التي يوقدونها في عاشوراء تتصل بنسب إلى بعض الاحتفالات الفلاحية التي كان يقيمها البدائيون في التاريخ الشمسي ثم انتقلت إلى التقويم القمري وصاروا يقبلون عليها في هذا العيد الإسلامي. ولهذا الضروب من الاستهواء شيوع في بلدان المغرب الكبير، وستسنح لنا فرصة للعودة إليها. طقوس المطر ولا يزال الناس إلى اليوم يراعون طقوس الماء ويقيمونها في مختلف الأوقات. فقد رأينا أن في مراكش يغلب أقبال الناس على هذه الطقوس في عيد عشوراء، وفي الجديدة يغلب الإقبال عليها في العيد الكبير؛ فتراهم يتراشون بالماء ويسمون ذلك الطقش «حليلو» . وقد جرت العادة عند الشياظمة، وليس يبعد أن تكون العادة جارية كذلك في مناطق أخرى، أنهم في عيد عاشوراء وعيد المولود (المولد النبوي) يأخذون منذ مطلع النهار، يتراشون بالماء إلى أن تبتل منه ثيابهم تماماً. ثم إن هذه العادة في رش الماء تعتبر عادة واسعة الانتشار في أنحاء المعمور بكونها طقساً سحرياً لطلب المطر، وهذا الأمر يدفعنا إلى الحديث عن الطقوس على نحو ما تُتداول عند الرحامنة. وليكن مبتدؤنا بالحديث عن الطقوس الشعبية. فالجفاف إذا استطال واشتدت وطأته احتشدت نساء الدوار والأطفال وأخذوا مغرفة («تاغنجة»)، وشدوا إليها قصبة طويلة وشدوا إلى القصبة قصبة أخرى صغيرة على هيأة صليب، ثم يفرغون عليها من أجمل الألبسة النسائية التي يجدونها في الدوار؛ ويكون فيها قفطان الحرير وسبنية الحرير...إلخ.، ثم يجعلون يطوفون بها في الحقول. وتسير ترافقها النساء والأطفال وهم يرمونها بالماء ويرشون بعضهم بعضاً، وهم يرددون: تاغنجة حلات راسها يا ربي بَلْ خْراسها تاغنجة يا مرجة. يا ربي اعطينا الشتا. ونحن نتعرف في هذا الذي ذكرنا على طقس شتائي واسع الانتشار في أوروبا بقدر انتشاره في المشرق، ويتمثل في تغميس تماثيل القديسين أو ما يدخل مدخلهم من الصور المقدسة، في الماء. فقد كان القرويون في أوروبا يغمسون في الماء تمثالَ مريم العذراء، وقد كان الشانات يغطسون في الماء تمثال بودا، وكان الرومان يلقون في كل سنة بدمية في وادي تايبر... وكان البدائيون كثيراً ما يصنعون دماهم من المغارف. وأما في الوقت الحاضر فمن الواضح أنه قد صارت لهذه الدمية دلالة سحرية خاصة تستمدها من وظيفتها المألوفة. ثم إن هذه الدمية التي جرى تهذيبها على هذا النحو ربما كانت تُتخذ بديلاً عن شخص حي، على نحو ما يتراءى لنا من بعض العادات كمثل ما هي العادة التي كانت عند المصريين إذا رغبوا في التعجيل بفيضان النيل ألقوا فيه بعذراء مكمولة الزينة، وقد أصبحوا يمثلون لها اليوم بعمود من الطين يسمونه «عروساً» أو خطيبة. ومعظم الأقوام البدائية تعود بالمعاملة السيئة على تماثيلها متى لم تحقق لها ما تطلب وتريد. وقد كان الناس في بلدان كثيرة ينقلبون على الملك الإله، أو القس الأكبر، بسوء المعاملة، وحتى ليهددوه بالموت متى امتنع عنهم المطر أو لاح لهم ما ينذر بأن سيُبلون بسوء المحاصيل. وكان بعض الرحل في جنوب المغرب إذا خرجوا في غزواتهم حملوا معهم أولياءهم ليتبركوا بهم، فإذا لم يوفقوا إلى ما يريدون أنحوا عليهم بأحط السباب وشنيع الشتائم. وكان الناس في مراكش إذا اشتد بهم اليأس توجهوا إلى [ضريح] سيدي بلعباس وجعلوا غطاء على إحدى الشمعدانات التي تضيء [قبر] الولي دلالة على الحط من قدره. وأما الرحامنة فإذا استطال بهم الجفاف خرجوا للبحث عن ولي، فإذا وقعوا عليه جعلوا حول عنقه حبلاً وجعلوا يضيّقونه عليه، ويقول مخبرونا إن الولي تتملكه حينذاك الجذبة ويشرع في الدعاء. ثم إنهم يجعلون في الوقت نفسه يرشونه بالماء، وإن هم لم يلقوا به حوض مائي فإنما لعدم وجود ذلك الحوض لديهم. غير أن هذا التعويم القسري يُجعل للأولياء في حالات الجفاف شيء واسع الانتشار في شمال إفريقيا. ويمكن أن نذكر على سبيل التمثيل أن الناس في بسكرة إذا وقع لهم الجفاف قاموا أولاً بصلاة «الاستسقاء»، ثم أقاموا مأدبة كبيرة غير أنهم يقتصرون فيها على الكسكس وحده. وبعد ذلك يقوم شيوخ القرية باختيار شخص يكون له نسب إلى الأولياء، ويؤثرون أن يكون من أولئك الأولياء الذين يتجولون في رث لا يخلو منهم مكان من هذه البلدان، لا يميزون فيهم بين مرتبة اجتماعية ولا طائفة دينية، ثم يجعلون يغطسونه في الماء ويمعنون في ذلك إمعاناً إلى أن يأخذ يصيح ويزعق في طلب الغوث. وأما في مناطق أخرى فلا تراهم يتخذون ولياً بل زنجياً أو زنجية، ويجعلون يغطسونه أو يغطسونها بكثير من المراعاة، فإذا انتهوا من تلك العملية كافأوه أو كافأوها بشيء من المال؛ فكذلك يفعلون في منطقة تلاغ بوهران ويكون اللون الأسود في هذه الحالة هو الحاسم، إذ يعولون على أن الأسود، الذي هو في التصورات البدائية لون السحب الماطرة، سيجلب لهم الأمطار. فيمكن أن نخلص من كل ما ذكرنا إلى أن طقس الاستحمام بالماء ربما كانت له دلالتان اثنتان : أولاهما أن فيه تعذيباً للإنسان المقدس على أن أخل بوظيفته فلم يجلب إلى الجماعة المنفعة التي كانت تنتظرها منه، وثانيتهما أنه طقس سحري يتوسل فيه، حسب ما نعتقد، بالماء من حيث إنه جالب للماء بالضرورة. وإنك تراهم في طقس الدمية يجعلون مثالاً مكان الولي. وأكثر من يمكن أن يكون طقس التجوال في الحقول على صلة بطقوس أخرى فلاحية، وذلك من جهة لأن المناسبات الفلاحية، ومثالها الحصاد، تكاد كلها تصاحبها طقوس الاستسقاء. وأما من جهة أخرى فإننا نعرف أن الدمية التي يُفرغ عليها من اللباس ويُطاف بها في الحقول تدخل في طقس سحري يُتوسل إلى زيادة قوة الروح الكامنة في الحَب. وهذا طقس نجده في المغرب كما في الجزائر. فأنت ترى أهالي بني خنوس في منطقة الأوراس يطوفون في الحقول في أوان البذر قد حملوا شاشية وعصا وحذاء بزعم أنها كانت لجدهم. والعادة نفسها نلاقيها كذلك عند قبائل الشلف. كذلك نرى الأهالي في ضواحي طنجة يطوفون في أواسط فبراير في الحقول وهم يحملون دمية قد ألبسوها من الثياب الفاخرة ويسمونها «ماطا». ولا تزال ترى الرحامنة يلجأون إلى وسيلة أخرى لرفع الجفاف، وهي المتمثلة في طقس الحبل؛ وذلك بأن تقف نساء الدشر على جانب من الحقل والرجال على آخر، ويأخذون يجذبون في ما بينهم حبلاً إلى أن ينقطع، وحينذاك يجعل المتفرجون يرشون الفريقين بالماء إلى أن يبتلا، ثم يجتمعون على كسكس. وقد سمعت من حدثني بوجود هذا الطقس كذلك عند القبايل الصغرى؛ وهو عندهم شديد الشبه بما ذكرنا، إلا من خلوه من الرش بالماء، وأنه