خصص دستور 2011 الباب السابع منه للسلطة القضائية، ونص على أنها مستقلة عن السلطتين التشريعية والتنفيذية (107)، وعلى أن قضاة الحكم لا ينقلون ولا يعزلون إلا بمقتضى القانون (108)، كما منع كل تدخل في القضايا المعروضة على القضاء (109)، ونص على أن المجلس الأعلى للسلطة القضائية يسهر على تطبيق الضمانات الممنوحة للقضاة، ولا سيما فيما يخص استقلالهم وتعيينهم وترقيتهم وتقاعدهم وتأديبهم (113). في نفس السياق، تضمن الدستور عدة مقتضيات تكرس حقوق المتقاضين وقواعد سيرالعدالة، من بينها أن حق التقاضي مضمون، ولكل شخص الحق للدفاع عن حقوقه وعن مصالحه التي يحميها القانون (118). ويعتبر كل مشتبه فيه أو متهم بارتكاب جريمة بريئا، إلى أن تثبت إدانته بمقرر قضائي مكتسب لقوة الشيء المقضي به (119)، ولكل شخص الحق في محاكمة عادلة، وفي حكم يصدر داخل أجل معقول، كما أن حقوق الدفاع مضمونة أمام جميع المحاكم (120)، وينبغي أن تكون الأحكام معللة وتصدر في جلسة علنية (125)، كما منع الدستور إحداث محاكم استثنائية (127). كما صدر القانون التنظيمي للمجلس الأعلى للسلطة القضائية والنظام الأساسي للقضاة، والنظام الداخلي للمجلس، وقانون التفتيش القضائي، وهي نصوص تضمنت عدة مقتضيات تصب في اتجاه تنزيل الضمانات الدستورية المخولة لاستقلال القضاء فرديا ومؤسساتيا، لكن تنزيل هذه القوانين على أرض الواقع كشفت عن مجموعة من الصعوبات، سنحاول تسليط الضوء عليها في هذه المقالة والتي سنخصصها للجانب المتعلق بتدبير الوضعية الفردية للقضاة. حصانة القضاة ضد النقل من المعلوم أن حصانة القضاة ضد النقل تكتسي أهمية بالغة لدرجة أن المشرع ارتقى بها الى مرتبة الحق الدستوري، وهي شرط من الشروط الضرورية ليؤدي القضاة مهامهم بكل استقلالية، لذلك جاء القانون التنظيمي ليكرس هذه الضمانة، ويقيد حالات النقل دون طلب باعتبارها استثناء، وهو ما كرسه أيضا اجتهاد المجلس الدستوري حيث جاء في قراره رقم 992.16 بتاريخ 05/03/2015 بشأن النظر في دستورية قانون 106.13 المتعلق بالنظام الأساسي للقضاة في شأن المادة 72 ما يلي : "حيث إن المادة 35 تنص على أنه "يقبل كل قاض تمت ترقيته في الدرجة المنصب القضائي الجديد المعين به وإلا ألغيت ترقيته، وفي هذه الحالة يسجل في لائحة الأهلية برسم السنة الموالية"، وإن المادة 72 تنص على أنه "يمكن أن ينقل القاضي وفق المعايير المنصوص عليها في القانون التنظيمي المتعلق بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية في الحالات التالية: – بناء على طلبه؛ – على إثر ترقية في الدرجة؛ – إحداث محكمة أو حذفها؛ – شغور منصب قضائي أو سد الخصاص"؛ وحيث إن الدستورنص في فصله 108 على أن قضاة الأحكام "لا ينقلون إلا بمقتضى القانون"؛ وحيث إنه، لئن كان عدم القابلية للنقل من الضمانات الأساسية المخولة لقضاة الأحكام، التي لا يجوز المساس بجوهرها باعتبارها من مظاهر استقلال السلطة القضائية، فإنه يستفاد مما ينص عليه الفصل 108 المذكور من كون قضاة الأحكام لا ينقلون إلا بمقتضى القانون، أن المشرع يجوز له أن يحدد حالات معينة يمكن فيها، بصفة استثنائية، نقل هؤلاء القضاة؛ وحيث إن الدستور نص أيضا في فصله 118 على أن "حق التقاضي مضمون لكل شخص للدفاع عن حقوقه وعن مصالحه