لم يكتب لهذا الحوار التلفزيوني مع الشاعر المغربي إدريس الملياني، أن يبث، وقد شرح الشاعر الأسباب التي حالت دون ذلك، في تدوينة خاصة، نوردها كما يلي، إلى جانب نص الحوار: *** ( سجل معي هذا الحوار… حلقة في برنامج… لقناة ما… قبل أيام من إذاعتها … اليوم السبت … أخبرت أنها ألغيت .. لماذا…لأني رجوت محاوري ألا يحذف منها شيئا…وطمأنني…وطلب مني قصيدة أطول…لأن الأجوبة بنظره قصيرة…وبعدئذ..أخبرني أن إكراه الوقت القصير للبرنامح قد يستوجب الحذف أحيانا… فتوجست خيفة من أي حذف.. وطلبت .. رجوت.. ألا يحذف شيء وإذا كان لابد من الحذف .. يمكن الاستغناء عن قصيدة أو القصيدتين المسجلتين .. أو إلغاء الحلقة كاملة… وهذا ما تقرر فعلا ..بدعوى …"الخوف مني.. ومن ردة فعلي". وكم أنا سعيد جدا .. لأني .. أول مرة في حياتي أصبحت مخيفا. وفيما يلي الأجوبة كاملة … كما كانت مسجلة… تماما.. لم أحذف إلا القصيدتين والأسئلة الواضحة من أجوبتها). -1 – أولا هناك من يخطئ طريقه إلى الأدب، أو أية حرفة أخرى، وهناك من يحقق مبتغاه. في الثانوي، أذكر، أضربنا ثلاثة أشهر، رغبة في الشعبة العلمية، كنا نريد أن نكون أطباء ومهندسين، لأننا كنا تلاميذ من وسط عائلي شعبي فقير، وفرضت علينا الشعبة الأدبية، وكانت معربة، وما تعلمه جيلنا الستيني من لغات أجنبية، كان بطريقة عصامية. معظم الكتاب، كتاب جيلنا كما هو معروف، منحدرون من جغرافيات بدوية، لذلك تمنيت في إحدى الكتابات، لو بقيت في البادية، فلاحا، أو فقيها، أو راعي أغنام، أسرح وأمرح معها في جمال الطبيعة، بدلا من هذا الوعي الشقي. المصائر البشرية، تتحكم فيها عوامل كثيرة، كالوضع الاقتصادي، الذي ولد فيه الكاتب، والوسط العائلي، والتعليمي، والنفسي؛ وحتى عامل الوراثة، والبنية الجسدية، تتدخل في تحديد وتوجيه هذه المصائر والمواهب، وللناس فيما يعشقون مذاهب. 2 – المشهد الشعري، مغربا ومشرقا، لاشك، تغيرت فيه أشياء كثيرة، ومياه غزيرة جرت تحت وفوق الجسر، بل ومرت سيول وفيضانات وطوفانات، هائلة، مدمرة، لعل أهم التغيرات، تراجعات كثيرة، أهمها بنظري، تراجع الفكر والمد الثوري، والتنويري والعقلاني والعلماني، والإنساني، وطغى عليه المد والفكر الظلامي والخرافي، ومن ثم تراجع الاهتمام بقضايا الناس والشعوب، القضايا الكبرى، وحل محلها الانشغال بالقضايا الصغرى، أي الذاتية، وبالتالي، تراجع الحلم والأمل والتفاؤل والتواصل والتبادل الإبداعي والاجتماعي، لذلك ذكرت في أحد الحوارات، أن الذات الشاعرة، خاصة، أصبحت لدى السواد الأعظم من الشعراء، هي مركز الكون والعالم. وبدلا من أن تكون الحداثة الشعرية، بصيرة بما حولها، أصبحت عمياء ضريرة وفقيرة، تكاد لا ترى إلا نفسها المتضخمة الذات، ومغرقة في الشكلانية، والاعتباطية، وحداثة كما يقال معطوبة ومصابة بعلل لا تعيها ولا تشفيها. –3 – وهذه العودة الملاحظة والإيجابية، إلى كتابة القصيدة العمودية، تنبأت بها الشاعرة الفلسطينية، المنسية الآن للأسف، سلمى الخضراء الجيوسي، في مقال قرأته لها في صحيفة القدس، منذ عقود، أي تنبأت بعودة