الحلقة 17 يعتبر إدمون دوتي (1867-1926) من أبرز الكتاب الأجانب الذين اشتغلوا بالتعريف بالمغرب في إطار مهام استطلاعية واستعمارية معلومة. أصدر إدمون دوتي كتابه «مراكش» في سنة 1905، فكان واسطة بين مؤلفاته السبعة,. وهو كتاب ذو ملمح رحلي، جاء يرسم مسار مؤلفه الذي قاده من الدارالبيضاء إلى أبواب مراكش، مروراً بالجديدة وآسفي ودكالة وبلاد الرحامنة وبلاد الشاوية. وقد جاء الكتاب في فصول ثلاثة واشتمل على مجموعة كبيرة من الصور التي يعود معظمها إلى المؤلف نفسه، وجاء حاملاً طابع أكاديمية الرسوم والآداب الجميلة. إنه كتاب يصور جانباً كبيراً من عادات وتقاليد المغاربة في ذلك الزمان وجانباً كبيراً من معاشهم، ويجعل حاجة كبيرة إلى ترجمته للقارئ المغربي المعاصر. التجار المسلمون يقبلون بكثرة على أسواق السبت لأنهم لا يخشون فيها المنافسة من اليهود الصهريج (30 مارس). بدأنا مسيرنا هذا الصباح في الساعة السادسة وخمس وأربعين دقيقة. وامتد بنا المسير في أرض مستوية. فكنا نرى سلسلة الجبيلات كيف ترتسم خيالاتها بوضوح وسط مساء زرقاء، ومن ورائها تشكل جبال الأطلس خلفية بعيدة بقممها التي اكتست من الثلوج حلة فضية. الأرض تغطيها تربة صوانية تسلس للسير، وقد امتد فوقها ما يشبه البساط من أزهار السوسن البنفسجية متعددة الأشكال. ثم لم يكد يمضي علينا نصف ساعة حتى جئنا إلى «الصهريج» الذي يسمه مرافقونا «الشَّريج»، وهو دشر من حوالي أربعين نوالة، ويتميز باشتماله على خزان جميل مقبب («الصهريج» في العربية معناه «الخزان»)، لكنه صهريج لا ينقصه إلا الماء. وبطبيعة الحال فإن هذا المورد الذي يمكن عند الحاجة أن يفي بتوريد قطيع من خمسمائة من البهائم، لا يلقى عناية، وربما يكون اعتورته الشقوق فما عاد للماء أن يتجمع فيه. حب السهول واصلنا مسيرنا في ذلك السهل الذي يعرف عندهم في هذا الموضع باسم «البحيرة»، علماً بأن هذا الاسم يقتصرون به على الأقسام الواقعة إلى الشرق من الناحية التي نجتازها الآن، وهي تشكل في سفوح الجبيلات منخفضاً حقيقياً، فالماء يتجمع فيه خلال فصل الشتاء. إن هذا اليوم هو أجمل ما شهدنا إلى الآن من أيام الربيع في هذه البلاد؛ وينبغي للمرء أن يكون قد جال في هذه السهول الشاسعة المترامية لكي يدرك الشعور الممتع بالهناء والحرية الذي يجده الرحالة المتجول على صهوة حصانه في هذا المجال الممتع إلا ما لانهاية. وإن هذا لهو مصدر الولع الذي نراه من ضباط وموظفين كثر من الجزائر بالخلاءات الشاسعة المترامية في الهضاب العليا وفي الصحراء، وهو المفسر كذلك لتلك الذكريات الجميلة التي احتفظوا بها من تجوالاتهم في تلك الأنحاء. فكأنك تسمعهم جميعاً ولسان حالهم أن الشعور بالحرية الذي يبعثه في النفس هذا المجال الفارغ والوضاء لهو من أجمل المشاعر التي يمكن أن تتفق للإنسان على وجه الإطلاق. تتشكل