اكتسبت اللحظة المغربية الراهنة، مساء أول أمس الجمعة، عنوانها من خلال إعلان جلالة الملك عن مشروع دستور جديد.. (دستور 2011) يعلن أن مرحلة مغربية لفظت أنفاسها، وأن مقدمات مرحلة تاريخية جديدة كشفت عن نفسها، وبدأت تتأسس.. بعد انصرام 15 عاما عن آخر تعديل دستوري، وبعد 11 سنة على تربع جلالة الملك محمد السادس على العرش، يقدم المغرب على تغيير دستوري كبير، اعتبر من لدن الكثيرين أنه يقدم ملامح «ملكية جديدة». لقد حمل النص الذي سيستفتى المغاربة بشأنه في فاتح يوليوز المقبل، كثير تغييرات ومستجدات، والعديد منها لم يكن حتى في خانة التوقع إلى حدود السنوات القليلة الأخيرة، ووحدهم المناضلون والقوى الديمقراطية الحقيقية يمكن أن يدركوا حجم المسافات التي عبرها بلدنا ونضال شعبنا، أما من استحلى العمى والسلبية، فإنه لن يفلح في تقدير حجم المكاسب والتراكمات، وأيضا حجم ما قدم من أجلها من تضحيات. إن التحولات المجتمعية لا تكون بشكل خطي مستقيم، أو منسجمة مع نزوات الحالمين، إنها، عكس ذلك، أكثر تعقيدا وشمولية، وهي ترتبط بالبشر وبالبنيات وبالتراكمات وبالسياقات وبالقضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وهذا ما ينتج حركيات مجتمعية وديناميات تتباين سرعتها ونجاعتها بحسب ظرفيات كل شعب والقوى الممثلة لمطامحه ولمطالبه. غاية هذا التذكير المبدئي، أن نستحضر المسار النضالي لشعبنا وقواه التقدمية والديمقراطية، لكي نقيس اليوم حجم وأهمية المكاسب والمستجدات التي حملها مشروع الدستور الذي أعلن عنه جلالة الملك أول أمس. في السياق ذاته، سيكون من باب العمى المشار إليه أعلاه أن نغفل السياق الوطني والإقليمي الذي تحقق فيه الإصلاح الدستوري، فهو، وإن جسد تفاعلا ذكيا من لدن المغرب مع نبض الشارع ومع دروس ما شهده الجوار المغاربي والعربي، فإنه أيضا أكد على الدور الهام لحراك شارعنا وشبابنا في الشهور الأخيرة، ومن ثم فإن هذه الدينامية النضالية والاحتجاجية، خصوصا مغربيا، دفعت عقلنا السياسي الجماعي إلى التحرر من ثقافة تنظيمية ربما أنها صارت متجاوزة اليوم وتستدعي التأمل، كما أنها أسست لتفكير آخر لا بد أن يذهب بعيدا على صعيد علاقة التفاعل والترابط بين الخطاب والشعار السياسيين من جهة والفعل في الميدان من جهة ثانية، وهذا يفرض جر أفق التفكير إلى مداه، عبر التفاعل مع نضالات الشباب ومع تطلعاتهم إلى الانخراط في الشأن العمومي. «السياسة بشكل مغاير» تبدأ من هنا، أي من استيعاب قلق الشباب واحتجاج الشباب ومطامح الشباب، وبلورة ميكانيزمات تنظيمية وسياسية لتقوية هذا اللقاء مع حياتنا السياسية والحزبية، وبالتالي استثمار كل الطاقات الوطنية للنهوض بمشروعنا الديمقراطي المجتمعي. قد تبقى لدى البعض مطالب لم يعبر عنها مشروع الدستور الجديد، وقد يثير البعض بعض الالتباسات الشكلية، وقد يذهب البعض الثالث إلى الإصرار على لاءاته الغريزية من دون أن تقنعه كل دساتير الدنيا وجميع «التنازلات»..، لكن رغم كل هذا، فإن مشروع اليوم يختلف.. دستور 2011 يختلف عن دستور 1996 وعن كل الدساتير التي سبقته. دستور مملكة محمد السادس يختلف عن دساتير مملكة الحسن الثاني. دستور الملكية المغربية الجديدة يختلف في الصياغة وفي المنهجية وفي الأشكال وفي المضامين وفي التصدير وفي التبويب وفي كل شيء. دستور 2011 ينخرط في زمنيته بقيمها الحقوقية والديمقراطية الكونية، ولم يتردد في إبراز شجاعة الملك المغربي في مراجعة صلاحياته وإعمال فصل واضح بين السلط وتقوية صلاحيات الحكومة ورئيسها والبرلمان ودسترة الأمازيغية لغة رسمية في المملكة إلى جانب العربية، وإدراج المكون العبري ضمن روافد ومقومات الهوية الوطنية الموحدة، وتجريم التعذيب والاعتقال التعسفي والاختفاء القسري... دستور 2011 ينادي اليوم كافة المغاربة، وخصوصا الطبقة السياسية، بضرورة النفاذ إلى عمق الأشياء، وتفادي أن يخسر الوطن تحوله الديمقراطي الاستراتيجي. الدستور أفق، ومن دون شك سيخرج علينا مناهضون لهذا الأفق الديمقراطي والتحديثي، وقد بدأووا مناورات في الأيام الأخيرة تستهدف دسترة الأمازيغية وتهاجم مقومات الدولة المدنية والحريات الفردية وتختلق مخاطر وهمية، وقد نجح المغرب في استيعاب هذه المعركة المفتعلة، وتجاوز تشويشها، ومن المؤكد أن جماعات محافظة وعقليات إقصائية ورجعية ستعيد البروز مرة ثانية وثالثة، ما يفرض تقوية الجبهة الحداثية والديمقراطية، وبلورة توافقات واسعة في المجتمع بشأن الدستور أولا، ثم حول ما سيلي ذلك من إصلاحات سياسية واستحقاقات. لقد خلفت اللحظة الدستورية الراهنة ارتياحا واضحا في البلاد، ومن المهم الحرص على إنجاح مسلسل هذا الإصلاح، وفي نفس الوقت من الضروري التعبئة لتفعيل وإنجاح الإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية وتعزيز إجراءات وإشارات الثقة. إن الديناميات النضالية والشبابية في فضائنا العمومي، وعودة الحياة لعدد من أحزابنا الديمقراطية، كل هذا يؤكد أن البلاد تتوفر على طاقات وكفاءات لم تهرم، وإنما نضجت وكبرت واستوت قدراتها، وهي مستعدة للفعل، ولخوض النضال الوطني والسياسي، ومن واجب الأحزاب وأيضا الدولة تشجيع هذا الأفق، وتمتين الشروط الضرورية لنجاح هذا «الصحو النضالي» المواطن.