الحلقة 7 يعتبر إدمون دوتي (1867-1926) من أبرز الكتاب الأجانب الذين اشتغلوا بالتعريف بالمغرب في إطار مهام استطلاعية واستعمارية معلومة. أصدر إدمون دوتي كتابه «مراكش» في سنة 1905، فكان واسطة بين مؤلفاته السبعة المذكورة. وهو كتاب ذو ملمح رحلي، جاء يرسم مسار مؤلفه الذي قاده من الدارالبيضاء إلى أبواب مراكش، مروراً بالجديدة وآسفي ودكالة وبلاد الرحامنة وبلاد الشاوية. وقد جاء الكتاب في فصول ثلاثة واشتمل على مجموعة كبيرة من الصور التي يعود معظمها إلى المؤلف نفسه، وجاء حاملاً طابع أكاديمية الرسوم والآداب الجميلة. إنه كتاب يصور جانباً كبيراً من عادات وتقاليد المغاربة في ذلك الزمان وجانباً كبيراً من معاشهم، ويجعل حاجة كبيرة إلى ترجمته للقارئ المغربي المعاصر. أفضل ما يلاقي المسافر من الغربان أن تكون الأنثى يتبعها الذكر2 /1 من أزمور إلى كراندو (27 مارس). المطر يغلف في هذا الصباح بمسحة من ضباب بيوت أزمور، فيزيدها حزناً على حزن، فكأن ما كان فيها من سحر ومن جمال قد ذهب عنها بذهاب ضياء الشمس؛ فإن هي إلا صورة لأطلال وخرائب. مدينة تكالب عليها الزمن وعوادي الطبيعة فهي تقرضها رويداً رويداً، ونتصور أهلها هامدين سقماء، فهي تتجرع موتها أن ضيقت على مدينتها، وقتلت فيها كل طاقة وكل حياة وأقبرتها في حياة من الزهد العقيم. فإذا المدينة قد باتت تموت بين أسوارها المشققة وتحت أسطحها المتداعية. غير أننا سنخطئ التقدير لو ذهبنا إلى الاعتقاد بأن هذه الحال تنطبق على مستقبل هذا البلد، لكن يسهل علينا أن نتصور كيف أن هذه الانطباعات قد كانت سبباً في نشوء تلك الخرافة التي تتحدث عن «مغرب بلد يموت». فهذا هو الحال في سائر البلاد الإسلامية؛ فيكون المغرب قد بدأ يحتضر منذ ما يزيد عن ألف سنة، وهو يعتبر في حد ذاته زمناً مديداً في حياة هذه الدولة. الانطلاق من أزمور انطلقنا مغتنمين فسحة قد انقشعت فيها الغيوم، في حوالي الساعة التاسعة والنصف صباحاً، فمررنا مسرعين خلال الجنانات التي يعمرها الصبار من حول أزمور، فيما أصحاب البغال يتصايحون بأعلى الأصوات : «آربي، آرجال البلاد آمولاي بوشعيب وصلنا بخير وعلى خير». لكن الجو كان لا يزال ينذر بكل التقلبات، فكانوا يتناولون بعض الفلوس، وهي عملة نحاسية زهيدة القيمة، وينثرونها على الطريق ثم يكررون ذلك الدعاء عسى أن يدفعوا عنهم سوء أحوال الطقس. وهذه من العادات شديدة الشيوع في منطقة شمال إفريقيا؛ فقد وقفنا عليها في الجزائر، فمن الأهالي من يؤمنون بها. وعلى كل حال فإن هؤلاء القوم يرون من الأسباب ما يرسخ لديهم هذه المعتقدات؛ فسرعان ما انقشع ستار السحاب كما لو بفعل سحر ساحر. وإن مثل هذه المصادفات يكون من لها من السلطان عليهم فهو يرسخ في أذهان هؤلاء الناس البسطاء من المسبقات ما لا تنفع مئة فشل بعد ذلك في زعزعة إيمانهم بها. وزاتانا الحظ كذلك بأن وقعنا في طريقنا على حذوة حصان، وهي في سائر بلدان العالم تعتبر فألاً حسناً. فالتجار المسلمون في هذه البلدان يؤثرون أن يتخذوا