طريقنا الآن من خمسين سبيلاً صغيرة؛ فهي تتقاطع في شبكة كأنها المتاهة، تتخللها فواصل مخضرة يزينها السوسن بتويجاته البنفسجية وتلقي عليها نوارة الكحيلة ذات التويجات الداكنة الموسومة بالأسود حاشية بديعة. الأرض يكسوها رمل غليظ مستوٍ فكنت أجد متعة لسماع هسيس ذلك الحصى إذ تصطك بها حوافر الحصان. وقد كنت لدى أول مروري بهذه الطريق لا أفتأ أفكر كم ستكون مواتية لعبور الجنود. لم نكن قد بدأنا يومها في التفكير في التعاون مع المخزن، ولا كنا نرى ضرورة للعمل بمبدإ الاختراق السلمي، وهو الأمر الذي صرنا بعدئذ إلى الاقتناع به من كثرة ما قمنا له نحن أنفسنا بالدعم والمساندة. أشجار السدر تراءت لنا عن مسافة بعيدة في ذلك السهل سدرة كبيرة، ومن نافل القول إنها تقوم لديهم مقام الولي. ثم تراءت لنا دزينة من تلك الأشجار الكثيرة الفروع والأغصان؛ إنه شجر مقدس. وتوجد في ذلك الموضع حويطة وكركور وشلاليك، وهي كلها أشياء تقوم تمثيلاً للأولياء. وقد رأينا أشجار السدر لا تزال من غير أوراق وما يشبه الرتم يتسلق أغصانها ويمد خلالها باقات من أوراقه الشبيهة بالأسل. وإن هذه السدرات القصيرة لهي أعز ما يطلب الرحالة الباحث في هذه البلاد عن شيء من الظل، وفي ما عدا أشجار التين والصبار التي رأيناها في السميرة يشكل السدر النبات الوحيد في هذه الناحية. غير أنك لا تعدم فيها كذلك زراعة الشعير، وما هي بالقليلة، وقد نصبوا فيها الفزاعات والأطفال يظلون طوال النهار يركضون خلالها متصايحين لإبعاد الطيور التي تهجم زرافات على تلك الزراعات. وتتخلل تلك الناحية عدة «غدران»، فالنسوة يأتينها لغسل الأصواف، وتدلنا تلك الغدران على أن أرض هذه البلاد أكثر رواء وأنها لابد أن تحمل بعض الزراعات. وها نحن الآن قد جئنا إلى «السوينية»، في سفوح الجبيلات، حيث ضريح سيدي أحمد [بن] الفضيل الذي يدلنا على مدخل المضيق الذي منه سنجوز تلك السلسلة الجبلية الصغيرة. -2بلاد الرحامنة لقد سبق لنا أن جئنا بعرض للتكوين التضاريسي لسطحي الهضبة الأطلنتية الجنوبية حسب ما ورد عند كل من بريف وفيشر. وسنرسم ههنا، على سبيل إضفاء جانب من التصوير على حديثنا، المسار من القلعة إلى كراندو، وهو المسار الذي سلكناه في سنة 1902 والذي يصل بين طرفيّ بلاد الرحامنة. (13 أكتوبر 1902). سرنا لأربع ساعات في مسير قد غددنا فيه الخطى، لنصل في الصباح الباكر إلى سوق الإثنين الذي ينعقد على مقربة من دوار أولاد إبراهيم لدى بني حسن، إحدى فخدات قبيلة البرابش. والغالب عند الناس أنهم يسمون هذا الدوار، وأحرى أن نقول دشر، لأنه يكاد لا يوجد فيه غير النوايل، [دوار] سيدي أحمد بن الجيلالي، وهو اسم قايد كان قد تعرض للعزل، وهو ينحدر من هذا الدوار ويعتبر إحدى أهم الشخصيات في هذا التجمع السكني. وقد كان حُبس لسنتين، ثم عاد بعد ذلك إلى موطنه