إنما يقام على سبيل اللهو فحسب. وربما وقعنا على معلومات أخرى بما يفيد أن هذا الطقس يقام بغرض استجلاب المطر، أو يقام في طلب تغيير الأحوال المناخية. لكن وإن لم يتسنَّ لنا أن نقع على ما يؤكد لنا هذا المعنى فإننا نميل إلى اعتبار هذه اللعبة بقيةً من طقس سحري قديم، كمثل ما هي لعبة الكرة. ونجد الطقس نفسه كذلك عند بعض الأقوام البدائية، كمثل الإسكيمو الذين لاشك أنه يرمز لديهم إلى التعارض الحاد بين الفصل الساخن والفصل البارد. فلاغرابة إذن أن يكون هذا الطقس يُرمز به في حالات أخرى إلى الصراع القائم بين الشتاء والحر. ويجدر بالملاحظة انتهاء أن في المناسبات التي تُقام لاستجلاب المطر كثيراً ما يكون الصراع والصياح والحركات تضطلع بدور هام. ونحسب أن الناس يعتقدون بأن من شأن كل تلك الحركات أن تهز السماء وتصيّر الجو وقد امتلأ من سحائب الخير. فهؤلاء أهالي سجرارة في الجزائر إذا ألم بهم الجفاف قاموا بما يسمى «وعدة الكور»؛ أي وعدة الكرة، وهي وليمة يقيمونها لأحد الأولياء ويصلون خلالها طلباً للأمطار، ثم يلبثون إلى جوار [ضريح] الولي، وما أن ينزل المطر حتى يأخذوا يصنعون كرات صغيرة من الوحل ويجعلون يقذفون بها بعضهم بعضاً، وربما هم يفعلون طمعاً في استرسال الأمطار. ومهما يكن من أمر فينبغي أن نلاحظ الشبه الموجود بين هذا الطقس ولعبة الكرة جرياً على التفسير الذي جئنا لها به. ولامندوحة لنا، ونحن نخوض في هذا الموضوع، من أن نشير إلى الاحتفال الغريب الذي اعتاد الناس في فاس أن يحيوه في أوقات الجفاف؛ ذلك بأنهم يجعلون سبعين ألف حصى في سبعين ألف كيس ويسدونها، ثم يتلون عليها من آيات القرآن في أحد الأضرحة، ويلقون بها في وادي سبو. وقد وجدنا إشارة إلى حفل مشابه لدى أهالي طرابلس، بما يعني أنه طقس عام. ونحن نعرف لدى الأقوام الهمجية طقوساً مماثلة يقيمونها على ضفاف الأنهار أو عيون الماء. فالذي يبدو أن الناس يلجأون دائماً إلى الماء لطلب الماء، جرياً على مبادئ السحر الرباني. وهنالك حالات يختصر فيها الطقس إلى أبسط ما يكون، كما في رش الماء الذي سبق لنا أن أشرنا إلى أن الناس يقبلون عليه في يوم العنصرة وفي عاشوراء. وكذلك نراه لدى الجماعة المختلطة في تاقيطونت؛ فهم يقيمون الزرادي (وهي ولائم دينية [كذا!]) لطلب الماء، ونرى المشاركين يرقصون وقد ملأوا أفواههم بالماء ثم ينثرونه في الهواء وهم يصيحون : «إنو والرخا»؛ ومعناها «المطر والرخاء». وهنالك احتفالات أخرى تقام بقصد جلب الأمطار لكنها مختلفة تماماً عما ذكرنا؛ كأن يقدموا قرباناً يتمثل في ضحية يتناولها بالتعذيب، ولما نهتد بعد إلى تفسير مُرض لهذا النوع من الطقوس. ونجد شبيهاً بهذا الطقس قد درج عليه أهالي مزونة في الجزائر؛ فإذا اشتد عليهم الجفاف فوق ما يطيقون بحثوا عن ضبعة فجاءوا بها وهي حية ثم شدوها من ذيلها وجعلوا ثلاثة أيام يعذبونها ودفعوا إليها بالكلاب تنهش لحمها، وبعد ذلك يقتلونها ثم يدفنونها. الاستسقاء لقد خصصت العقدية الإسلامية صلاة خاصة لجلب المطر، هي المسماة «صلاة الاستسقاء». وهي تقام على صورة واحدة بطبيعة الحال في سائر البلاد الإسلامية، بما يغنينا عن إطالة الوقوف عندها في هذا المقام. وحسبنا