وسط إشادة بأدائها الإيجابي..مؤسسة تجمع مسلمي بلجيكا تودع البعثة المغربية        المغرب في صدارة دول شمال إفريقيا في مؤشر الاستقرار العالمي الجديد    توقيف شاب يشتبه في تورطه في قتل حارس بطنجة    رقم معاملات المكتب الوطني للمطارات يتجاوز 5,4 مليار درهم    أسعار البصل والفلفل تلتهب وبرلماني يطالب بتدخل حكومي عاجل    نهضة بركان يعود بفوز ثمين من ملعب مضيفه أسيك ميموزا    برشلونة يحجز مقعده في نهائي كأس الملك    رئيس برلمان مجموعة دول الأنديز: المغرب شريك محوري لنا    ترامب يعد بفرض "رسوم متبادلة"    هونغبو يثمن اعتماد قانون الإضراب    المغرب يصدر سندات اقتراض دولية بملياري أورو    فاس.. أزيد من 140 مليون درهم لتعزيز نظام المراقبة بالفيديو    فوضى دراجات "Sanya" بطنجة تعيد إلى الواجهة مطالب التدخل الحازم للسلطات    أكثر من 340 مهاجراً يتسللون إلى سبتة حتى نهاية مارس    نتنياهو: الجيش الإسرائيلي يجزئ غزة    أمريكا تعزز وجودها العسكري في الشرق الأوسط    أداء سلبي في تداولات البورصة    خمس نقابات تعليمية تراسل برادة    استشهاد عسكريين مغربيين خلال مطاردة مهربي مخدرات على الحدود    مهرجان كان السينمائي.. الإعلان عن مشاريع الأفلام المنتقاة للمشاركة في ورشة الإنتاج المشترك المغرب -فرنسا    حوض سبو.. نسبة ملء السدود تناهز 52 في المائة        "الكورفاتشي" تستنكر سوء المعاملة في مباراة بيراميدز            توقعات أحوال الطقس ليوم غد الخميس    إطلاق دراستين جديدتين والكشف عن معطيات جديدة بخصوص نفق المغرب وإسبانيا    غياب شروط العلاج والظروف غير الملائمة للتكوين تدفع طلبة طب الأسنان بالبيضاء إلى مواصلة الإضراب    السعودية تدين اقتحام بن غفير للأقصى        الخطوط الملكية المغربية تطرد طيارا أجنبيا بعد تصرف مستفز    دراسة: استخدام المضادات الحيوية في تربية المواشي قد يزيد بنسبة 3% خلال 20 عاما (دراسة)    وزارة الشباب والثقافة والتواصل واليونسكو تطلقان برنامج "مختبرات الشباب"    بعد إعادة انتخاب مكتب جديد انتخاب لحسن بلاج عن الاتحاد الاشتراكي رئيسا لمجموعة الجماعات الترابية التضامن السوسية بالإجماع    كأس الكونفدرالية.. نهضة بركان يواجه أسيك ميموزا اليوم الأربعاء بقميص خالٍ من خريطة المغرب    بسبب تأجج عطائه …اشرف حكيمي مرشح لنيل جائزة مارك فيفيان فوي    مجزرة جديدة في مخيم جباليا.. إسرائيل تستهدف عيادة "للأونروا" ومناطق أخرى في غزة    ثورة العقل النقدي العربي.. بقلم // محمد بوفتاس    "تهديدات تثير القلق".. قضية مارين لوبان تفجر نقاشا سياسيا ساخنا حول القضاء في فرنسا    المغاربة يطالبون بالعودة إلى توقيت غرينيتش والعدول عن الساعة الإضافية    مالي تنفي مزاعم الجزائر بشأن إسقاط مسيّرة مسلحة    بعد يومين من اتصال ماكرون وتبون.. صنصال يستأنف الحكم ومحاميه يطالب ب"بادرة إنسانية"    خبراء الصحة ينفون وجود متحور جديد لفيروس "بوحمرون" في المغرب    صلاح الدين بنعريم يستهل رحلة طويلة بالدراجة على طول 24 ألف كيلومتر من أوشوايا إلى ألاسكا    وزارة الشؤون الداخلية للدول    قناة فرنسية تسلط الضوء على تحولات