فصار فيه يتمتع بنفوذ كبير. القشرة الكلسية لاشك أن هذه الطريق التي سلكناها هذا الصباح تكون مخضرة في فصل الصيف؛ فلا نزال تطالعنا فيها بعض الزراعات من حول القلعة. فإذا ابتعدنا قليلاً وجدنا القشرة الجيرية تغطي التربة فتقتل فيها منابع الخصوبة. وقد ذكر بريف أنه لو كان هنالك فلاحون أكثر نشاطاً وأكثر نباهة من الأهالي لأمكن لهم أن ينشئوا زراعات لا يستهان بها في هذه الأراضي. غير أن الأهالي لم يفتهم مع ذلك أن يتنبهوا إلى المياه فهم يجمعون جداولها عند الموضع من الأرض التي يبتغون فلاحته، فأمكن لهم أن يغمروا بتلك المياه سطح الأرض فيسهل فيها مرور المحراث. بيد أن هذا الفضاء الشاسع الممتد بين السراغنة والرحامنة والذي اجتزناه هذا الصباح قد وجدناه أشبه بالفارغ. وكذلك هو الشأن في سائر المناطق من المغرب الواقعة على حدود القبائل والتجمعات السكنية الكبيرة؛ فتلك مناطق تكون في عمومها قليلة حظ من الأمن وكثيرة المخاطر على الرحالة والمسافرين. دوار من الرحامنة نصبنا خيمتنا بين السوق والدشر، على مقربة من الطريق التي تقود من هذا الأخير إلى إحدى الآبار. إن هذه النظام الذي أعده معالي سي علال بطريقة ماكيافيلية قد مكن لنا أن نخوض في الحديث مع عدد من النساء من [دوار] أولاد إبراهيم قد خرجن لسقي الماء، فتجاسرن بغياب الرجال الذين ذهبوا كلهم أو جلهم إلى السوق، فلم يترددن في إشباع فضولهن الطبيعي بالتوقف لبرهة أمام خيمتنا. غير أنهن لم ينتبهن تحت الخيمة إلى آلة التصوير التي أخفيناها بكل دهاء ببعض البهارج فكانت تلتقط الصور من غير أن يُسمع له صوت. فقد التقطت صوراً فورية لفتيات وعجائز، من دون أن تفسدها حشود الأطفال الرحمانيين المتحلقين من حولنا. وزارنا كذلك «فقيه» الدوار، وهو شخص غير مود ينظر إلى الناس نظرة ازدراء وينغلق بنفسه في علومه. وقد بادرنا إلى نفحه بالقطعة البيضاء التي جاء متلهفاً إليها لكي نتخلص منه ومن حذلقته. وكذلك جاء لزيارتنا ابن القايد المخلوع، وهو شخص لا يعدم تميزاً وجاذبية. ولقد أرسِل إلينا عساه يظفر منا بأخبار بشأن ما كان يجري في مراكش. والحقيقة أن الرحامنة كانوا جميعاً في شدة تأثر لوفاة قائدهم القوي عبد الحميد، الذي كان في الوقت نفسه باشا على مدينة مراكش، فكانوا مترقبين لما يستجد من أحداث. وقد وجدنا هؤلاء الرحامنة أناساً متحفظين، لكن حفيين مرحبين على وجه الإجمال. البحيرة (13 أكتوبر). انطلقنا في الساعة الخامسة وخمسة وأربعين دقيقة، وسرعان وجدنا أنفسنا نسير وسط «البحيرة». وهم يطلقون اسم «البحيرة» على السهول شديدة الانبساط التي تغمرها المياه في فصل الشتاء. وتتشكل البحيرة في الحوز من منخفض من نحو 20 كيلومتراً طولاً وكيلومترين اثنين إلى ثلاثة عرضاً، وهي تمتد في سفوح الجبيلات على منخفض قد نجم، حسب ما يفيدنا بريف، عن قعيرة سويسرية. والموضع