لهم حذوة يعلقونها في موضع من محلاتهم. نسير فوق هضبة متموجه، تغطي أرضها تربة من طينية ورمل ضاربة إلى الحمرة، ثم زادت حمرة بما انهمر عليها من الأمطار. غير أن هذه الأرض وإن تكن كثيرة الحصى بسبب من وقع فيها من انحلال للطمي في العصر الحديث، فإنها مع ذلك خصبة غنية. بيد أن المنطقة التي تمر بها الطريق قليلة ساكنة؛ فحيثما نظرت منها رأيت نبات البرواك ينصب قصباته المتينة ويستقبل شمس الربيع بالأزهار الرمادية التي تحملها عناقيده المتشابكة. ويقوم في بعض هذه الأماكن يمتد سور طويل مستطيل من حجارة لا يلحم بينها طين، وما عاد يزيد علوه عن قدم، فهو يحيط ببعض الثيران وبعض الأبقار التي ترعى في عشب قليل، ولا تفكر في الهرب. وعلى جنبات الطريق تقوم نباتات القويس وأزهار السوسن والبنفسج المتشجر؛ فهي تنشر جميعاً أزهاراً زرقاء، لكن تتفرد كل واحدة منها بميسم خاص. الحوزية وعلى وجه الإجمال فإن منظر الحوزية منظر شديد الرتابة. والحوزية هو الاسم الذي جرت العادة على أن يسمى به الخليط من الأقوام الذي يعمرون البلاد التي نمر بها الآن، والداخلون تحت إمرة قائد أزمور. وفي مواضع من تلك الناحية تقوم بعض النزالات، والتي نمر بإزائها في هذه الأثناء قد أقامها السراغنة، وهي من القبائل التي يُعملها المخزن لحفظ الأمن في البلاد. سيدي محمد العياشي كان لنا توقف لمدة خمس وأربعين دقيقة، ثم سرنا بعده لدقائق، فلاحت لنا من فوق بعض الهضاب القبتان الدالتان على [الولي] الشهير سيدي محمد العياشي. ولربما كانت الرتابة التي تطبع مسارنا هي التي تحملنا على نجعل للمواضع النادرة والمهمة التي نلاقيها في طريقنا فوق ما لها من أهمية، وربما كانت ذكريات الأمجاد التي كانت لهذا البطل الإسلامي تحرك فينا مشاعر المؤرخ، وربما كان الإجلال والتعظيم الذي يحمله له مرافقونا من المسلمين قد انتقلت إلينا عدواه، وربما كانت هذه الأسباب مجتمعة هي التي تجعلنا لا نمر بضريح هذه المثال بين الأولياء المحاربين من غير أن تنفعل نفوسنا نحوه ببعض انفعال. لقد كان العياشي في زمنه شخصاً مرهوب الجانب، وكان كما أسماه الرائع الأب دان «Laiasse». فقد حارب في البداية المسيحيين في نواحي أزمور. وإذا كانت كتب المناقب تؤثر الحديث في خصاله وفضائله وورعه وتقواه، فإنني أجرؤ أن أقول إنه قد كان رجل حرب ورجل دولة في المقام الأول. فهو قد «ولِد للخلافة»، كما قال عنه بعض مترجميه. وقد ولي قيادة أزمور، فحقق انتصارات باهرة باتت مصدر قلق لسلطان مراكش، فصار يسعى في التخلص منه. فلجأ إلى سلا حيث تلقاه المغاربة المطرودون من إسبانيا. وقد أصبح هؤلاء الأندلسيون ذوي مال ونفوذ، وصاروا يحكمون مدينة سلا، وقلما تجدهم في الاتفاقيات التي يبرمونها مع القوى الأجنبية يذكرون السيادة لشريف مراكش. ولقد أقروا بالعياشي رئيساً عليهم وصاروا يمعنون في التحرر من نفوذ السلطان. ثم قام «الولي العياشي» في سنة 1637 بعقد اتفاقية بشكل مباشر مع بريطانيا. فقد صار يومها السلطان الحقيقي على فاس، وكان