الشعر الحر إلى أصله العمودي. القصيدة العمودية استمرت مع شعراء الريادة والحداثة، ولم تنقطع، وهناك من جمع وابدع في الشعر العمودي والتفعيلي والنثري أيضا، وجمع أيضا بين هذه الأشكال الثلاثة داخل القصيدة الواحدة. لدي مقالة في كتاب عنوانها : النقد الطائفي، أرى فيها أنه لا مفاضلة ولا منازلة بين أشكال الشعر. وينبغي أن يضاف إلى الشعر وأن لا يحذف منه شيء، كالكنز الذي يغتني بالإضافة لا بالحذف أو الإلغاء. فليكتب من شاء بما شاء، وليترك للآخرين جميعا حرية الكتابة بأي شكل، والفنون جميعا، الموسيقى، التشكيل، إلخ هناك استعادة فيها واستفادة من كل أشكال الإبداع الإنساني مهما كانت موغلة في القدم. –4 – هذا النزوع نحو الرواية، أو هجرة الشعراء، خاصة، إلى الرواية، ليست بسبب أفول نجم الشعر، فالشعر ساطعة نجومه وكواكبه باستمرار الحياة والوجود والإنسان، ولكن للهجرة نحو الرواية أسبابا كثيرة، أهمها بنظري، أولا أنها أصبحت كما يقال ديوان العرب الجديد، وأهمها أيضا النقد الروائي، الأكاديمي، الذي بات يشحذ أدواته ومفاهيمه النظرية فيها، وأهمها أيضا الجوائز التي أصبحت وبالا عليها. شخصيا، لم أتجه نحو الرواية، إلا لأن هناك لدي تجارب عشتها، عبرت عن بعضها شعرا، ولكن هناك تجارب أخرى لا يمكن أن يستوعبها إلا جنس آخر. ولكن مهما اتجه الشاعر إلى أي نوع أو جنس أدبي أو فني، فهي بمثابة الكتابات الموازية، التي تحلي جيد السيدة القصيدة، ولا يتخذ عليها ضرة، بل يبقى شاعرا وفيا للشعر مدى العمر. –5 – ما جدوى الأدب وهل هو ترف فكري؟ لاشك أن الكتابة لعبة، مجانية، لكنها لعبة جادة، وجمالية ونضالية، وضرورية، كاللغة، والأدب، والفنون جميعا، ضرورية للتواصل الإنساني وتبادل الخيرات الطبيعية والإلهية والإنسانية، ولإشباع وإرواء الرغبات والحاجات، المتزايدة، ولتحرير أيضا النفوس، وتطهير الأرواح والعقول. الأدب والفنون جميعا، لها علاقة بالعمل، والنشاط الإنساني اليومي، على سبيل المثال، أغاني الرعاة، وأغاني البحارة، وأغاني الامهات لهدهدة الأطفال، وأغاني العذارى، والأعراس والمواسم والفصول جميعا، فالجسد وحده هيكل عظمي عار وفارغ وما جدواه بلا فنون ولا آداب. –6 – من المعلوم ان الجوائز رمزية، وتقديرية، ولكنها لا تصنع مبدعا ولا إبداعا، ولا تضيف إليه شيئا، غير الاحترام والتقدير والشعور بالسعادة بهذا الإنعام والإكرام. الاعتراف حق من حقوق الكتاب والشعراء والمبدعين والمبدعات جميعا، على الجميع، دولة ومجتمعا، مدنيا وسياسيا. ولكن الجوائز، المالية والجمالية والنضالية، ينبغي أن تتحول من هذا الاحترام إلى الاهتمام الواسع، بالإبداع نفسه، رسميا وحكوميا، وشعبيا وحزبيا، وتعليميا وإعلاميا، وتربويا ويوميا، حتى يصبح الإبداع حاجة يومية، يعني كالماء والهواء. والإبداع هو ما يتبقى عبر الأزمان من الإنسان. ولذلك ينبغي أن تحتل كل أنواع الإبداع المقام الأول والرفيع. –7 – اتحاد الكتاب كما ذكرت في بيان انسحاب، هناك اتحادان، هناك اتحاد تحاب الكتاب، وللأسف الشديد، تحول إلى اتحاد أحقاد الكتاب. أذكر أن كاتبا كبيرا صديقا نبهني إلى الانهيارات الهائلة التي يشهدها العالم كله، فاستغرب مني لماذا لا أقبل انهيار اتحاد كتاب المغرب؟ كثيرا ما نفتخر ونقول بأن اتحاد الكتاب قلعتنا الأخيرة، ومنظمتنا العتيدة، في السياسة، يمكن أن يكون مقبولا الانهيار، ولكن في الثقافة والإبداع، يتحول الانهيار نفسه إلى انتصار، لقيم الإبداع بالجمال والنضال الإنساني. اتحاد تحاب الكتاب، رغم ما فيه من أحقاد، فهو الرائد والقائد والمؤسس لمغرب الأدب والثقافة والفكر والفن وكل أنواع الإبداع الجمالي والنضالي. –8 – أولا إذا كان المتلقي هجر الشعر، حبذا لو هاجر إلى مجالات أخرى، أجدى وأنفع للتقدم والتطور، كالعلوم، على سبيل المثال، ولكنه للأسف، هاجر إلى مجالات، قد لا تضر ولا تنفع، أو قد تنفعه ولكنها لا تنفع مجتمعه. مرة سئل الشاعر الكبير محمود درويش عن تراجع الشعر، فتمنى تراجع الشعر، إذا كان ذلك لصالح تقدم العلوم، وقال جملته الشعرية الشهيرة : يا أيها الشعراء لا تتكاثروا. والمهرجانات الشعرية، مغربا ومشرقا وحتى عالميا قليلة جدا، وإذا كانت فاشلة جماهيريا كما تفضلت، فهو فشل القائمين عليها والمنظمين لها من أجل التكسب والارتزاق. ولكن هناك مهرجانات كثيرة ناجحة لاتحاد كتاب المغرب ولبيت الشعر ولداري الشعر بتطوان ومراكش، ومهرجانات لجمعيات ثقافية كثيرة تتلاقى وتتلاقح فيها التجارب والأشكال والأجيال والآمال جميعا. –9 – القصيدة العمودية أخي العزيز لها تاريخ عصور طويلة، وتراث قرون مديدة، وكنز ثمين، وهي ديوان العرب، يوم لم يكن للعرب علم غير الشعر، كما قال أحد اللغويين. ولا مفاضلة ولا منازلة كما قلت مرارا وفي أكثر من مقال ومقام، بين أشكال الشعر جميعا، العمودي والتفعيلي وقصيدة النثر. وأنا شخصيا، أترك للقصيدة حرية اختيار زيها ولباسها الخاص، العمودي والتفعيلي وقصيدة النثر. ولدي تنويع حتى في استعمال أوزان البحور الصافية، الوحيدة التفعيلة، أو البحور الممزوجة التفاعيل. –10 – يبدو لي النقد، خاصة العلمي الأكاديمي، مشغولا بشحذ وتجريب مفاهيمه وأدواته النقدية النظرية المتغيرة باستمرار، ولكن النقد العاشق، قائم بواجبه، في الاحتفال بجمال الإبداع. ولكني لا أحب من النقود، النقد الطائفي، كما سميته في إحدى المقالات، سواء لدى الشعراء أم النقاد، النقد الطائفي، بمعنى الذي يعلي من شعر وشكل طائفة، ويحط من شكل وشعر طائفة أخرى. وهناك، كما هو معلوم، علل كثيرة، سائدة في الساحة الشعرية، لا يزال النقد عاجزا عن شفائها، كما يقول مجنون ليلى: يقولون ليلى بالعراق مريضة، فيا ليتني كنت الطبيب المداويا. –11 – نزار قباني شاعر كبير، جمع الحسن من أطرافه، جمع بين التراثي والحداثي، صالح القديم والجديد، العمودي والتقليدي، والجديد من الشعر الحر والتفعيلي وقصيدة النثر. وربما كان نثره أحلى وأجمل من شعره. ونزار له ربما قدرة أكثر من غيره من الشعراء الكبار على البقاء وعلى الخلود، إذا بقيت حياة على هذه الارض. ذلك، لغنائه وثرائه الإبداعي الجميل، رغم الاختلاف معه حول بعض رؤاه الفكرية، عن المرأة على سبيل الجمال والمثال.