البرلمان يستعيد لأول مرة دوره كممثل للأمة غير منازع الصفة مبدئيا، يعتبر البرلمان، في كل النصوص التشريعية عبر العالم، مصدر السلطة التشريعية بامتياز. لا تنازعه فيها لا الحكومة ولا رئيس الدولة. وفي المغرب، وعلى مر سنوات ما بعد الاستقلال، ظلت سهام الانتقادات موجهة لهذه السلطة التشريعية، معتبرة أنها لا تحمل من الاسم إلا بعض الاختصاصات، وبأن الضعف هو سمتها المميزة. صورة البرلمان المهزوزة هاته، محكوم عليها اليوم بالزوال، يقول أحمد الزايدي رئيس الفريق الاشتراكي بمجلس النواب لبيان اليوم، بالنظر إلى ما جاء به مشروع الدستور الجديد الذي أقر باحتكار البرلمان للسلطة التشريعية، وخوله ضعف ما كان يتمتع به من اختصاصات. مما يعني أنه أصبح المؤسسة التشريعية الأولى والرئيسية التي تلغي أية إمكانية للتشريع من خارج إطار البرلمان. فحسب مشروع الدستور الجديد، لن يقتصر دور البرلمان على التصويت على القوانين كما كان في دستور1996، بل أصبح يمارس السلطة التشريعية بكل ما للكلمة من معنى. ووفق نص مشروع الدستور، أضحى البرلمان مكلفا بالتشريع في مبادئ وقواعد المنظومة الصحية، ونظام الوسائط السمعية البصرية والصحافة بمختلف أشكالها، والعفو العام، والجنسية ووضعية الأجانب، ونظام السجون، ونظام مصالح وقوات الأمن، ونظام الجماعات الترابية ومبادئ تقطيع الدوائر الانتخابية، والنظام القانوني لإصدار العملة والبنك المركزي ونظام الجمارك، ونظام النقل، وعلاقات الشغل والضمان الاجتماعي وحوادث الشغل والأمراض المهنية، ونظام الأبناك وشركات التأمين والتعاضديات، ونظام تكنولوجيا المعلومات والاتصالات والتعمير وإعداد التراب، والقواعد المتعلقة بتدبير البيئة وحماية الموارد الطبيعية والتنمية المستدامة ونظام المياه والغابات. وهي صلاحيات تنضاف إلى الصلاحيات السابقة في دستور 1996. حيث ستظل اختصاصات التشريع متواصلة في مجال الحقوق الفردية والجماعية المنصوص عليها في الباب الأول من دستور 1996 المتعلقة بتحديد الجرائم والعقوبات الجارية عليها والمسطرة الجنائية والمسطرة المدنية وإحداث أصناف جديدة من المحاكم، وفي مجالات تهم النظام الأساسي للقضاة، والنظام الأساسي للوظيفة العمومية، والضمانات الأساسية الممنوحة للموظفين المدنيين والعسكريين، والنظام الانتخابي لمجالس الجماعات المحلية، ونظام الالتزامات المدنية والتجارية، وإحداث المؤسسات العمومية، بالإضافة إلى تأميم المنشآت ونقلها من القطاع العام إلى القطاع الخاص، والتصويت على قوانين تضع إطارا للأهداف الأساسية لنشاط الدولة في الميادين الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. مما يعني أن البرلمان، يقول أحمد الزايدي، «استعاد بفضل مشروع الدستور القادم دوره كممثل للأمة غير منازع الصفة، وهو الجهة الوحيدة التي خولها الدستور القادم حصريا مسؤولية التشريع، في الوقت الذي عزز كذلك الدور الرقابي للبرلمان. حيث بات رئيس الحكومة وأعضاء حكومته ملزمين بالحضور للجواب على أسئلة البرلمانيين، مع إخضاع الحكومة إلى مراقبة سنوية عبر عقد جلسة كل عام تخصص لمناقشة السياسات العمومية. ونفس الأمر بالنسبة لجميع المؤسسات الوطنية المدعوة بمقتضى الدستور القادم إلى تقديم تقاريرها لمناقشتها داخل البرلمان». هذه الصلاحيات الموسعة، مع بعض الاستثناءات المخصصة للملك، تجعل البرلمان، يقول كريم نيت لحو، عضو اللجنة المركزية لحزب التقدم والاشتراكية، وبشكل حصري، ليس فقط صاحب السلطة التشريعية، بل القلب النابض للحياة الدستورية، بعد سنوات طوال من الضعف سواء على مستوى صيغة المصادقة على القوانين أو على صعيد مراقبة عمل الحكومة. ويرى كريم نيت لحو، عضو الديوان السياسي