إدريس الملياني القصائد كلها تنتمي لجنس شعري وبشري واحد لا مفاضلة فيه بين القصيد العمودي وقصيدة النثر والتفعيلة والمزوغية والزجلية إلا بالمغازلة المتخلية عن المنازلة والمتحلية فقط بجماليات شعريتها وبشريتها وسيرتها الذاتية الخاصة، مثلما لا مفاضلة أو منازلة بين الأمم والشعوب وثقافاتها ولغاتها المتصالحة والمتلاقحة والمتناكحة الأحياء والأجناس جميعا إنسانا وحيوانا ونباتا وجمادا وإبداعا وإمتاعا وإشباعا لشتى الحاجات المادية الروحية والروحية المادية المتجددة والمتزايدة باستمرار الحياة والوجود. ومع ذلك مازال هذا «الجنس» يفرق بين القصيد العمودي وقصيدة النثر والتفعيلة كالدجاج البلدي والرومي والكروازي، لا لشيء أو شعر إلا ليسود ويحكم ويحتكر ويحتقر خم الدجاج الشعري باسم حداثته غير المعطوبة فقط أو المستلبة فحسب والمسلوبة أيضا، بل العنصرية وحتى التجارية المميزة بين عناصر الشعرية والقصيدة الواحدة العمودية والتفعيلية و»قصيدة النثر» التي يريد لها بعض كتابها أن تكون وحدها سيدة الشعر والنثر و«يتيمة الدهر»، وأن تقتل كل أربابها وربيباتها وضراتها، وأن تحتل كل المنابر والمهرجانات وبيوت الشعر وكأنهم وحدهم أحدث من في الكون ومن يتحدث معهم ويقرأ لهم يخالهم يساريين ثوريين فوضويين وعقلانيين علمانيين وسورياليين ورؤياوييين إلخ، بينما هم عكس ما يكتبون تماما -مثلا- عن نكهة السيجارة دون أن يدخنوها وعن لذة الخمر التي تعجبهم منها، خاصة كلمة النبيذ اللذيذ، رغم أنهم لم يذوقوها ولكنهم ينتظرون أن يكرعوها في جنة النعيم من نهرها، وأن يمحوا صداع خمارها بلبنها خالدين في العسل والقبل مع حور العين، يعني بصريح الإشارة وصريخ العبارة أنهم «فقها» أو فقهاء الكلام «لا الظلام»، ولكنهم أبعد من أرنبة الأنف لا ينظرون إلى حوريات الحداثة السيرينات الأسيرات إلا نادرا أو قليلا ولماما أو حلالا وحراما. ما معنى أن يصدر شاعر عزيز مجلة خاصة بقصيدة النثر؟ وما مغزى أن يقيم آخر أو آخرون مهرجانا خاصا بقصيدة النثر؟ كل ذلك حق لهم ولكن لا يراد به سوى الباطل، المسكوت عنه، رغم المثل العربي القائل : «إذا أخطأت فخطئني وإن أصبت فصوبني وإن أسأت فسوئ علي». هل يمكن أن يعثر القارئ على خطأ نحوي أو إملائي مثلا في قصيدة أي شاعر من رواد الشعر «التفعيلي»؟ من المستحيل. ولدى شعراء قصيدة النثر وشاعراتها أيضا، عيانا وسماعا، ليس بالمستحيل تماما. وفي حوارات وتنظيرات ومحاضرات الشعراء المزيد لمن يريد اطلاعا على مدى التواضع والتسامح والصدق ونكران الذات أو التبجح والتشدق والادعاء وتضخيم الأنا وتعظيم الذات «البارانويا» إلى حد بعيد وبليد أحيانا. نعم، مثل هذا الكلام، أو الملام، ليس حكما عاما على كل القبيلة والعشيرة، بل على فئة صغيرة وقليلة، غلبت فئات كثيرة من فرسان الظل والشعراء الحقيقيين الصادقين مع أنفسهم وجنسهم