حلت في الأسبوع المنصرم ذكرى وفاة المفكر الاقتصادي والمناضل التقدمي الراحل عبد العزيز بلال، وأقيمت عديد أنشطة ولقاءات، كما نشرت كتابات ومقالات بالمناسبة، وكل هذه المبادرات أجمعت هذه السنة على حاجة مغرب اليوم إلى استحضار فكر بلال وتجديد قراءة اجتهاداته في الاقتصاد، وفِي تحليل واقع بلادنا، وفِي استشراف مداخل التنمية. النقاش الذي كان قد انطلق في المغرب حول صياغة نموذج تنموي جديد، ثم ظروف أزمة “كوفيد-19” وما سيطرح بعدها من تحديات، كل ذلك يحث اليوم على دعوة فكر عزيز بلال، وقراءة منجزه العلمي. لم يكن بلال متكلسا أو جامدا ضمن قوالب إيديولوجية محنطة، ولكنه كان يستند إلى منهجية تحليل علمية ودينامية لصياغة قراءته لواقعنا الوطني وللمحيط الإقليمي والدولي، ولبلورة مداخل تحقيق التقدم والسيادة والتنمية. وفِي هذا الإطار، كان قد انتبه في زمانه إلى أهمية العوامل غير الاقتصادية في التنمية، وتحدث عن مقومات وشروط سياسة تصنيعية حقيقية مفككا مرتكزات وأهداف التصنيع من منطلق خلفية استعمارية استيطانية، كما كان قد اهتم بالأفق المغاربي والإفريقي للمغرب، وانشغل بالقضايا العربية، وخصوصا القضية الفلسطينية، وانتقد شروط العلاقة بين المملكة والسوق الأوروبية المشتركة آنذاك…، وهذه كلها قضايا كم تبدو راهنية اليوم، وكم يبدو عزيز بلال سابقا لزماننا هذا. لقد نبهنا زمن كورونا الحالي إلى أهمية تحقيق الأمن الغذائي والاكتفاء الذاتي الوطني في القطاعات الأساسية، ونبهنا إلى ضرورة امتلاك سياسة تصنيعية وطنية حقيقية، ونبهنا إلى الاهتمام بالجوانب الثقافية والفكرية ومحاربة الأمية وتحسين شروط العيش، أي العوامل غير الاقتصادية، ثم تجدد التنبيه بخصوص أهمية التعاون الإفريقي وضرورة البناء المغاربي، ومراجعة العلاقات مع الشركاء الدوليين واتفاقيات التبادل الحر معهم، أي أن تحديات اليوم والغد تجرنا بقوة لاستحضار فكر عزيز بلال، وخصوصا أفق النظر لديه ومنهجية التحليل والقراءة الشمولية والالتقائية للواقع ومختلف معادلاته. التفكير في عزيز بلال اليوم يفرض أيضا التأمل في سيرته، وفِي تعدد انشغالاته ومجالات فعله. عزيز بلال، وفضلا على أنه المفكر الاقتصادي المجتهد، فهو كذلك، وفِي نفس الوقت، المناضل الحزبي والنقابي الملتزم. لم يختر بلال تحقيق منافع ذاتية لنفسه، وكان بإمكانه ذلك، ولم يختر الإنزواء مع كتبه ودراساته في برج عاجي يطل من أعلى على وطنه وشعبه، وإنما هو اختار أن يكون وسط شعبه ومع الطبقات الفقيرة، وكان يواظب على المشاركة في تظاهرات العمال ومسيرات فاتح ماي، كما كان يتحمل مسؤولية قيادية في حزبه ومهام قطاعية وميدانية يجول لإنجازها كل مناطق البلاد، بما في ذلك خلال سنوات العمل السياسي السري، وكان قريبا من طلبته وحاضرا وسطهم ومعهم، وأيضا ضمن نضالات نقابة التعليم العالي، وفِي أنشطة جمعية الاقتصاديين، ودخل العمل الانتخابي، وحضي بثقة الناس بالدار البيضاء…، وفِي كل هذه الواجهات، التي كان يعتبرها نضالية بالأساس، بقي الرجل هو نفسه، ملتزما بقناعاته السياسية الوطنية والتقدمية، ومخلصا لتنظيمه الحزبي، وحريصا على ثوابت الموقف والسلوك. يجمع من عرفوه على أن عزيز بلال كان موضوعيا في التحليل ودراسة الوقائع ولم يكن دوغمائيا، وكان قوي الالتزام بالمواقف والقناعات ولم يكن يتساهل بشأنها، وكان نزيها وصادقا تجاه شعبه ووطنه، كما أنه تميز بهدوء عميق، وقدرة خارقة على الإنصات للآخرين. إن كامل هذه السيرة الحياتية والنضالية تستحق اليوم أن تعرف كدروس لنخبنا الحالية ولمفكرينا ومثقفينا، وذلك لاستحضارها وتأملها، وللتأكيد على حاجة بلادنا إلى مثقفين ومفكرين ومناضلين بمثل هذا القدر من الالتزام والمصداقية والكفاءة، وأيضا الانخراط في قضايا الوطن والناس. في هذا الأسبوع الذي يخلد ذكرى رحيل عزيز بلال، نجدد التذكير براهنية فكره، وبحاجة بلادنا إلى تأمل اجتهاداته وسيرته. لروح بلال السكينة و… طيب السلام. محتات الرقاص