الذي يلبث فيه الماء أكثر مما في غيره يسمونه «المسجول». وهو الموضع الذي نجتازه في هذا الصباح، ولكننا وجدناه جافاً لاأثر فيه لماء، إذ الوقت الآن أواخر فصل الصيف. إنها أرض شديدة الملوحة تغطيها عفونات ضاربة لوناً إلى البياض، فهي أرض عقيم لا يطلع فيها غير الأشنان. فإذا كان فصل الشتاء تجمع فيها الماء؛ فقد رآها بريف خلال شهر دجنبر تجمع فيها من المياه بعلو 30 سنتيمتراً، بما جعل اجتيازها أمراً شاقاً عسيراً. ولاحاجة إلى القول إن جنبات هذا «المسجول» تأتيها القطعان الكثيرة من الأغنام لترد منها، فهي لذلك تكون بحق أغناماً ظاهرة السمنة. ثم إننا نوجد الآن في بلاد الرحامنة، لأن القسم الأكبر من بلاد الرحامنة، خاصة نواحي بني مسكين ونواحي أم الربيع، تكونها «خلاءات» مترامية ترعى فيها القطعان العظيمة من الأغنام. وما أن خرجنا من البحيرة حتى دخلنا «الغابة». وهي تتكون من أشجار سدر تتراوح ارتفاعاً بين مترين وثلاثة أمتار وفي صورة تسر الناظر. ومن اليسير علينا أن نتصور الحلة القشيبة التي تلبسها هذه الناحية في فصليّ الشتاء والربيع، بما يعمها من الخضرة فوق ما نرى فيها الآن. وتشكل الغابة، حسب ما يفيدنا بريف كذلك، نقطة التقاء واتصال بين التربتين المتشكلتين في العصر الثلاثي والعصر القديم والتي سبق أن تناولناهما بالحديث. ثم إن هذه الغابة ليست بالكبيرة، إذ لم نستغرق في اجتيازها ثلاثة أرباع الساعة، جئنا بعدها، في الساعة السابعة وثلاثين دقيقة، إلى «نزالة الغابة». فما عاد يطالعنا في تلك الناحية غير بعض أشجار السدر الصغيرة والنحيلة والمتباعدة، وسرعان ما اختفى حتى ذلك السدر الهزيل. الهضبة الهرسينية ها نحن الآن نجوس مترجلين في الأراضي القديمة من السلسلة الهرسينية القديمة، فأصبحت الأرض يكسوها حجر الصوان، والحصى الدقيق نفسه الذي سبق لنا أن رأيناه على الطريق من الجديدة إلى مراكش ها هو يطالعنا في سهل السميرة، ومعظمه من حُتات الكوارتز الناجم عن تفتت الصخور البركانية وهي فيه كثيرة كثيرة. وستظل الأرض على تلك الصورة لن تتبدل عنها حتى إلى كراندو. ولاحاجة بنا إلى القول إن منطقة هذا شأنها تكون قاحلة ماحلة، فحيثما تضرب فيها لا تكاد تلاقي إلا بعض الزراعات الفقيرة تقوم على فواصل بعيدة جداً بإزاء عين للماء. غير أننا يغلب علينا الاعتقاد أن هذه الهضبة الشاسعة التي نراها الآن في غاية الجدب والإيحاش تكون يملؤها العشب في الفصل الرطيب. وفي الساعة الثامنة وخمس وعشرين دقيقة جئنا إلى نزالة بن محمد، وساعة بعدها مررنا بإزاء شعفة صخرية تتخللها في سائر أنحائها سلسلة من الصخور يسمونها «الحجر البارك» [Hajer barek]، ومعناها «الحجر الراقد» [كذا!]