طنجة التي حولتها لوجهة عالمية    وفاة أيقونة هوليوود فال كيلمر عن عمر يناهر 65 عاماً    إليوت بنشيتريت ويونس العلمي لعروسي يغادران جائزة الحسن الثاني للتنس مبكرا    إفران تحتضن الدورة السابعة من مهرجان الأخوين للفيلم القصير    بلجيكا تشدد إجراءات الوقاية بعد رصد سلالة حصبة مغربية ببروكسيل    السلطات البلجيكية تشدد تدابير الوقاية بسبب سلالة "بوحمرون" مغربية ببروكسيل    العيد: بين الألم والأمل دعوة للسلام والتسامح    القهوة في خطر.. هل نشرب مشروبًا آخر دون أن ندري؟    أجواء روحانية في صلاة العيد بالعيون    طواسينُ الخير    تعرف على كيفية أداء صلاة العيد ووقتها الشرعي حسب الهدي النبوي    الكسوف الجزئي يحجب أشعة الشمس بنسبة تقل عن 18% في المغرب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الفن في أبعاده الغرائبية
نشر في بيان اليوم يوم 01 - 04 - 2021

إدريس صواب، مخرج مغربي شاب يسير بخطى ثابتة على درب الإبداع الدرامي سفي ما يأتي مقاربة للتجربة التشكيلية للفنان المغربي الرَّاحل عباس صلادي (1950-1992) الذي بَصَمَ مساره الجمالي بإبداعات صادقة عبَّرت عن حياة قاسية عاشها مثل "زاهد ناسك" فضل العزلة والانفراد بالذات بعد أن تأكدت له مجانية الحياة المبنية على الخداع والأنانية وعدم الاعتراف..وقد واجه ذلك بإبداعات فنية قامت كثيراً على الغرابة والإلغاز الممتزج بالأبعاد الفانتازية والميتافيزيقية التي لم يكن فهمها وفك سرائرها أمراً سهلاً ومستساغاً لعمق التعبير وصدقيته لدى هذا الفنان النادر، المتفرِّد والاستثنائي..
تراجيديا الإبداع
برز الرسام العصامي عباس صلادي في وقت كان فيه المحترف المغربي منشغلاً بأسئلة الحداثة الفنية الطارئة، ولم يكن ولوجه مجال التصوير عاديّاً، حيث امتزج عنده الفن بدروس الفلسفة التي تغلغلت في فكره لما كان طالباً بكلية الآداب والعلوم الإنسانية في الرباط منخرطاً في الحركة الثقافية الطلابية ومدافعاً عنها، قبل أن يصاب بنوبة عصبية وورمدماغي رمى به نحو دائرة الانطواء المديد والاغتراب القاتم والمكوث الإكلينيكي الاضطراري لفترة بمستشفى الرازي للأمراض العقلية والنفسية في سلا.
وقد شكل تعاطيه للرسم في هذه الظروف الحياتية والنفسية الصعبة والمعقدة متنفسّاً كان ينتصر به على هذه "العزلة القسرية".تعود أولى الأعمالالفنية الرسمية لهذا الرسام إلى عام 1978، لكنَّه زاول الرسم قبل هذا التاريخ خفية وبعيداً عن الأنظارولم يكن يولي أي اهتمام لأعماله التي كان "يوجهها فقط للسماء..للسطح..لأناه، ولكل الناس الذين يصادفونه أو يمرُّون لرؤيته"، كما يقول. وظلَّ الرسم منذ هذه البداية يتماهي في لوحاته مع ذاته ومع ما يحيط به من تخييلات واستلهامات تصارع المنطق وتتجاوز الواقع، كان ينسجها على نحو "غريب" باعث على الحيرة وعصي على الفهم والتفكيك في العديد من الحالات. ولم يكن ابتعاده عن عالم الضوضاء والثرثرة والشهرة المجانية عداءً أبداً، قدر ما كان "اختياراً إجباريّاً" واستجابة للذات، كما لو أنه كان يردِّد مع إرنست همنغواي E. Hemingway "ابتعادنا عن البشر لا يعني كرهاً أو تغيُّراً، العزلة وطن للأرواح المتعبة".