أن نشير إلى عرف جار في هذه الصلاة كما يدلنا عليه حديث ينص على وجوب قلب الناس ثيابهم حين الاستسقاء. ولا يبعد أن يكون في هذا الطقس بقايا لطقوس الصراع الذي يحرك العناصر التي يُرجى منها قدوم الإله. والطريقة الصحيحة للقيام بصلاة الاستسقاء أن الغالب فيها أن تقام داخل القبيلة بإزاء القبائل الأضرحة، ويرفقها الناس بوليمة جماعية، وهي المسماة في المغرب ب»الموسم». والعادة تجري على أن تقدم بعد ذلك بعض الذبائح، وأكثر ما تكون التضحية بذبيحة سوداء، مصداقاً لما سبق لنا أن ذكرنا من الطابع السحري للون الأسود في صلته بطلب الأمطار. وعلاوة على ذلك فإننا قد رينا أن أهل الحوز حافظوا على طقوس قديمة كثيرة تدخل هذا المدخل. فقد جرت العادة في معظم المواسم التي تقام للاستسقاء على رش الأطفال بالماء. ويعتبر الماء شيئاً حيوياً عند أهالي شمال إفريقيا، وتزداد تلك الأهمية للماء عند ساكنة المناطق المجدبة، بحيث تكتسي لديهم صلاة الاستسقاء أهمية كبيرة من الناحية الدينية. فهم يقيمون التجمعات في الأضرحة، ويحضرها كبار الشخصيات، وما أكثر ما يحضرها السلطان أيضاً، وهم يقيمون تلك الاحتفالات كلما اشتد عليهم الجفاف. وربما كانت هذه المناسبات فرصة لبعض المتعصبين ليصبوا جام غضبهم على المسيحيين متى كان لهم وجود بينهم، وينحوا باللائمة عليهم في ما يتفق لهم من الجفاف. وقد ترى المسلمين أحياناً يفعلون عكس ذلك؛ وحتى لتراهم متى اشتد بهم اليأس من سقوط الأمطار يطلبون إلى المسيحيين أن يدعوا ربهم ليجود عليهم به، وربما ارتجوا منه الغوث. طقوس الاستجفاف وكما توجد طقوس للاستسقاء فكذلك توجد بعكسها طقوس بغرض منع الأمطار، لكنها طقوس يكاد لا يعرف بها غير أهل مراكش. والصراع القائم بين الرحامنة والسكان الحضر في مراكش ليس وليد اليوم. فالسكان الحضر يجدون كل مصلحتهم في أن تسوء المحاصيل، ليُحتاج إلى وساطتهم، فيرفعون حينئذ من أسعار المواد الغذائية. وكذلك تجد طقوس الاستجفاف يتعاطاها الرحالة والبغالة والمرافقون للمواكب والقوافل من كل الأصناف؛ إذ تكون حاجتهم في الطقس الصحو. فهم يأخذون إبريقاً من الفخار يصبون فيه زيتاً ويجعلونه تحت سقف قد اخترقه المطر ولا يزال يرشح منه الماء، أو يضعونه تحت خيمة، في موضع ينفذ منه الماء ويتساقط قطرات على الأرض. فإذا امتلأ الإبريق قاموا بدفنه في التراب فتنقطع الأمطار. وإن الدلالة السحرية لهذا الطقس لواضحة للعيان. والناس في مراكش خاصة يصنعون محراثاً صغيراً يشدون إليه قطاً ويجعلون يحرثون به حقلاً، فيكون فيه وقف للأمطار. وهذا الطقس يخالف في ظاهره معطيات الفلكلور المعاصر. فمن اليسير علينا أن نجد صورة للمحراث قد حافظت عليها مجموعة من الأقوام باعتباره وسيلة لجلب المطر. وأما القط فهو حيوان كثير الاستعمال في الطقوس الموجهة لدفع الجفاف. فربما كان أهل مراكش يستعملون هذا الطقس بطريق المحاكاة الساخرة. وأهل مراكش كثيرو الخشية من الأمطار الشديدة فهي تضر لديهم بأشجار النخيل، هو الذي لا يجود عليهم بكبير محصول حتى في السنوات الحارة. فإذا أرادوا أن يقوا أنفسهم الطقس السيء أخذوا غراباً وفقأوا عينيه ثم شدوه إلى نخلة. لكنه طقس لا نستبين له معنى.