نفوذه يشمل تامسنا مجتمعة، ويشمل الغرب وتازة. لكنه لم يلبث أن انقلب عليه الأندلسيون بعنجهيتهم، فلم يسلم لهم في شيء، وما غلبوا عليه إلا بعد أن خرجت عليه الزاوية الدلائية بعد ما كان منه نحوها من إهانة. ثم إن أعداءه لم يتمكنوا منه إلا بالمباغتة. فكان مقتله في سنة 1051ه (1641م)، غدراً بالليل بعين القصب في قبيلة الخلط. ويفيدنا الكتاب العرب أن قبره يوجد بجوار ضريح مولاي بوشتى، ولي فشتالة الشهير في جبالة، وأما القبة التي تطالعنا من بعد فإنما هي مزارة مكرسة له ولا تحوي رفاته. والخرافة التي نسجت حوله ليست بالكبيرة، ومعظم الوقائع التي تروى بشأنه هي ذات طبيعة تاريخية، ولا يُذكر له من الكرامات إلا قليل؛ فهي لا تزيد عن ذلك الجواز العجيب الذي كان منه لوادي أم الربيع وهو حامل، ورأسه التي ظلت من بعد مقتله تتلو القرآن... ويمكن إجمال أمجاده كلها في منجزاته الحربية قبل أن يصير ولياً، وكان بوجه خاص، كما لقبه مترجموه، «زرب الإسلام»، وهي الصفة التي امتدحه بها مؤبنوه من الشعراء. وها نحن أولاء قد دخلنا الآن بلاد أولاد بوعزيز، فإذا الدواوير كثيرة والأرض خصبة قد اعتُني بفلاحتها. ويوحى إلينا أن هذه بلاد عامرة بالسكان، وأن أهلها يميزون حيوية ونشاطاً. وبعد الساعة الرابعة وخمس عشرة دقيقة حططنا رحالنا في دوار حمو بن بريكة. ركوبة سيد العياشي (28 مارس). عدنا إلى استئناف المسير في الساعة السادسة وخمس وأربعين دقيقة من صباح [اليوم الذي بعد]، وتوجهنا ناحية خنق صغير، وهو الموضع الذي منه يتراءى للمسافرين القادمين من مراكش لأول مرة من بعيد ذلك النصبُ الدال على سيدي محمد العياشي؛ إنها «ركوبة» الولي. وقد وجدنا الخنق غاصاً بالحجارة، وتكون هذه الحجارة تتفاوت أعداداً وتتباين أحجاماً بطبيعة الحال حسب شهرة الولي. وقد انتصب كركوران عظيمان في مقدم ذلك الخنق وفي مؤخره، فضلاً عن ثلاثمائة رجم صغير وزيادة قد وضعت في الممرات العديدة والمتشابكة التي تشكل ما يسمى طريقاً في المغرب. وقد لزمنا أن نحترز كثيراً فلا نطيح بتلك الأهرامات الصغيرة التي يقيمها الزوار المتبركون؛ فمعظمها يوشك أن يتهاوى. التطير من الغربان لقد صارت البلاد تزداد غنى وخصوبة وفلاحات تقوم عليها ساكنة شديدة الكثافة. ويكثر الأولياء على امتداد الطريق، فقببهم البيضاء تطالعنا من بعيد وهي تأتلق في تلك النواحي، ومعظم تلك الأضرحة تقوم وسط مسوراتها غيضات صغيرة من العناب المشجر. الطريق تتوالى رتيبة، لكن زاهية بما يقع عليها من أشعة الشمس الربيعية. والغربان الناعبة التي تنقض زرافات على الجيف المتناثرة على جانبي الطريق لا تفلح في إفساد جمال هذه اللوحة. والطرق الكبرى في المغرب تعمرها جيف الدواب المركوبة التي تنفق من الإجهاد، ثم لا تجد من يفكر في دفنها أو حتى إزاحتها عن الطريق. والمغاربة، شأنهم شأن غيرهم من سكان منطقة شمال إفريقيا، يتطيرون من ملاقاة الغربان. فإذا خرج الرجل في سفره فصادف زوجاً من الغربان عده فألاً حسناً، وإذا كان العدد مفرداً عده