اتَّسمت لوحاته التصويرية الأولى بالمنحى التشخيصي الفطريNaïf، حيث جسَّد فيها مشاهد اجتماعية مستوحاة من الحياة اليومية في مراكش: الحارات الشعبية ودروب المدينة القديمة (السمَّارين)، الحمَّامات، عربات التنزُّه (الكوتشي)، الكتاب القرآني (لمسيد)، المقاهي، بائعو الإسفنج (اللقيمات والفطائر)، نسوة بلباسهن التقليدي يتبادلن الحواديث..إلخ، قبل أن ينزع أسلوبه الفني لاحقاً وتباعاً نحو الغرائبية بما هي "لحظة اقتناص للحياة المتخيَّلة" بحسب توصيف رولان لوبيلR. Lebel، لاسيما بعد أن تشتت ذهنه وتفرَّق بسبب نكبات ومآسٍ اجتماعية حلت به (رحيل والده، فراقه المبكر مع أمه..) وبَدَت لوحات الجديدة تشكلها بلاغات بصرية مُغايرة عاكسة لجراحاته وانكساراته الوجدانية. من ثمَّ نَحَتْ إبداعاته الفنية منحى غرائبيّاًFantastique خارج المألوف وخارج ما هو شائع ومتداول محدثاً بذلك تحوُّلاً عميقاً في تصاويره التي أمست منذ ذلك الوقت مقترنة بنوع من "الفانتازما" الدَّالة على الخيال والغرابة والتهجين، وبَدَا فنه يُبْرِزُ اهتمامه بالغرابة على منوال ما قدَّمه بعض الرسامين السيرياليين والدادائيين والرمزيين والميتافيزيقيين منذ أواخر القرن التاسع عشر والذين ظهرت إبداعاتهم الفنية ك"حالة تقع ما بين الحلم واليقظة"(1).
هكذا انبثقت لوحاته الجديدة من رحم الألم والوجع، الأمر الذي جعل تجربتهالتصويريةتَتَّسِمُ بالحضور الرمزي للنماذج المرسومة في أبعادهاالتعبيرية الإيحائية، والتي نقرأ فيها بنيات فانتازية حاكية بأصوات متعدِّدة تقرِّرها المفردات التعبيرية (الشبه السريالية في تراكيبها) التي يوظفها: عصافير وطيور برؤوس بشرية، نسوة عاريات بسحنات فرعونية، صوامع، طواويس، شموع، شرفات وأقواس متجاورة..إلخ، وذلك وفقاً لتقنية لونمائية (أكواريل) دقيقة ومكسوة برمدة وبتخطيطات غرافيكية "تهشير"Hachuresإلى جانب تلوينات خفيفة وشفيفة تفرضها تقنية الرسم والصبغة المختارة (الغواش)، وكذا اقتصاره في بعض الأحيان على السواد والبياض باعتماد الحبر الصيني، كما في تشكيلاته وزخارفه الهندسية للأرضيات المكوِّنة للزليج (البلاط)، مثلما انبثقت لوحاته كذلك من ولعه بالمحكيات والسرود الشفاهية القديمة التي تُرَدَّدُ كثيراً على ألسنة الرواة الشعبيين، خصوصاً منها الحكايات التراثية المشوِّقة القائمة بدورها على الغرابة والإثارة التي تجسِّدها الأحداث والوقائع والقوى الأسطورية الفاعلة التي تنهض عليها الحبكة في هذه المحكيات والمسرودات المثيرة للدهشة والذهول والمتعة لدى السامعين والمتحلقين حول الحكواتيين، والتي ظلت تحتشد في ذاكرة الفنان صلادي لتغذي خياله الذي امتلأ بصور السِيَر وقصص الخوارق والأساطير والأحاجي الشعبية (لَخْرَايَفْ) الموسومة بالمبالغة والنأي عن الواقع.
ياله من احتواء رمزي مكثف للقص الشعبي، حيث لوحاته تخشى الفراغ، لتبقى بذلك مفعمة بعناصر التعبير. هذا الأمر جعل صلادي رسام الفضاءات والأمكنة بامتياز..فهو يؤثث أمكنته الجمالية ويعنى بتفاصيلها الحميمية (الساحة، البهو، الضريح، المسجد..)، وهنا نستحضر ولعه الشديد بالتشجير والتوريق وكأننا أمام أفضية تقليدية محملة بدلالات الحكي الحميمي والسرد الذاتي..
