عاد الشاعر مظفر النواب بعد هجرة طويلة إلى بغداد، مدينته التي غادرها قسرا وهروبا من سنوات السجون والاختفاء والصراعات السياسية. ترك بغداد مكرها وعاد إليها أخيرا، عودة الطائر إلى عشه الأول، محملا بإشراقات العيش وإحياء الذاكرة التي ظلت معه وهو يهرّبها بين سطور قصائده وتتوزع بين لفات السجائر وقصاصات الصحف وأشرطة الكاسيت والفيديو وما استحدث تقنيا بعد، من يوتيوب وممكنات الشبكة الإلكترونية. ترك مهجره بعد قضاء سنوات من عمره، وبعد أن ثقلت أكتافه وصعبت حركته وشاب شعر رأسه، وبح صوته الذي أنشد فيه ما يحفظه وردده المقهورون والمنفيون والمغتربون في منافي أو سجون العالم. قصائده سجلت تاريخ العذاب العربي والقسوة التي كابدها، هو وجيله، في المعتقلات السرية والعلنية، والمنافي، القريبة والبعيدة، والجحود الذي عاناه في أيامه الأخيرة. رافضا في إبداعاته السكون والصمت وغدر الزمان والأصحاب وفداحة الخسارات التي تراكمت حقبا ومراحل.. تاركا لأيامه الطوال ما حملته، متمسكا بأغنيات أراد أن يعيشها قريبا من مسقط رأسه وعلى ضفاف دجلة الخير وشريعة النواب التي أحياها شعرا وغناء ولوحة فنية وأملا للقاء والنوم في أحضانها وأفياء بساتينها بعد طول الغياب والهجر والحنين والشوق والعتاب. كيف سيلاقيه العراق؟ كيف سيجد نفسه بين من تركهم خلفه وسبقوه إلى مرابعه؟ كيف سينام ويرى أمام بيته حواجز كونكريتية وسيارات همر أمريكية مدججة بكل أنواع الأسلحة ومختلفة الأحجام والأشكال. وتغطي سماءه مروحيات مزركشة ومرسوم عليها العلم الأمريكي وتمتد منها بنادق وكاميرات تراقب لهاثه ولوعته وكلماته التي أطلقها عليها يوما ما؟. وكيف يصافح من اغتصب بلاده؟!!. هل هو في توبة أم في غفلة الزمن الغريب؟. قال في رثاء الفنان الفلسطيني العربي ناجي العلي، الذي اغتالته يد الغدر في منفاه الأوروبي: آه من وجع الروح لو كان هذا العراق بدون قيود أتم مرارته وجذور النخيل لضمك بين جوانحه كالفرات ويأخذ ثأرك من زمن لا ضمير له ليس يكفي دماء الذين قتلوك لكن دماء مناهجهم ويكون البديل. آهته الطويلة هذه وحسرته المكتومة دليل صفائه ونشيج روحه، وكأنه يعرف أنها صرخته هو أيضا وربما الأخيرة. وهو القائل عنها في قصيدته «رحيل»: يا وحشةَ الطرقات لا خبر يجيء من العراق ولا نديم يُسكر الليل الطويل مضت السنين بدون معنى يا ضياعي تعصف الصحراء وقد ضل الدليل لم يبق لي من صحب قافلتي سوى ظلي وأخشى أن يفارقني وإن بقي القليل هل كان عدلٌ أن يطول بي السُّرى وتظلُّ تنأى أيها الوطن الرحيل كأن قصدي المستحيل. منذ ولادته في كرخ بغداد عام 1934 وهو يحمل صليب العراق، مسجلا بإحساسه المرهف، بالعامية العراقية المدينية وباللغة العربية الفصحى، قصائده التي شهرته ونشرته في المدن العربية ومنتديات العرب الأجنبية، وتغنى بها المعارضون والغاضبون والرافضون للصمت والخنوع، وصدق من كتب عنه: «حقق الشاعر العراقي مظفر النواب حضورا شعرياً واسعا، الذي يوصف بأنه شاعر القصيدة المهرّبة والممنوعة، في حنجرته ثمة جمرة دائمة، جعل من المباشرة والمنبرية سلطة شعبية عامة وذلك لسهولة حفظ قصائده، فما أن يقرأ الظافر النواب قصيدة ما وسط جمهور حاشد حتى يتم حفظها وتسجيلها وتداولها.. وكلما ازدادت شعبيته الجماهيرية كلما زادت في وجهه النقمة وأغلقت في وجهه الحدود. النواب منطقة شعرية محظورة ومحفوفة بالريبة والمخاطر». ولكنه ابن العرب الذين لم يناموا على ضيم، وقصائده فيهم معروفة. من بغداد إلى دمشق، مرورا بالكثير من العواصم والمدن العربية، ظل مظفر يكتب عنها بحب واسع وانتظار طويل وصبر كبير، وصارت قصائده أغان لأجيال وذاكرة محمولة متنقلة، ترنم بها الكثيرون ورددها من سمع بها واحتفظ بها سرا أو علنا من لخصت أوجاعه ولمت لواعجه.