، وهي تبدو في صورة غريبة قمينة بأن تحرك خيالات الأهالي بلاحدود. لقد تركنا على ميمنتنا الكنطور الذي تحدثنا عنه في ما سلف من هذا الكتاب. ثم مررنا بإزاء قرية للأولياء سليلي سيدي عبد الرحمان، وجئنا في الساعة العاشرة إلى بن جرير. بن جرير يستمد هذا المكان شهرته من القباب الخمس التي تنتصب فيه على مقربة من القرية، وهي قبة سيدي عبد الرحمان وقبة سيدي بن عزوز وقبة سيدي أحمد بناصر وقبة سيدي أحمد المراكشي وقبة سيدي أحمد بن عبد الصادق. وهي قباب بديعة كثيرة النقوش تزينها زخارف حمراء جميلة، وهي تشكل مجموعة غريبة في هذه البلاد الماحلة الموحشة. وعلى مقربة من هذا المكان توجد عدة آبار يقصدها الناس من الأماكن البعيدة لسقي الماء لمواشيهم. وبن جرير تشكل نقطة التقاء هامة من الناحية العسكرية والناحية التجارية والناحية الاجتماعية. في الساعة الواحدة وخمس وأربعين دقيقة تركنا بن جرير، وسرنا نضرب في أرض من الطبيعة نفسها، بله أقسى وأشد، لو أمكن أن يكون ما يفوقها قسوة وشدة. فهي أرض متحجرة قفر خلاء يعمرها حجر الصوان فتسمع له تحت أقدامنا صريراً وصريفاً. ثم لا يقع ناظرك في هذا المجال على أثر لخضرة، وليس غير الشعف الصخرية الرتيبة. ثم صرنا نقترب من قمم جبل أوزرن الذي كنا نراه منذ اليوم الذي قبلُ، ثم صرنا نعبره بعد أن مررنا بجماعة الطوالب التي تقوم في سفحه. والسفح الآخر لا يختلف في شيء عن السفح الذي اجتزناه؛ فهو على قدره خشونة وتحجراً. فما أسرع ما تفسد حذوات الدواب من السير في مثل هذه الأرض، ولا نأمن عليها العواقب أن ندعها تخب فيها بالحوافر المجردة. ولم نجد بداً في الساعة الثالثة وخمس عشرة دقيقة من التوقف في قرية بن الجيلالي لثلاث أرباع الساعة عسانا نقع فيها على مصفح بعد أن فقدت اثنتان من دوابنا حدواتهما. ثم جئنا نصف ساعة بعدُ إلى القبتين التوأمين لسيدي امحمَّد وسيدي امحمَّد الجراري. وقد رأينا هنالك منخفضاً صغيراً به عين سرعان ما يختفي ماءؤها في أحد الأودية، كما طالعتنا بعض الزراعات القليلة في القرية المسماة البريكيين، ولاحت لأنظارنا كذلك سوق السبت. وسنلاحظ أن الأسواق التي تنعقد أيام السبت يكثر عليها إقبال الناس في الحوز. غير أنها لا تكون بالمواتية للأهالي لاعتبارات عديدة بقدر ما تواتي التجار منهم؛ ذلك بأن اليهود الذين يكاد يعود إليهم وحدهم احتكار عدد من السلع لا يحضرون الأسواق التي تنعقد في ذلك اليوم. فترى التجار المسلمين يقبلون بكثرة على أسواق السبت لا يخشون فيها منافسة. (15 أكتوبر). تركنا سوق السبت في الساعة السادسة وأربعين دقيقة، وعدنا إلى مواصلة مسيرنا الشاق الطويل خلال أحجار النضيد والسماق والصوان القديمة. ثم إذا الأرض قد صارت شديدة الوعورة، لكن المياه غدت أوفر مما رأينا في الأيام التي قبلُ. وطالعتنا في أنحاء من تلك المنطقة بعض الأراضي الصغيرة قد طلعت فيها سيقان الشعير. ورأينا بعض المنخفضات بها عيون من الماء يحف بها الأسل والقصب، وتلك أشياء يندر أن