لحزب التقدم والاشتراكية، في حديث لبيان اليوم، أن الدستور الجديد، الذي سيصوت عليه الحزب بالإيجاب، ينص على ضرورة أن يمتثل الوزير الأول أمام مجلس النواب مرة في الشهر، وسيكون مطالبا بتقديم الحصيلة أمام البرلمان عدة مرات خلال ولايته، وينص أيضا على مساءلة وزير أو أكثر داخل مجلس النواب دون أن يصل الأمر حد إسقاطه أو إسقاطهم من الحكومة. والقضية الجديدة المثيرة للانتباه حقا، يضيف المتحدث، أن مشروع الدستور الجديد يتيح إمكانية التقدم باقتراحات قوانين حتى بالنسبة لجمعيات المجتمع المدني في إطار مسطرة سينظمها القانون، كما ينص بصريح العبارة على منع الترحال السياسي وتنظيم عملية الحضور في جلسات البرلمان واجتماعات لجانه النيابية مع ترتيب الجزاء على المخالفين. وبحسب كريم نيت لحو، لا تعني الإصلاحات البرلمانية التي جاء بها الدستور أننا أمام نظام ملكية برلمانية. بل، يوضح المتحدث، «نحن بصدد مدخل يسير في اتجاه الملكية البرلمانية، لأن الوثيقة الدستورية الجديدة تضع بلادنا في أفقها، وتؤسس بشكل متين لبناء دولة عصرية ديمقراطية وقوية. وبالتالي، اعتبارها مدخلا لإصلاحات سياسية عميقة قادرة على تجسيد هذه المضامين في الحياة السياسية وفي مختلف مناحي الحياة العامة، وقادرة أيضا على إرساء حياة سياسية سليمة، وعلى إفراز نخب جديدة محلية وجهوية ووطنية في مستوى الطموحات والآفاق التي يفتحها الدستور الجديد» . وشدد نيت لحو على ملحاحية النضال، ليس فقط من أجل أجرأة وتنفيذ مضامين الدستور الجديد الذي مكن البرلمان من صلاحيات هامة جدا، والساعي إلى إقرار دولة الحق والقانون والحريات والعدالة الاجتماعية وكل عناصر بناء المجتمع الديمقراطي الحداثي، بل أيضا وأساسا من أجل إنجاز جيل جديد من الإصلاحات تواكب وتفعل مضامين الدستور الجديد الذي لا يعتبر غاية في حد ذاته بل بداية مرحلة جديدة قائمة على المبادئ الكونية لنظام سياسي ديمقراطي، يعد شرطا لازما للنهوض باقتصاد مغربي تنافسي ومنتج، قادر على رفع تحديات النمو والتنمية المستدامة والتشغيل. وهو ما ركزت عليه النائبة البرلمانية عائشة القرش التي اعتبرت الصلاحيات المخولة للسلطة التشريعية «جميلة جدا وطموحة للغاية بالنسبة لكل قارئ موضوعي لمضامين دستور يجعل المغرب رائدا على المستوى العربي، يحظى فيه النواب بسلطة حقيقية على غرار ما يجري في الدول المتقدمة التي تشتغل وفق دساتير تضمن توزيعا منطقيا للسلط، وتمكن البرلمان من صلاحيات كبيرة ومهمة جدا». بيد أن هذا التقدم الكبير الذي سيمكن البرلمان المغربي من وضع قطار الإصلاح الحقيقي على السكة السليمة، وهذا المحتوى الهام جدا للنص الدستوري الجديد، يبقى غير كاف، تضيف عائشة القرش في حديثها لبيان اليوم، ما لم تعمل الأحزاب السياسية على مواكبة الدستور الجديد من أجل تفعيله بالشكل الأمثل. فمن أحد شروط نجاح المرحلة الجديدة لما بعد الاستفتاء الإيجابي على الدستور، تقول عائشة القرش، إيجاد الآليات الضرورية للقطع مع سلبيات الماضي على مستوى الشخصيات التي تقدمها الأحزاب السياسية كمرشحين مؤهلين علميا وثقافيا ومترفعين عن استعمال المال الحرام، قادرين على دراسة مشاريع القوانين وعلى تقديم التعديلات وعلى مراقبة الحكومة وعلى المرافعة، معززين بشجاعة أدبية وسياسية. كما يفرض نجاح مرحلة ما بعد الاستفتاء على الدستور إعادة النظر في العتبة بما يمكن الأحزاب، خاصة تلك التي تتوفر على نخب متميزة وأطر رفيعة، من إيجاد مكان لها داخل الحقل التشريعي، والحرص على تفادي الانزلاقات بخصوص موضوع المساواة في اللائحة الوطنية، وتحديد موقف واضح بخصوص النصوص التنظيمية التي وقع ذكرها في سبع وخمسين موقعا من نص مشروع الدستور.