فالاً سيئاً. وأفضل ما يلاقي المسافر من الغربان من الهيئات أن تكون الأنثى يتبعها الذكر. فالجزائري، ولا يبعد أن يكون المغربي كذلك، يقولان : «إلى صبحتِ على مسعود تابع مسعودة وما ربحتيش حسبني من أولاد الحرام». والغرب يطعم كل أنواع اللحوم، فهو لذلك لامحالة يكتسب جميع الصفات التي تكون للحيوانات التي يطعم لحمها؛ وقد كانت من خصاله أنه يتنبأ بالمستقبل. ولعل هذا الأمر هو الذي جعل الغراب، وطيوراً أخرى من الكواسر، يظل على الدوام طائراً يتفائل بها الناس أو يتشاءمون. لكن لونه الأسود وطعامه الكريه يجعلانه أكثر ما يكون مصدراً للشؤم. ولذلك تجد الناس يتحاشون تسميته في محادثاتهم. والمثل الذي ذكرنا لم يرد فيه اسم «الغراب»، بل استعيض عنه باسم «مسعود»، ومعناها سعيد الحظ. ويجدر بالملاحظة في هذا الصدد أن الكلمة التي يُراد بها في العربية الدارجة الشؤم هي «الطِّيرة»؛ من الطير. وعلى هذا النحو تدرجت الكلمة «» إلى أن صارت تعني «الطائر» وتعني «التطيُّر» مجتمعين. اللبن والتقينا في طريقنا فرقة من البهلوانيين الإسبان كانت عائدة من مراكش بعد أن أمضت فيها شهوراً ترفه بألعابها على السلطان. وقد كانت الفرقة تتألف من رجال ونساء وأطفال، وقد لبسوا جميعاً من رث الثياب، كما هو معهود في الغجر، ويسيرون الهوينى بدوابهم لا يلقون بالاً إلى شيء، وكأنهم متعالون عن كل ما يحيط بهم. وقد كانوا وهم الإسبان يحكون مع ذلك فرقة من بلاد الإسلام؛ فليس في سيماهم شيء قد يشذ بهم عن هذا المكان. ثم برزت لنا صبية من الأهالي إحدى الخيام القائمة على جانب الطريق، ودنت منا تبغي أن تقدم إلينا الحليب في قصعة خشبية. والمسلم إذا كان بيده إناء به حليب ومر به آخر في الصباح وجب عليه أن يقدم إليه منه؛ فالحليب ببياضه وعذوبته يعتبر فألاً حسناً على بقية اليوم. والمراد بالحليب ههنا «اللبن». والناس في شمال إفريقيا كثيرو إقبال عليه؛ فهم يجدونه شراباً منعشاً. ووحدهم أولئك الذين خبروا المسير في قيظ الصيف ومما فيه من عنت، وقيض لهم أن يستمتعوا باحتساء من ذلك اللبن ولو قدم إليهم في إناء لم يطمئنوا إلى نظافته، لدى مرورهم بأحد الدواوير كلما مررنا قرب دوار من الدواوير؛ هؤلاء وحدهم يقدرون هذا المشروب اللذيذ حق قدره. والأهالي يفرطون في الصيف في شرب اللبن، فيصيبهم، وهو الذي كثيراً ما يكون يمازجه تخمر، بالهياج، فتكثر بينهم النزاعات والمشاجرات، وهو أمر يلاحظه الموظفون القائمون على شؤونهم. ويقول أحدهم إنه «لذلك ترى الأهالي في ذلك الوقت من السنة يصفحون عن بعضهم في ما يبدر نحو بعضهم من الإساءة، ويرددون قولهم إنها «دعوة اللبن»؛ مرادهم أنه ليس بالأمر الجلل. ولما كان اللبن فالاً حسناً فلا يفوت الأهالي أن يقدموه إلى الضيف أو إلى من يمر بهم من عابري السبيل في كل مناسبة؛ فليس من الأدب أن يمتنع الضيف من شربه. وأما علية القوم والأولياء فإن الواحد منهم يقتصر في معظم الأحيان على أن يغمس أصبع في ذلك اللبن، فينقل إليه بركته والقداسة يتحلى بها شخصه.