فالمنظور التعبيري الرمزي لدى الفنان عباس صلادي، يبدو منصبّاً حول البحث عن وفي كنه رموز لغته التعبيرية..رموز ونماذج تشكل أهم السمات المتعاودة في رسوماته التي تعكس عالمه الداخلي الخلاسي المشحون بكثير من الصمت والتأمُّل، لكنه يظلُّ في بوتقة انصهاره، لذلك أمست الترميزات لديه تمثل الضوء الوضاء الذي ينير ظلام حياته إلى أن فارق الحياة شابّاً في قمَّة عطائه الفني والإبداعي، بل ظلت ترسم أحلامه التي جعلت منه رسّاماًقضى معظم حياته غارقاً في تصويرية صباغية رمزية مشبعة برُوح فلسفية تتغيا تحقيق الحلم الحياتي المتجدِّد..
فلوحات صلادي برزت في شكل"حدائق غناء جميلة بألوانها الزَّاهية.. نساء عاريات أشبه بالفرعونيات يحطن بطواويس متهادية في مملكتها الحدائقية..شخوص عبارة عن أشجار نابعة من أسطح المنازل.. منازل وصوامع ونساء طيور.. زليج بيوت مغربية أصيلة..إمرأة عارية في حضن طاووس.. رجال ونساء وطيور..لوحات أشبه بالتمائم لنساء عاقرات، وهو عالم جامع لفناء الذي يوحي بالغرابة والأسطورة "(2)..
يتأسَّسالحوار البصري الحكائي في لوحاته وتصاويره من خلال العلاقة الأنطولوجية القائمة بين الإنسان والحيوان، وبين عوالم الفنان الفانتاستيكية الملأى بحمولتها الثقافية والقائمة على الغرابة والتفرُّد، مشكلة في غرائبيتها مقامات باطنية مشحونة بالقلق والاضطراب. لذلك، فإن عالمه التشكيلي "يظلُّ عالماً جوَّانيّاً خاصّاً، يقوم على ممازجة خلاَّقة بين رواسب الذاكرة الحكائية ونوازع اللاَّوعي وتجنيحات الخيال. وهذا ما يسبغ عليه فرادة وخصوصية فارقة"(3).
لا يَعتبر الرسام صلادي الفن نخبويّاً بالضرورة ولا حكراً على فئة دون أخرى، وهو بالنسبة له متاحاً، معلِّلاً ذلك في إحدى مقولاته القليلة: "الفن لا ينتمي إلى أيِّ أحد..والدليل هو أننا نجد في المحلات كل معدات الرسم..إنني حرٌّ كليّاً..لا ليس حلماً يضرب على معدته..إن بطني هو الذي أنجز هذا العمل..لا أمارس السباق مع الآخرين..إنني مجرَّد ساع ورسول..التفسير يتطلب وقتاً طويلاً.."(4)،لذلك كانت لوحاته تثير دهشة الناس بفعل الطابع الغرائبي الذي يَسِمُهَا، فهي تمنحهم الحق في الحلم وخلخلة خيالاتهم، بتكويناتها ونماذجها المرسومة على نحو خارق، مدهش للحواس ومخالف لما هو طبيعي وواقعيويصعب اعتماد العقل في فهمها وتفسيرها.
فما الذي تخفيه وتظهره لوحاته الفنية في آن؟ هي، دون شك،ردّ فعل سيكولوجي و"ترجمة ذاتية مليئة بمجموعة من التفاعلات النفسية كمرجع لتجاربه الشخصية السابقة من منظوره للحقيقة والوجود بمعتقداتها وتعقيداتها التي كوَّنت لها عالماً خاصّاً في ذهنه"(5). هذا العالم يحكمه البُعد الغرائبي الذي يتبدَّى في لوحاته من خلال مجموعة من المكوِّنات التعبيرية المتآلفة تربط الزمان بالمكان، وتمنح الأجساد والشخوص المرسومة سمات ميثولوجية تحمل في بنياتها العارية جزءاً من نعومتها وفطريتها، وتبدو مطروزة وموشاة بعناصر تراثية متنوِّعة تحيل على عوالم "ألف ليلة وليلة" وتتقاطع قليلاً مع فن الرسوم التصغيرية المنمنمة..