التي يحميها القانون"، ونص في فصله السادس على "مبدإ المساواة أمام القانون". وحيث إن حق التقاضي يعد من الحقوق الأساسية المخولة للمواطنين وضمانة رئيسية لإعمال مبدإ سيادة القانون، وأن مبدأ المساواة أمام القانون، الذي من مظاهره المساواة بين المواطنين في الولوج إلى مرفق القضاء، يستلزمان أن توضع رهن إشارة المواطنين، المحاكم الضرورية والقضاة اللازمون لجعل حق التقاضي المخول دستوريا للمواطنين حقا مكفولا فعليا؛ وحيث إنه، يتعين ضمان التوازن بين المبدإ الدستوري القاضي بعدم قابلية قضاة الأحكام للنقل إلا بمقتضى القانون، والمبدإ الدستوري الذي يكفل للمواطنين حق التقاضي؛ وحيث إنه، تأسيسا على ذلك، فإن المجلس الأعلى للسلطة القضائية الذي أناط به الدستور، بصفة أساسية، السهر على تطبيق الضمانات الممنوحة للقضاة ولا سيما فيما يخص استقلالهم وتعيينهم وترقيتهم وتقاعدهم وتأديبهم، لا يجوز له أن يقرر نقل قضاة الأحكام، في الحالات التي حددها المشرع، دون طلب منهم، إلا بصفة استثنائية، يبررها ضمان حق التقاضي المكفول دستوريا للمواطنين". وهكذا معلوم أن حصانة القضاة ضد النقل تصطدم بمبدأ آخر وهو استمرارية المرفق القضائي لذا أكد القضاء الدستوري على ضرورة احترام حصانة القضاة ضد النقل والتي لا يجوز المس بها والعمل على نقل القضاة دون رضاهم إلا "بصفة استثنائية يبررها ضمان حق التقاضي المكفول دستوريا للمواطنين"، ولا شك أن هذا الموضوع يرتبط بموضوع اخر وهو اشكالية العمل في المناطق النائية، وأعتقد أن معالجة هذا الموضوع يستوجب ضرورة البحث عن أساليب جديدة لحل هذا الاشكال من خلال الاعتماد على التحفيز وتحسين شروط استقرار القضاة بالمحاكم النائية، مع التأكيد على اعتبار نقل القضاة بدون طلب استثناء لا يجوز التوسع فيه، كما أن معيار المصلحة القضائية ينبغي أن يكون واضحا ومنضبطا حتى لا يتم التعسف في تفسيره. التعيين في مناصب المسؤولية والتعيين في المهام حدد القانون التنظيمي طريقتين في تعيين المسؤولين القضائيين: الأولى: تتمثل في التباري بعد اعلان المناصب الشاغرة والثانية: تتعلق بالتعيين المباشر أو شغل المنصب الشاغر عن طريق انتقالات المسؤولين. وأعتقد ان معالجة هذا الموضوع تقتضي تقديم مجموعة من المقترحات: -ينبغي تشجيع التباري على مناصب المسؤولية باعتبار هذه الوسيلة هي الأداة الرئيسية في تعيين المسؤولين؛ -مبدأ تكافؤ الفرص بين المرشحين خاصة القضاة الذين لم يسبق لهم ممارسة المسؤولية، يحتم على المجلس الأعلى للسلطة القضائية فتح باب التكوينات لفائدة الراغبين في الترشيح لمناصب المسؤولية، باعتماد التدريب القبلي الذي لا يقل أهمية عن التداريب اللاحقة؛ -ينبغي تنظيم مجال عمل الإدارة القضائية بقرارات ودلائل عملية لتكون السيدات والسادة المسؤوليين القضائيين على علم مسبق بحقوقهم وواجباتهم؛ -لا يمكن محاسبة المسؤول القضائي وحده على مردودية أداء المحكمة، وانما ينبغي الأخذ بعين الاعتبارات حجم الاكراهات الموجودة، وبالأخص الموارد البشرية والمالية الموفرة، لذا فإن تقارير أداء المسؤولين القضائيين المعدة من طرف وزارة العدل ينبغي للمجلس عند دراستها العمل على استحضار الإمكانيات المادية والبشرية المتاحة للوصول الى التقييم الموضوعي، ولما لا إمكانية