تراها في بلاد الرحامنة. وفي الساعة السابعة والنصف أو نحوها جئنا إلى روضة صغيرة غناء يقال لها «عين البريدية»، وهو الاسم نفسه الذي تعرف به العين التي تسقي القسم الأعظم من مدينة وهران، والمساة «البريدية». في هذا الموضع مبتدأ القمم الصغيرة في جبل الشويخان التي جعلنا نجوس خلالها في عسر ومشقة. ثم أخذت الدواوير تتكاثر دلالة على أننا نقترب من دكالة. ففي الساعة الثامنة وخمس عشرة دقيقة جئنا إلى دوار أولاد ناجي. ونصف ساعة بعدُ مررنا على مقربة من دوارين؛ واحد منهما هو دوار محمد الشاوي، ورأينا تلك الناحية قد امتلأت عشباً أخضر يانعاً قد طلع كما لو بسحر ساحر غب الأمطار التي تساقطت عليها ثمانية أيام قبلُ. ورأينا أزهار النرجس البيضاء البديعة، المسماة عندهم «رنجس»، برائحتها الذكية المميزة تكنف جنبات الطريق بتويجاتها المتفتحة الجميلة، وتخللت ذلك النرجس نثارات بنفسجية؛ تلك هي زهرة الخريف قد طلعت في تلك الأرض الصلصالية. ثم صارت الزراعات إلى تكاثر بالتدريج، وأخذ يطرق أسماعنا خرير المياه في بعض العيون الصغيرة المتفرقة في هذه الناحية. فنحن الآن في بلاد الرحامنة وهي بحق أكثر مناطق هذه البلاد ماء. ولكن على الرغم من ذلك فإن تربتها من طبيعة صوانية، بما [يحرمها الفلاحة و] يجعل تربية الماشية هي المورد الوحيد والمهم لعيش السكان. وبعد أن لبثنا ساعتين نضرب في الثنيات الكثيرة والرتيبة المتخللة جبل الشويخان، ها نحن قد جئنا إلى سفح مرتفع صخري كبير لم نعد نتذكر اسمه. وهنالك رأينا على مقربة من أحد الدشور سبع حويطات وبإزاء كل واحدة منها مقبرة صغيرة. ويسمى عندهم هذا الموضع «سبع رواضي»، أي سبع مقابر. ومن المؤكد أن هذا المكان يضم تجمعاً للأولياء، على غرار «سبعة رجال» في مراكش، والذين سنعود إليهم بالحديث في ما يقبل من هذا الكتاب. ولو أن الوقت أسعفنا بالتوقف في هذا المكان فلاشك أننا كنا سنسمع من أفواه أهله بعض الأساطير، لولا أننا كنا في شدة عجلة. فاجتزنا ذلك المرتفع الصخري. ثم لاح لأنظارنا دوار آخر، فمرتفع آخر، وإذا البلاد قد صارت تعمرها الزراعات. ثم طالعتنا من بعيد قصبة كبيرة ناحية اليمين، ثم إذا الطريق قد صارت تمتلئ بالسابلة، وصارت الوجوه غير الوجوه؛ فقد خرجنا من بلاد إلى أخرى؛ ونحن الآن في دكالة. وفي حوالي الساعة الحادية عشرة تبدت لنا بعد لأي «كدية» كراندو والأطلال الشهيرة المشرفة عليها والتي يقال إنها تعود إلى البرتغاليين. إن المسار الذي جئنا له بهذا التصوير المقتضب يحيط بالقسم الأكبر من الرحامنة كما نعرفهم اليوم، وأما مجالهم الترابي فإنه يمتد كثيراً إلى الجنوب، فيشمل الجبيلات ويصل حتى مشارف مدينة مراكش. -3الرحامنة يطلق اسم «الرحامنة» على أعراق عديدة استوطنت سائر مناطق شمال إفريقيا، وهو اسم علم عربي بصيغه جمع. ومن قبيل ذلك أننا نجدهن في