مجازات بصرية
أن يرسم الفنان عباس صلادي، معناه أن ينجز إبداعات لصورته الشخصية عبر تعبيرات بصرية أيقونوغرافية ترسم متاهات سير ذاتية "أوتوبيوغرافيا" تنهض كأطياف وكأشباح، بل ملأى بحالات الغشية والحضرة والانصهار الكلي مع الذات، لكنَّها لا تخلو من حب وجمال.
هذه المتاهات تجد صداها في بعض الميثولوجيات القديمة المليئة بالعجائب والغرائب التي يتفاعل فيها صراع الخير والشر، وتحيا فيها غرائز الحياة في مقابل غرائز الموت..ويبدو الفنان صلادي من خلال سيرته اللونية مشدوداً إلى الغرائبية، تجذبه الأمكنة الأخرى على نحو طقوسي Rituel يتلاءم مع كلام المصوِّر الإيطالي جورجيو دي شيريكو G. de Chirico: "يجب أن تعيش في العالم، وكأنك تعيش في متحف ضخم من الغرائب"(6).
صيغة إبداع الفنان صلادي تظهرفي شكل مشهديات ومجازات بصرية لمخلوقات من عالم غير عالمنا تعكس انغماسه في التشخيصية الرمزية الغارقة في التصوف الشكلي واللوني والمعتمدة تيماتيّاً على خطاب الغرابة الأيقونية التي تنبعث من عمق اللوحة، يساعده في ذلك توظيفه لعناصر رمزية مشفرة تدع القارئ أمام خيارات متعدِّدة من القراءة البصرية.
كم هي مذهلة ومحيِّرة هذهالتعبيرية المصاغة بأنفاس صوفية وبشفافية نورانية ترسم مساراً لونيّاً بأسرار ومكنونات سرمدية تبعث على التأمُّل في الذاكرة والجسد، أو على الأصح ذاكرة الجسد بما ينهض عليه من دلالات وموحيات رمزية يصعب فصلها عن التجربة الشخصية المثيرة التي ميَّزت الفنان..
تجربة استثنائية في التصوير العربي والمغربي كاشفة لأعماق نفس مهزوزة غذتها الهلاوس والهذاءات الذهنية المخيفة التي تخلخل العقل وتجعله أسيراً لأحلام اليقظة الشاردة (قسريّاً) في حالة الرسام صلادي المرتبط بعوالمه الداخلية على نحو عميق جعله صديقاً وفيّاً لذاته بقدر وفائه لمعجمه البصري الخاص الذي يشهد على خصوصيته وتفرُّده في رسوماته وتلويناته التي تتجاوز الإدراك الطبيعي للأشياء.
لكن، ورغم الكآبة الخشنة التي ألمت به، فقد اعتكف صلادي الرسم والكتابة والتدوين حتى آخر أيام ولا شك أن المتأمل في أعمال صلادي "سينساق مع قوة الإغواء والإغراء ليدرك شطحات الحياة الداخلية بضوئها السرمدي الهارب الذي يخترق جوهر الأشياء وكينونتها الاستبطانية. إننا بالفعل في مأزق عمل تشكيلي عصي ومنفلت، عمل منذور للتأمل والارتجاج والغبطة"(7).
حياته متشبتاً بعهد قطعه على نفسه ب"عدم التخلي عن الرسم حتى يفارق الحياة"، كما قال وكان لا يجد راحته سوى في الهدوء والسكون، وجلُّ إبداعاته وتصاويره نفذها في الليل، إذ كثيراً ما كان يظن -كما الرسام فان كوخVan Gogh- أن "الليل أكثر حياة وذخراً بالألوان من النهار".