البشري والشعري وكافة الشاعرين والناثرين وعموم المبدعين الرائعين الممتعين والمستمتعين بكل أنواع الإبداع الإنساني، الذين لا يكنون ولا يعلنون ولا يشنون حروبا طائفية لا باردة ولا ساخنة ولا صغيرة ولا كبيرة، لا على قصيدة النثر ولا على كل أشكال القول الشعري ولغات الإبداع المتلاقحة التجارب والأجيال المتصالحة الآمال. كذلك القصيدة، واحدة، قلت هذا في حوارات كثيرة، كالكنز يغتني إذا أضفنا إليه قطعا ذهبية جديدة، ولكنه لابد أن يفتقر إن حذفنا منه متعا مبدعة وبدعا ممتعة قديمة أو حديثة. الأوزان والإيقاعات كلها داخلية كانت أم خارجية، والقوافي كلها مطلقة كانت أم مقيدة، وحروف الروي ساكنة كانت أم متحركة، وأساليب وألاعيب البلاغات واللغات كلها محسنات فاتنات الجمال. فليكن «كل قرد في عين أمه غزال» ولتكن قصيدة النثر حسناء الحياة الدنيا والأخرى وملكة جمال الكون والعالم، لكن، على أن لا ينقص لسان طويل من جمال أية سيدة وقصيدة غيرها ومن قدرها وحسنها وشأنها ووزنها مهما تكن شعبية تقليدية عمودية أو عامية أو عروبية أو رومية أو مزوغية أو زجلية أو تفعيلية و«عار عليك إذا فعلت عظيم»! من يفاضل أو يميز في الجنس الشعري بين قصيدة النثر والتفعيلة والعمود الشعري كمن يفاضل أو يميز في خم الدجاج بين البلدي والرومي والكروازي، وفي الدم البشري بين فصائل أو قبائل شتى وشعوب ما وجدت إلا لكي تتعارف دون حروب مهما اختلفت ألوانا وأديانا، وحتى تتحاور وتتجاور وتتزاور وتتآزر فيما بينها وإن تعددت وتنوعت ألسنة وأطعمة وأشربة وقصورا وأكواخا أو خلاء وعراء. وكذلك في سائر الأحياء، وكافة الموجودات، وحتى آخر الأموات والكائنات، لا ينبغي مدح هذا ولا ذم تلك، ولا يجب الميز العنصري ولا الفرز الطائفي ولا الغمز من قناة أي شخص ولا لمز أو همز أي نص، ولا النظر إليه شزرا، أو الطعن فيه أو الكيل له والنيل منه، بأية مثلبة ومسبة أو ريبة وغيبة، في الوجه أو الظهر، تماما كالقذف والعنف والتطرف والإرهاب الظلامي والكلامي الممارس على الجنس البشري والشعري وما إلى ذلك من أشكال الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان والحيوان وكل ألوان الحياة وأصناف الأطعمة والأشربة والألبسة والمتع المبدعة والبدع الممتعة لكل العيون والبطون، وما تحتها وما فوقها، وكل نفس بما أكلت وشربت وكتبت رهينة. فليشرب إذن من شاء قصيدة النثر شايا أو شامبانيا! وليركب من شاء العمود الشعري خازوقا أو براقا، وأنت مالك؟ هو حر وأنت حر، وما تفرقت الرؤوس إلا لترتاح، وليشرب من أراد التفعيلة والقافية والروي حتى يفطس أو ينفق أو يشرق أو يغرق أو يختنق بها وأنت مالك؟ «دع عنك لومي فإن اللوم» إيذاء، ودع الأعراب «لا أبا لك»! ولكل شاعر ورشته ومطبخه ولا جدال كما يقال في الأذواق والألوان وكذلك الشعر فليكتب بميزان الذهب أو بعينك ميزانك سيان! شاعر مغربي