الجزائر يقولون داودة من داود ويقولون المناصر من منصور ويقولون الغنانم من غنام، إلخ... وفي المغرب يقولون الرحامنة من عبد الرحمان ويقولون المناصرة من منصور ويقولون الرواشد من راشد... ثم إن هذه الطريقة في التسمية ليست مقصورة على التجمعات الكبرى من الناس، فإنك تجد حتى الدشور والدواوير لها أسماء من قبيل الغوانم والنواصر والفوارس، وهي مشتقة بطبيعة الحال من غانم وناصر وفارس. ومعظم الأهالي يقولون في تفسير اسم الرحامنة إنه من جدهم المسمى عبد الرحمان...إلخ.، غير أن هذا التفسير لا يتفق والتصور الذي كوناه عن المجموعات الاجتماعية في هذه البلدان. فلا يمكننا القبول بأن قبائل الرحامنة تعود بنسبها جميعاً إلى جد واحد. ويجدر بالملاحظة أن فكرة القرابة وفكرة السيادة كانتا عند البدائيين شيئين شديدي التداخل، ولذلك وجب التسليم بأن المجموعة البدائية الرحامنة التي صارت في ما بعد إلى تنام واتساع، سواء بتكاثرها الطبيعي أو بانضياف عناصر جديدة إليها، قد كان لها في وقت من الأوقات زعيم يسمى عبد الرحمان، وأنه قد صارت تعرف منذئذ بهذا الاسم. فإن من العادات الشائعة عند الأقوام البدائية والهمجية أنهم يسمون القبيلة أو الفخدة باسم قائدها أو زعيمها. ومن المألوف كذلك في منطقة شمال إفريقيا نفسها أن تجد الدوار أو الدشر يتسمى باسم الوليّ فيه، وهذا شيء رأينا له أمثلة عديدة في الصفحات السابقة. أصل الرحامنة لم يكن الرحامنة يستوطنون في مبتدئهم المجال حيث يوجدون اليوم. فقد كنت حتى القرن السادس عشر لا ترى لهم بعد وجوداً في هذا المكان. والموضع حيث مستقرهم الحالي كان يدخل في المجال الواسع الذي تشغله هسكورة، وهي قبائل بربرية تنتسب إلى مصمودة، وكانت تشغل مجالاً ترابياً يمتد حتى سفوح الأطلس الكبير، ولا يزال لها فيه وجود إلى اليوم. وما كان الرحامنة في ذلك الوقت يزيدون عن فخدة من ذوي حسان التي كانت تتنقل بين سوس ودرعة والصحراء. وما كان نزولهم، ويحتمل أن يكون بأمر من أحد السلاطين، في المناطق حيث هم اليوم إلا في وقت لاحق. ويجدر بالذكر أن ذوي حسان هؤلاء من أصول عربية، وهذا يرجح أن يكون الرحامنة كذلك من العرب. والواقع أنهم يتصفون بكثير من الخصائص التي تنسب، إن صواباً وإن خطأ، إلى الإنسان العربي في منطقة شمال إفريقيا. فطبعهم الفروسي وما يتصفون به من صراحة ومضايفة كلها صفات تتوافق وما شاع الاتفاق على أنها خصائص وصفات الطبع العربي. كما أن لغتهم هي العربية وحدها، وهم في المقام الأول رعاة. لكن لا يبعد أن يكون الرحامنة تعرضوا لتأثيرات بربرية كثيرة، وهو شيء نلمس له سمات في كلامهم. والمحصل أننا نذهب إلى الاعتقاد أنهم قد خلفوا بكل تأكيد البربر الذين كانوا يشغلون المجال حيث هم اليوم. ولربما ذهبنا إلى الاعتقاد كذلك أنهم اختلطوا بهم إلى أن صاروا يحتوونهم بوجه من الوجوه.