سخرية القدر
عاش الرسام صلادي حياة تراجيدية ذاق فيها أنواع الفقر وضنك العيش والحاجة الممتزجة بالإقصاء والتهميش والنسيان وكان حتى حدود مطلع ثمانينيات القرن الماضي يضع رسوماته بجنبات ساحة جامع لفناء ويعرضها للبيع مضطرّاً بدراهم قليلة لسدِّ رمق العيش، ولعله من سخرية القدر أن تُباع هذه اللوحات عقب رحيله بآلاف الدولارات (ملايين الدراهم)، بل عقب حياة بسيطة قضاها فقيراً قنوعاً معتمداً على إمكانيات عيش متواضع في بيت صغير ينبت وسط حي المساكين بالداوديات في مراكش رفقة أخته حليمة التي كانت سنده ومعينه الوحيد في الحياة، من ذلك لوحة "لهدية" أو "تاراكت"L'Offrande التي بيعت عام 2015 في مزاد علني مشترك أقامته دار المزادات "ميليون" Million في باريس و"مزاد آرت" Mazad&Artفي طنجة بمبلغ قياسي تجاوز خمسة ملايين درهم وهي الأعلى سعراً في تاريخ التصوير المغربي الحديث والمعاصر. وبحكم أن أعماله الفنية أضحت محط اهتمام وإقبال الشرَّائين والجمَّاعين عقب رحيله، فقد طالها -للأسف الشديد- التزوير والتزييف والاستنساخ في غياب قوانين وحقوق التتبع Droits de suite التي تحمي بصمات الفنان وتضمن حقوقه.والعديد من لوحاته الفنية تُعرض حاليّاً بكبريات الصالات والمتاحف الفنية العالمية.
وفي سياق علاقاته الإبداعية القليلة والنادرة، يشترك الرسام صلادي مع الشاعر عبد الله زريقة في ديوان شعري موسوم ب"تفاحة المثلث" (1985)، وهو عبارة عن قراءة موجزة لمجموعة من اللوحات التي أبدعها الفنان الراحل عباس صلادي. في هذه التجربة الإبداعية المشتركة، ألقى الشاعر زريقة الضوء على رسومات صلادي متعمِّقاً في دلالاتها وإيحاءاتها التي صاغها الرسام بالسواد والبياض وما يقومان عليه من تباينات (كونتراست) تعكس صراعات الوجود وتناقضات الحياة.
أمَّا على مستوى المعارض الفية، فيُذكر أن المعهد الثقافي الفرنسي في مراكش سبق وأن نظم معرضاً أنطولوجيّاً للرسام عباس صلادي، وذلك في عام 2007 بتعاون مع جمعية شمس تانسيفت للصحة النفسية، واقتنى المعهد نماذج من لوحاته الفنية، فضلاً عن معارض فردية أخرى مماثلة أقيمت برواق المعمل "أتولييه" في الرباط (1981- 1984)، رواق نظر في الدار البيضاء (1987)، رواق بصمات بالدار البيضاء (1991)..إلخ. غير أن المعرض الفردي الذي أقامه خلال يونيو 1992 بالدار البيضاء يُعَدُّ آخر معرض للرسام عباس صلادي الذي رحل رحلته الأخيرة في مستشفى المامونية بمسقط رأسه جرَّاء معاناة حادَّة وصراع شديدمع المرض، تاركاً وراءه سجلاً بصريّاً وجماليّاً وافراً،عميقاًودالّاً يحمل سرَّ تجربته الرُّوحية المشبعة بقيم صوفية شعبية شاهدة على نبوغه وتفرُّد إبداعاته.
* فنان وناقد تشكيلي
إحالات:
-1 شاكر عبد الحميد: الفن والغرابة- مقدمات في تجليات الغريب في الفن والحياة. منشورات الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2010 (ص. 140).
-2 إدريس الخوري: كأس حياتي/ كتابات في التشكيل. منشورات اتحاد كتاب المغرب- 2000 (ص. 83).
-3 محمد الشيكَر: "عباس صلادي وخيمياء العالم"، دراسة واردة بمونوغرافيا فنية "عباس صلادي: الفن والعبقرية"- تأليف: محمد الشيكًر، ادريس كثير والمنصوري الإدريسي سيدي محمد. الترجمة باللغة الفرنسية: عبد الكريم القصري، منشورات جمعية الفكر التشكيلي- الرباط 2019 (ص. 64).
-4 دليل معرض الفنون والآداب- مراكش/ فبراير 1989.
-5 شفيق الزكَاري: قراءة في التشكيل المغربي الحديث (متابعات). الطبعة الأولى، مطبعة المتقي برينتر- المحمدية 2005 (ص. 126).
-6 الفن والغرابة../ مرجع مذكور (ص. 311).
-7 عبدالله الشيخ: أصوات الصمت- مقامات تشكيلية- الجزء الأول. الطبعة الأولى، 2013 (ص.33-38).


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.