إعطاء أجل للمسؤول القضائي قصد تصحيح الاختلالات الموجودة. -لا يمكن الأخذ بشكل تلقائي بنتائج التقارير الإدارية المدلى بها في الملف وانما ينبغي تعزيزها بأبحاث إضافية. -الاهتمام بتحفيز المسؤولين القضائيين ماديا ومعنويا واقرار تعويض عادل ومنصف لهم عن المهام الإضافية التي يقومون بها، وفي هذا الصدد يلاحظ ان قانون المفتشية العامة للشؤون القضائية وان أقر تعويضات لفائدة اطر المفتشية عن القيام بالتفتيش، إلا أنه أغفل التنصيص على هذا الحق بالنسبة للمسؤولين القضائيين الذين يقومون بدورهم بالتفتيش التسلسلي. -الاهتمام بتعيين نواب المسؤولين القضائيين باعتبارهم شركاء في الاضطلاع بمهام الإدارة القضائية، مع اعتبار التعيين في هذا المنصب رافدا للترشيح لمناصب المسؤولية، لكن ليس كرافد وحيد؛ -اتخاذ خطوات التمييز الإيجابي لتشجيع وصول النساء القاضيات الى مراكز صنع القرار اما من خلال التعيين في منصب المسؤولية أو من خلال التعيين في مناصب النيابة عن المسؤول. التأديب والاشكاليات التي تطرحها المادة 97 ومفهوم الخطأ في القانون من المعلوم أن التأديب يخضع للمقتضيات القانونية الواردة في قوانين السلطة القضائية، حيث يكون كل إخلال من القاضي بواجباته المهنية أو بالشرف أو الوقار أو الكرامة، خطأ من شأنه أن يكون محل عقوبة تأديبية. معالجة هذا الموضوع تستدعي الوقوف على العناصر التالية: -التوقيف الفوري للقضاة في حالة ارتكاب خطأ جسيم طبقا للمادة 97: الملاحظ أن هذه المادة حددت صورا لما اعتبرته خطأ جسيما من أهمها: الخرق الخطير لقاعدة مسطرية تشكل ضمانة أساسية لحقوق وحريات الأطراف؛ الخرق الخطير لقانون الموضوع؛ الإهمال أو التأخير غير المبرر والمتكرر في بدء أو إنجاز مسطرة الحكم أو في القضايا أثناء ممارسته لمهامه القضائية؛ ومن المعلوم، أن عددا من التجارب الدولية تميز في صور الخطأ بين الخطأ العادي والخطأ غير المستساغ أو الخطأ مع سوء النية. ولا شك أن المعيار المعتمد هو معيار المراقب المعتدل. وهنا لا بد من التأكيد على مجموعة من الأفكار: -الأصل هو حسن النية، لأنه لا يمكن أن نطبق هذا المبدأ على المتقاضين ويحرم القضاة من التمتع بقرينة حسن النية باعتبارها الأصل؛ -التوقيف الفوري هو استثناء وينبغي العمل به بشكل ضيق، لذلك استعمل المشرع عبارة "يمكن" التي تفيد التخيير لا الالزام، وهنا لا بد من الإشارة الى مسألة على درجة كبيرة من الأهمية تتمثل في حرمان القضاة الموقوفين مؤقتا عن العمل من الأجر رغم الطابع المعيشي لهذا الأجر وأهميته سواء للحفاظ على كرامة القاضي أو أسرته، والقانون تنبه لهذه المسألة، حينما أشار الى أن قرار التوقيف المؤقت ينص على "ما إذا كان المعني بالأمر يحتفظ بأجره طيلة مدة توقيفه، أو يحدد القدر الذي سيقتطع له منه باستثناء التعويضات العائلية التي يتقاضاها بأكملها؛ -ضرورة مراعاة مبدأ التناسب مع الخطأ المرتكب؛ -ضرورة وضع القرارات الصادرة عن المجلس الأعلى للسلطة القضائية في المادة التأديبية رهن إشارة القضاة، ولما لا طبع نشرات توزع على القضاة مجانا، ليكونوا على علم باجتهادات المجلس في هذا المجال، مع حذف أسماء المعنيين بالأمر حفاظا واحتراما للمعطيات الشخصية. بقلم: ذ .عبد اللطيف طهار عضو نادي قضاة المغرب بالناظور